03-أكتوبر-2023
عندما نساوي أنفسنا بعبوات الفاصولي

(Getty) سيفقد الناس أنفسهم ويصبحون سلعًا

في العام 1997 نشر الكاتب ومستشار الأعمال الأمريكي توم بيترز مقالةً في مجلة "فاست كومباني" للأعمال شكّلت حجر الأساس ونقطة الانطلاق لآخر صيحات "الريادة" التي نشهدها اليوم، إذ كتب: "بغض النظر عن العمر، وبغض النظر عن المنصب، وبغض النظر عن العمل الذي نعمل فيه، نحتاج جميعًا إلى فهم أهمية العلامة التجارية. نحن رؤساء تنفيذيون لشركاتنا الخاصة: شركة أنا المسجّلة. ولكي تحجز مكانك في مجال الأعمال التجارية اليوم، فإن مهمتك الأكثر أهمية هي أن تكون كبير قسم التسويق في العلامة التجارية التي تسمى أنت"، مطلقًا بذلك ما صار يُعرف بـ "تسويق العلامة الشخصية".

على الرغم من أن هذا المفهوم له جذوره في التسعينيات من القرن الماضي، إلا أنه في ذلك الوقت، تم نقله في الغالب إلى الدوائر التنفيذية وبين نجوم الفن والرياضة وعموم المشاهير من حين لآخر. لكن مع الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، تحولت العلامة التجارية الشخصية من فكرة إدارية متخصصة في بعض المناهج التسويقية إلى ظاهرة اجتماعي تطغى على خطاب "رياديي الإنترنت" وبائعي "كورسات" التسويق التحفيزيين الذين يعرفون القليل عن العلامة التجارية، وأقل عن الإنسانية.

لم نعد نؤدي وظائفنا، بل كنا ننظم تجاربنا. لم نكن نحترف في بناء العلاقات المهنية، بل مؤثرون يجتذبون المتابعين للحصول على الإعجابات وإعادة التغريدات وتحويل من هم ورائها إلى "عملاء محتملين"

بحثٌ بسيط على جوجل عن مصطلح "العلامة التجارية الشخصية" يقود إلى آلاف النتائج حول ضرورة تكوين هذه العلامة وكيفية تحقيق ذلك، من المدونات الشخصية، منشورات لينكد إن (بالطبع)، مواقع الأكاديميات (التي تحمل كلمة الأكاديمية في اسمها فقط وليس منهجيتها)، وحتى بعض الشركات المتخصصة ببناء هذا النوع من العلامات.

وفجأة، لم نعد نؤدي وظائفنا، بل كنا ننظم تجاربنا. لم نكن نحترف في بناء العلاقات المهنية، بل مؤثرون يجتذبون المتابعين للحصول على الإعجابات وإعادة التغريدات وتحويل من هم ورائها إلى "عملاء محتملين". لم نعد حتى هواةً بعد الآن، ولكننا "مقدّمي خدمات" يبحثون عن دخل إضافي وتأثير اجتماعي في اقتصاد الأعمال المؤقتة.

ولكن هناك مشكلة في هذه العقلية، كما تقول المعلمة ومصممة العلامة التجارية الأميركية ديبي ميلمان. وهي أن مصطلح "العلامة التجارية الشخصية" مصطلحٌ متناقض. لا يمكنك أن تكون علامة تجارية وتعيش حياتك كشخص لأن الاثنين لهما أهداف مختلفة. ومحاولة إدخال نفسك في هذه الحالة المتناقضة يمكن أن تجعل النجاح أو الحياة الجيدة - بأي شكل من الأشكال قد تتخذها بالنسبة لك - صعبة التحقيق.

والأهم من ذلك، أن معظمنا كأشخاص، في الواقع، مملّون واعتياديون؛ وهي الصفات ذاتها التي تحاول العلامات التجارية ألّا تقع بفخ الاتّسام بها منذ لحظة ولادتها، إذ قد يعني ذلك بداية نهايتها.

ولادة مفهوم العلامة التجارية

ربما يعود أقدم أشكال تسويق العلامات التجارية إلى عام 2700 قبل الميلاد. إذ استخدم المصريون القدماء مكاوي برونزية لوصم مواشيهم بالرموز. تمثل هذه الرموز ملكية الحيوان في حالة فقدانه أو سرقته. وكلما تقدمنا عبر التاريخ بعد ذلك، لاحظنا انتشار العلامات التجارية إلى ما هو أبعد من الأغنام والأبقار. إذ وسم التجار اليونانيون القدماء أوعية النبيذ بأختامٍ ليس فقط للملكية ولكن أيضًا للجودة والسمعة. وبعد أن اخترعت سلالة سونغ في الصين الطباعة بالقوالب، سرعان ما تبعتها اللافتات والإعلانات والتغليف الخاصّان بالعلامة التجارية.

لكن الأمور بدأت تأخذ الشكل الذي نعرفه اليوم في القرن الثامن عشر مع ظهور العلامات التجارية المحمية فكريًا والثورة الصناعية. وبعد فترة وجيزة، أصبحت شعارات الشركات مثلًا وسيلة لتمييز سلعة واسعة الانتشار يتم إنتاجها بكميات كبيرة من قبل عدة منتجين. ومن ثم ظهرت وكالات الإعلان لبيع الاهتمام والولاء لعملائها. وقد وفرت التقنيات الحديثة طرقًا جديدة دائمًا لتوصيل الرسائل المتعلقة بالعلامة التجارية.

اليوم، أصبحت العلامات التجارية جزءًا لا مفر منه في مختلف جوانب الحياة. إذ يتم تحديد الأحذية والأرز والموسيقى والفرق الرياضية والسفر عبر الفضاء من خلال العلامات التجارية. وحتى المياه، وهي واحدة من أكثر الموارد وفرة على هذا الكوكب، يتم توزيعها دوليًا من خلال أكثر من 100 علامة تجارية مختلفة، على الرغم من أنها مملوكة من قبل عدد قليل من الشركات فقط.

غرض العلامات التجارية

يشير هذا التاريخ إلى الهدف الجوهري لأي علامة تجارية: خلق معنى مُصنَّع حول المنتجات أو الممارسات أو المعتقدات أو المفاهيم. ثم يستخدم الناس تلك العلامات التجارية للإشارة إلى ولائهم لهذا المعنى، أو ابتعادهم عنه. وينطبق هذا على الانتماء السياسي ("أمة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة")، كما ينطبق على صنف الشوكولا الذي يفضله الشخص ("إنت مش إنت وانت جعان").

العلامات التجارية لا تنمو على الأشجار. ليس لديها أي حياة داخلية. ليس لديها وعي، ولا تنزف ولا تسعد. نحن نصنعها. نحن نخلق سلسلة من الرموز، والشعارات والمعتقدات، والسلوكيات، كلها مدمجة في هذا الشيء الذي نسميه بعد ذلك العلامة التجارية.

يقول يوفال هراري في كتابه "العاقل": "اخترع الناس قصصًا عن آلهة عظيمة، وأوطان، وشركات مساهمة، لتوفير الروابط الاجتماعية الضرورية، في حين كان التطور البشري يبني شبكات مذهلة من التعاون الجماعي كما لم يحدث من قبل على وجه الأرض. كانت الشبكات التعاونية عبارة عن أنظمة مُتخيَلة، لم تكن غريزية، ولكن قامت على الإيمان بأساطير مشتركة، لأن الإيمان بنظام معين يُساعدنا على التعاون بفعالية وتشكيل مجتمعات أفضل. فالوطن هو المجتمع المُتخيَل للدولة، وقبيلة المستهلكين هي المجتمع المُتخيَل للسوق. وشركة بيجو للسيارات هي خيال قانوني اكتسب الشخصية الاعتبارية كشركة ذات مسئولية محدودة، وكذلك شريعة حمورابي هي من أجل النظام المُتخيَل، مثلها مثل إعلان الاستقلال الأمريكي".

الهدف الجوهري لأي علامة تجارية: خلق معنى مُصنَّع حول المنتجات أو الممارسات أو المعتقدات أو المفاهيم. ثم يستخدم الناس تلك العلامات التجارية للإشارة إلى ولائهم لهذا المعنى، أو ابتعادهم عنه

ولأن العلامات التجارية غير موجودة في الطبيعة، فإننا نبني هذا المعنى من خلال سمتين يجب أن تمتلكهما أي علامة تجارية: الإجماع والاتساق.

الإجماع هنا لا يعني أن الجميع يشعرون بنفس الطريقة تجاه العلامة التجارية. إذ يمتاز مُحبي هواتف آيفون وسامسونج على سبيل المثال بتضاد المشاعر، كذلك "البرشلونيين والمدريديين"، ولا تنتهِ الأمثلة. إذ تقوم مجموعات من الأشخاص بترسيخ معنىً لعلاماتهم التجارية المفضلة كوسيلة للإشارة إلى "الآخرين بشكل غير لفظي من هم، وما يؤمنون به، وما هو مهم بالنسبة لهم". وعليه تم تصميم الهلال والنجمة الإسلاميين، الصليب المسيحي، نجمة داود اليهودية، وعجلة دارما البوذية، من قبل مجتمعاتهم كرموز للهوية والتماسك الاجتماعي والقيم المشتركة.

ثم هناك الاتساق. إذا كانت العلامة التجارية تحمل معنى واحدًا اليوم ومعنى مختلفا تمامًا غدًا، فلن يتمكن الناس من الحفاظ على الشعور بالتماسك والهوية المشتركة التي جذبتهم إلى تلك العلامة التجارية في المقام الأول، فلن يستطيع مُحب الآيفون المحافظة على إعجابه بالهاتف لو صار يعمل بنظام تشغيل أندرويد.

ولهذا السبب تمتلك العديد من الشركات كتيبات للعلامات التجارية وتنفق الملايين لحماية بنية علامتها التجارية. ولهذا السبب لا تتسامح العقيدة الدينية مع المعتقدات التي تعتبرها هرطقة، ولهذا السبب غالبًا ما يؤدي الصراع في حزب سياسي إلى الانشقاقات.

سمات ليست بشرية

هذه السمات تجعل العلامات التجارية مفيدةً للشركات والأحزاب السياسية ومربي الماشية المصريين القدماء، لكنها خانقة للناس، تجردهم من كونهم بشرًا.

وكما كتبت ديبي ميلمان في صحيفة نيويورك تايمز: "لكن لكي تكون علامة تجارية، يجب أن تنسف كل السمات الإنسانية التي تجعلك إنسانًا، وتصبح هذا الكيان المُصنّع. وكل الأشياء الرائعة في كوننا بشرًا، مثل تغيير أفكارنا، والفوضى، وعدم الاتساق، كل هذه الأشياء هي بعينها الأشياء التي تحاول العلامات التجارية تفاديها".

بينما يمكنك محاولة محاكاة الصفات الإيجابية للعلامة التجارية، فالحقيقة هي أن قواعد تصميمها لم توضع مع وضعك كإنسان في الاعتبار. فالعلامات التجارية هي إبداعات ثابتة، بينما يجب أن تطور حياتك ومسيرتك المهنية كإنسان بشكلٍ ديناميكي. والعلامات التجارية تسمح لجموع المُلتَمّين حولها بإملاء قيمها ومعناها، بينما يجب عليك اكتشاف كليهما بنفسك. وبينما تسعى العلامات التجارية إلى تحقيق الاتساق من خلال إعادة التوجيه لتتناسب مع توقعات "المستهلكين" وملء حاجةٍ في "السوق"، يجب أن يكون لديك مساحة للنمو والتطور دون الشعور بالاحتيال على الذات.

تشكل العلامات التجارية نفسها وفقًا لما يريد الآخرون سماعه. العلامة التجارية هي سياسي أو مدير تنفيذي يرتدي بدلةً وربطة عنق بأسنان ناصعة البياض تحسب العلاقات كعائدٍ على الاستثمار. تعيش العلامة التجارية في خوف دائم من اكتشافها، أو أن يراها الآخرون على حقيقتها أو ما يعرفوا ما لا يجدر بهم معرفنه. الخوف والتظاهر يقتلان العقول. فالخوف هو ما يحوّل الزملاء الطيبين إلى مدراء أجوافٍ ميّتين يهرب منهم موظفوهم، إلا أنه لا مهرب عندما تكون أنت المؤسسة.

التمادي في تطبيق معايير "العلامة التجارية الشخصية" يعني تكريس الهوية لها. المشاعر الجديدة لن تُستكشف، المخاوف والصراعات الإنسانية ستُهمل أمام الولاء الشخصي للعلامة التجارية الشخصية، وستتم رؤية المساعي الحياتي من خلال عدسة تسويقية بدلًا من ملاحقة قيمتها الجوهرية. وعلى عكس ما يدعو له "خبراء العلامة التجارية الشخصية" وعن ضرورتها "للتميز" في الفضاء الرقمي، كل ذلك يمكن أن يؤدي إلى نتائج عكسية على الإحساس بالأصالة.

وكما وجدت دراسة أجرتها باحثة علم النفس آنا سوتون في جامعة وايكاتو النيوزلندية، فإن الشعور بالأصالة يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالرفاهية. ولكن لتحقيق ذلك، يجب أن تقابل نفسك كما أنت اليوم، وليس كما كنت قبل 10 سنوات، عندما استقرّيت على علامتك التجارية الشخصية.

لقد كان هناك دائمًا نوعًا من عدم الارتياح إزاء فكرة إمكانية "تغليف" البشر، وكثيرًا ما تتعرض العلامات التجارية الشخصية لانتقادات شديدة لكونها تصويرًا مصطنعًا لأشخاص بالغي الانغماس في ذواتهم. في عام 2012، سخرت صحيفة The Onion الساخرة على الإنترنت من هذا الاتجاه بعنوان "أنا علامة تجارية، كما يقول رجل مثير للشفقة"، ومنذ بضعة أشهر، تبعتها شبكة الحدود بعنوان "بيرسونال براندينغ كوتش يتحدث عن فرص ثريدز الكامنة في نقل متابعيك الخمسة نفسهم إلى مكانٍ جديد" عند إطلاق ميتا تطبيقها الأخير الذي شهد هجرةً جماعية وأفل نجمه اليوم.

أما على صعيد أكثر جدية، من المثير للقلق أن الشكل الذي تتخذه الرأسمالية والثقافة الاستهلاكية اليوم تتسق تمامًا مع ما كتبه كارل ماركس نهاية القرن التاسع عشر. إذ توقع أن المنعطف الأخير لمسمار الرأسمالي سيأتي عندما يفقد الناس أنفسهم في نهاية المطاف ويصبحون سلعًا للبيع.