08-سبتمبر-2023
رونالدو وبنزيما في فرق سعودية، والسعودية أيضًا هي الأكثر تأثيرًا في لعبة الغولف (الغارديان)

يشهد الصحفيون الرياضيون واحدًا من تلك المواسم الانتقالية التي لا يشهدون مثيلها في مسيرتهم سوى مرتين أو ثلاث، ففي ظل الانقلابات المتوالية في إفريقيا، والاغتيالات في روسيا، وحرب جديدة مرتقبة في سوريا والعراق، وتغيير خارطة التحالفات الإقليمية في الشرق الأوسط، وغيرها من الأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية الكبرى، يستطيع خبرٌ رياضيٌّ ما، كل يوم، أن يتسلل إلى قوائم الأكثر قراءة ومشاهدة وأن يحجز مكانه على "جوجل تريندز".

وإذا بدا تتويج الأرجنتين بكأس العالم الذي طال انتظاره بقيادة ليونيل ميسي، وانتقال منافسه الأشرس إلى نادي النصر السعودي، في صفقة مدوية نهاية العام الفائت؛ بمثابة سيناريو حلقة أخيرة لمسلسل شهد ما شهد من الإثارة والمشاعر، يبدو أن موسم الانتقالات الصيفي الجاري هو الحلقات الأولى من الموسم الجديد من المسلسل، بمُخرجيه وكُتّابه الجدُد.

رحل ميسي ورفاقه القدامى إلى الولايات المتحدة، بينما توجّه عدد من ألمع نجوم الكرة شرقًا للحاق برونالدو، من نغولو كانتي إلى ساديو ماني ورياض محرز وكريم بنزيما، وحتى نيمار الذي حاز امتيازاتٍ ملكية من الهلال، بينما لا يزال الصحفي الرياضي يسابق للحصول على سبق حول مستقبل اللاعب المصري محمد صلاح، وهل سيوقّع لاتحاد جدة أم يجدد عقده مع ليفربول.

يشهد الإعلام الغربي حملةً تعيد إلى الأذهان ما حصل عند استضافة قطر نهائيات كأس العالم العام الماضي، إذ عاد مصطلح "الغسيل الرياضي" ليتصدر المشهد الإعلامي

كان ليغدو هذا موسم انتقالاتٍ تقليدي يشهد مفاجأة أو اثنتين لولا عاملٌ واحد قلب الموازين وحرّك مياه اللعبة التي ركدت منذ كورونا؛ المملكة العربية السعودية.

وفي ظل انهماك الصحفي الرياضي العربي، أو المقيم في المنطقة العربية، في الحصول على الحصريات وتغطية ما يمكن تغطيته بفضل القرب الجغرافي لمركز الأحداث هذا الموسم، هناك صحفيٌّ آخر منهمك في "التعرية" في "تغطيته" للتحركات السعودية، وفقط السعودية، في موسم الانتقالات.

يشهد الإعلام الغربي (البريطاني في المقام الأول ويليه الأمريكي ثم الأوروبي) حملةً تعيد إلى الأذهان ما حصل عند استضافة قطر نهائيات كأس العالم العام الماضي، إذ عاد مصطلح "الغسيل الرياضي" ليتصدر المشهد الإعلامي -وكذلك معدلات البحث- والذي يعني محاولة دولةٍ ما تمويل الأحداث الرياضية ورعايتها وتقديمها بشكلٍ لامع للتغطية على انتهاكات وجرائم في قطاعاتٍ أخرى.

وكما بدأت الغارديان الحملة العام الماضي بتقريرها المتعلق بوفاة 6500 عامل في قطر (الذي عدّلت عنوانه وبيّنت "اللغط" فيه)، أطلقت شرارة الحملة الحالية ضد السعودية من خلال تقريرها الذي عنونته "رُفع الستار: إنفاق السعودية البالغ 6 مليارات دولار على الغسيل الرياضي"، وفيه ذكرت الصحيفة البريطانية أن جماعات حقوق الإنسان، بما في ذلك منظمات جرانت ليبرتي، والعفو الدولية، وهيومن رايتس ووتش، تصف هذا الإنفاق بأنه "غسل رياضي" يهدف إلى صرف الانتباه عن السجل السيئ للبلاد في مجال حقوق الإنسان.

يمكن لجوجل أن يعرض آلاف النتائج باللغة الإنجليزية عند البحث عن عبارتي "الغسيل الرياضي" و"السعودية"، وإن تم تحديد عرض النتائج منذ بداية هذا العام فقط. كما يمكن العثور على بعض النتائج باللغة العربية عن المواقع والمنظمات التي يُشاد بإجادتها ترجمة ما يُنشر باللغة الإنجليزية وإعادة تداوله.

تتراوح هذه النتائج بين تحقيقاتٍ تكشف حجم الإنفاق إلى كشفٍ لتفاصيل "الخطة الكبرى" التي تعتزم السعودية تنفيذها باستخدام الغسيل الرياضي، ويصل بعضها حد مطالبة الاتحاد الإنجليزي لكرة القدم بمنع نادي نيوكاسل، المملوك لصندوق الاستثمارات السيادي السعودي، من استضافة مباريات المنتخب السعودي الودية على ملعبه.

بينما ذهب كاتب في صحيفة ذا ميرور البريطانية إلى حد مقارنة هذا "الغسيل الرياضي" في الشرق الأوسط بـ"أولمبياد برلين عام 1936 التي نظمها هتلر"، قبيل الكشف عن خطته لإبادة اليهود وتدمير أوروبا، و"كأس العالم 2018 في روسيا" الذي جاء بعد قضمها جزيرة القرم الأوكرانية.

ذهب كاتب في صحيفة ذا ميرور البريطانية إلى حد مقارنة "الغسيل الرياضي" في الشرق الأوسط بـ"أولمبياد برلين عام 1936 التي نظمها هتلر"، قبيل الكشف عن خطته لإبادة اليهود وتدمير أوروبا

يتساءل المرء عند قراءة ما يُكتب، أهو تدنٍّ في الوعي الذاتي، تغييبٌ، أم ارتهان لسياساتٍ معينة دون أخرى؟ بدايةً لا يستطيع المرء أن يجادل في استخدام الرياضة كقوة ناعمة للتأثير أو لصرف الانتباه عن الانتهاكات السياسية وسجلات حقوق الإنسان الرديئة، فالأمثلة التاريخية التي تُثبت فاعلية ذلك تكاد لا تنتهي، وليس هذا معرض الحديث، إذ لا يمكن في المقابل إنكار ما ارتكبته السعودية لعقود.

لكن لا بد من الإصرار على تذكير الكتّاب الغاضبين، وأنا متأكد من أنهم نخبة الصحفيين في بلادهم، يمتلكون وصولًا واسع وحصري إلى المعلومات، يعملون في أهم الوسائل ويتلقّون أجورًا سخية، بأن الغسيل الرياضي سكّينةٌ تقطع في الاتجاهين.

هل وُصفت دورة الألعاب الأولمبية الصيفية التي أقيمت في لندن عام 2012، وحصلت على حق استضافتها بعد عامين من غزو العراق، بأنها عملية غسيل رياضي؟ خصوصًا في ظل الإدراك البريطاني الشعبي، الذي تثبته نتائج الاستطلاعات المحلية، الدور البريطاني في حربي العراق وأفغانستان، والدمار الناجم عن هذه الحروب المعترف به بالكامل حتى من قبل التيار الرئيسي للمجتمع البريطاني نفسه قبل أي مجتمع آخر؟

لا داعي للعودة في الزمن لهذا الحد، لماذا شهدنا غيابًا لرنجة "الغسيل الرياضي" الحمراء في تغطية الإعلام لحقيقة وجود أكثر من 20 ألف طفلٍ محتجزٍ هذا العام على الحدود الأمريكية المكسيكية؟ ولم يرتبط الأمر بإنفاق أندية الدوري الأمريكي الممتاز في الولايات المتحدة الذي يكاد يضاهي من أنفقته السعودية، لكن من خلال مزايا متنوعج قُدّمت للاعبين، من عقود رعاية وإعلانات وحصص في الأسهم؟

ولا داعي أيضًا للابتعاد جغرافيًا عن السعودية ودول الخليج نفسها. فبعيدًا عن نادي نيوكاسل يونايتد الذي اشتراه الصندوق السيادي السعودي عام 2021، هناك مانشستر سيتي، المملوك من الإمارات العربية المتحدة، باريس سان جيرمان، المملوكة لقطر، أستون فيلا المملوك للمصري ناصيف ساويرس، وشيفيلد يونايتد المملوك للسعودية أيضًا، إضافةً إلى الاستثمارات المليارية التي تضخها شركات الطيران العربية مثل طيران الإمارات والاتحاد والخطوط الجوية القطرية في أندية كرة القدم الأوروبية منذ أكثر من 10 سنوات.

لم يكن سيل الأموال هذا غسيلًا رياضيًا عندما كان يصبُّ في الأراضي الأوروبية، إذ اعتُبر إنفاق بيب غوارديولا مليار يورو (دفعتها الإمارات) إنجازًا رياضيًا غيّر شكل كرة القدم، بحسب الغارديان. بينما لم تتجاوز انتقادات الـ 220 مليون يورو التي دفعها باريس سان جيرمان (قطر) عام 2017 لضم نيمار من برشلونة سقف "انتهاك قواعد اللعب المالي النظيف" و"رسملة اللعبة" وغيرها من الجوانب التي بقيت ضمن الإطار الرياضي، ولم يحضر الحديث عن حقوق الإنسان وانتهاكها إلا عندما تغيّر مصبُّ الإنفاق.

لم يكن السطر الأخير تكهّنًا أو مظلومية مزمنة من الغرب، بل وقائع أثبتتها 59 صفحة من رسائل البريد الإلكتروني التي وثقها تحقيق أجرته صحيفة ذا أثليتيك الأمريكية. فعلى الرغم من نفي بوريس جونسون، الذي كان رئيس الوزراء عندما تم الاستحواذ السعودي على نيوكاسل، أظهرت الوثائق أن حكومته أبدت اهتمامًا كبيرًا بعملية الاستحواذ، حيث التقت بمسؤولين سعوديين ومسؤولين في الدوري الإنجليزي الممتاز طوال مدة المفاوضات.

وكان الوزراء والمسؤولون حريصين على التأكيد على أهمية الصفقة، مشيرين إلى أن العرض من شأنه أن يعزز العلاقة بين المملكة المتحدة والسعودية، وأن فشله سيضر بالمصالح الاستراتيجية للمملكة المتحدة، وهي نقطة أكدها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان لبوريس جونسون عبر رسالة نصية في يونيو/حزيران 2020.

وبعيدًا عن تلويح ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بأن فشل الصفقة كان سيعرّض الشراكة الاستراتيجية لعام 2018، والتي وعدت باستثمار 30 مليار دولار في المملكة المتحدة على مدى 10 سنوات، للخطر، تشير رسائل البريد الإلكتروني إلى أن المسؤولين البريطانيين دعموا الصفقة لأنهم اعتقدوا أنها قد تحسن صورة المملكة العربية السعودية في المملكة المتحدة، مما يوفر غطاء أكبر للعلاقات الثنائية.

لا يستطيع المرء أن يجادل في استخدام الرياضة كقوة ناعمة للتأثير أو لصرف الانتباه عن الانتهاكات السياسية وسجلات حقوق الإنسان الرديئة، فالأمثلة التاريخية التي تُثبت فاعلية ذلك تكاد لا تنتهي

لذا، فإن وصف كل هذا بأنه مجرد غسيل رياضي قد يكون أمرًا جذابًا، ومثيرًا للمشاعر التي تفضلها الخوارزميات من جهة ومِنح المموّلين من أخرى، ولكنه يبقى قناعة يسقط في الغرف المظلمة التي يُظهر كلٌّ فيها قباحته دون تجميل، حيث لا صوت يعلو فوق صوت رأس المال.

وبالنظر إلى دولٍ أخرى في المنطقة العربية وخارجها، صبّت ملياراتها في قطاعات ما وهي محكومة من أنظمة استبدادية قادرة على انتهاك المعايير والقوانين الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان دون أن يرف لها جفن، ولا تزال مزدهرةً ويفتح لها النظام الدولي باقتصاده الليبرالي الحديث ذراعيه، ندرك أن وجود هذه ضرورة يحتاجها هذا النظام للحفاظ على نفسه قائمًا.

وفي حين أن انتهاكات حقوق الإنسان ستستمر بلا شك في إعاقة جهود السعوديين ولن ينتهي حديث الإعلام عنها في أي وقتٍ قريب، فإن بن سلمان يراهن بشدة على أنه لن يقف في طريق الدول والشركات الأخرى التي تتعامل مع مملكة يراهن الجميع على صعودها.

وربّما يتجلى ما يراهن عليه ولي العهد السعودي في حديث رئيس قسم الأخبار في شركة Vice المسرّب لموظفيه، حيث طلب منهم التصالح مع حقيقة أن الأموال في هذه البلاد قادمة من النظام نفسه الذي ارتكب الفظائع، وقال "لقد فتحنا مكتبًا هناك، وسنبقى هناك، ونحن ملتزمون بوجودنا في المنطقة. إذا كانت هذه خطوة مُستبعدة جدًا بالنسبة لك على المستوى الشخصي، فلا بأس، يمكنك المغادرة، لا أحد يجبرك على العمل هنا". ومن غير المرجح، والمؤسف ربما، أن حديث الإنسانيات يُهمل لصغره أمام هكذا خطابات.