02-أكتوبر-2023
غرافيتي في ميانمار

(Getty) غرافيتي في ميانمار

في مقال سابق تحت عنوان: "ثقافة الديمقراطية"، وقفتُ عند الاستعمالات الجديدة التي أصبحنا نستعمل بها كلمة ثقافة. وقد حاولت أن أبيّن أنها تُبعدنا عن المفهومات التي تعوّدنا قبولها، تلك المفهومات التي، وإن لم يكن يقع على معناها إجماع كبير، إلا أنّها كانت تؤول في النّهاية إلى المعنى الإناسي. وهكذا أصبحنا نتحدث اليوم عن "ثقافة سينمائية"، و"ثقافة السفر"، و"ثقافة المقاولة"، و"ثقافة التسامح"، و"ثقافة المواطنة"، و"ثقافة الاختلاف"... وقد حاولت أن أثبت أنّ اللفظ لا يحيل هنا إلى ما يخصّ الفئة التي نطلق عليها "رجال الثقافة" أو "المثقفين"، وأنه لا يعني بالأوْلى معرفة وتحصيلًا، كما أنه لا يدلّ على المدَنية والتحضّر، بل إنّه لا يحيل حتى إلى المعنى الإناسي الذي نعنيه على سبيل المثال عندما نتحدث عن "ثقافات الشعوب الأولية".

أذهب إلى الافتراض هنا أنّنا عندما نتحدّث عن "ثقافة حقوق الإنسان" على سبيل المثال، فإننا نحيل إلى المعنى الأصلي للكلمة الفرنسية culture، تلك الكلمة التي لا تردّ إلى التّقويم، ولا إلى التّكوين، ولا، بالأولى، إلى "الفلاحة" كما قد يتبادر إلى الذهن أول مرة، وإنّما إلى اللفظ الألمانيKultur  الذي يحيل بدوره إلى المعنى الإغريقي لكلمة "بايْدِيا" Paidia.

عندما نتكلم عن "ثقافة الاختلاف"، فإننا لا نحيل إلى تحصيل ومعرفة، وربما لا نعني أساسًا نظريات ومفهومات، وإنّما نحيل الى تربية وتنشئة وتكوين

"البايْدِيا" الإغريقية هي ما يمكن أن ننقله إلى اللغة العربية بـ"التربية" والتنشئة والترويض والتمرّس. والظاهر أنّ هذا هو المعنى الذي أصبحت تتداول فيه كلمة ثقافة، من غير أن تستبعد، بطبيعة الحال، المعاني الأخرى التي كانت معروفة. على هذا النّحو، فعندما ننعت مجموعة بشرية بأنها تعوزها "ثقافة السفر"، فإنّنا نقصد بذلك أنها ينقصها المراس، وتعوزها الدربة على السفر وما أصبح يتطلّبه من دراية وخبرة وتمرّس. بناء على ذلك، فإن كلمة ثقافة في معناها "الجديد" وفي جميع تلك الأمثلة التي أوردناها، تعني أساسًا تثقيفًا و"فلاحة" وغرسا في أرض وعرة، مع ما يتطلّبه ذلك من رعاية وعناية وصيانة ومتابعة.

على هذا النحو، فعندما نتكلم عن "ثقافة الاختلاف"، فإننا لا نحيل إلى تحصيل ومعرفة، وربما لا نعني أساسًا نظريات ومفهومات، وإنّما نحيل الى تربية وتنشئة وتكوين، تربية على حقوق الإنسان، مع ما يتطلّبه ذلك، شأن كل تربية، من صبر ورياضة، وتمرين وتعوّد، وتعثّر وتلكّؤ، وتقدّم وتراجع، وتقويم وتصحيح، وكل ما يقتضيه ترويض الفرد على "قبول الاختلاف" ومعاشرة "الآخر". وغير خاف أنّ هذه التّنشئة لا تتمّ بين عشية وضحاها، ولا تتحقّق بطيّ صفحة وفتح أخرى، وإنّما لا بدّ وأن تستغرق الزّمن. إرساء "ثقافة الاختلاف" إذًا ليس مجرّد قناعات فكرية، ولا هو نتيجة وعظ وتوجيه أخلاقي. إنّه تربية الأفراد والمجتمعات على قبول الآخر في اختلافه، وتمرينهم على أنّ ذلك الاختلاف حقّ من حقوق المواطن، وأنّ "الاختلاف" ثقافة وتربية وبايديا.

لسنا في حاجة إلى التّأكيد أنّ عبارة "ثقافة الاختلاف" هذه، قد صارت، من شدة تداولها، تفقد كل معناها، أو لنقل، على الأقل، إنّها أصبحت تغيّب المعاني المتعددة التي كان مفهوم الاختلاف يعنيها عندما غدًا "مفهومًا" فلسفيًا على يد أبي الجدلية هيغل. لتوضيح مفهومه عن الاختلاف، يبدأ هيغل باستبعاد موقف رائج يدعوه هو الموقف الساذج عن الاختلاف أو "الموقف الاختباري". يرى هذا الموقف أنّ الأشياء المتباينة تختلف عن بعضها اختلافًا بحيث لا يبالي أحدها بالآخر indifférente، ما دام كل منها مطابقًا لذاته مكتفيًا بها. ما "يقف" عنده الموقف الاختباري من الاختلاف هو التنوّع. في هذا "الاختلاف الساذج"، يغدو الكائن مُجَزّءًا إلى عناصر متعدّدة، وأطراف مبعثرة خارج بعضها عن البعض. إنّ هذا الاختلاف لا يرقى حتى إلى مستوى التّعارض، وبالأحرى التّناقض. فالتّنوع والتّبعثر لا ينتعش إلاّ إذا تلقّت الأشياء التي تشكّله السّلب، أو النّفي، الذي هو سرّ الحركة التلقائية. والسّلب لا يكون إلا بجر المخالف نحو آخره وربطه به وليس بإبعاده عنه. هذا الجرّ هو ما يميز الاختلاف "الجوهري" عن مجرد التّباين السّاذج. آنئذ يغدو الآخر ضروريا للذّات، ونغدو أمام تناقض الموجود الذي لا يكون هو هو إلا إذا خالف ذاته. وهكذا يغدو الاختلاف "باطنيًا" يجعل الذات في بُعدٍ دائم عن نفسها، فينخرها من "الداخل" ولا يجعلها مكتفية بذاتها مستغنية عن كل خروج.

حينما لا يقتصر الاختلاف على التّصريح بتميّز وتمايز مطلق يفصل الذّات عن العالم المحيط بها، فيعتبر خروجَها عن ذاتها أساسا لوجودها، وليس مجرّد إقحام للآخر في الذّات، فإنّه يوضَع "داخل" الهوية إن صحّ التعبير عن داخل. حينئذ تكون الهوية، التي هي أصلا خروج، تكون مطالبة، قبل إعلان انفصالها عما عداها، أن تنفصل عن ذاتها، وتعيّن نفسها كحركة تباعد دائبة، وليس كتعيين نهائي قائم متوفر على كل مزاياه، متميز عن كل ما عداه. آنئذ، وآنئذ فحسب، تكون الهوية قد تشربت بالفعل "ثقافة الاختلاف"، وآنئذ يغدو الاختلاف "ثقافة".