13-سبتمبر-2023
أخاف أن أحكي للطبيب عما أخاف منه

(Getty) أخاف أن أحكي للطبيب عما أخاف منه

لطالما كنت جبانة، وخائفة، وفزعة، أخشى الظلال، والظلام، والغرف المغلقة، والوحدة، والألم. وربما لهذا السبب كنت طفلة ثقيلة الدم، إذا خيم الليل أمسك يد أبي، أعصرها بكفي، أخبأ وجهي في كفه، ولا أتزحزح، إذا جرب أن يبعدني بكيت، وصرخت، ورفست الأرض.

كان يغضب أحيانًا، ويشفق علي أحيانًا أخرى. حاول مع أمي زرع الطمأنينة في أرجاء البيت، أنارا الزوايا بمصابيح بيضاء ناصعة، حرّما قفل الأبواب إلا لضرورة قصوى، أجبرا أختي على النوم معي في نفس الغرفة، حاولا بشتى الوسائل، لكنهما لم ينجحا، فأنا لا أعرف ما الذي يخوفني تحديدًا، لكني أعرف أني أختنق في العتمة، وأكره الليل، ويكاد قلبي أن ينط من مكانه خشية، إذا ما كان الباب مغلقًا، أتكور في مكاني، لا أتحرك أبدًا، أفتح عيني على اتساعهما لألمح أية حركة، أشد أذني لالتقاط أي صوت، وأترقب عودة النور، أو استيقاظ أحد النائمين.

أحيانًا أخاف الأشباح، رأيتهم على التلفاز، يغطون وجوههم، وأجسادهم بشراشف بيضاء، ويتحركون بسرعة بين غرف المنزل، يرهبون الأطفال والكبار.

بعد خمسة عشر عامًا يعود هذا الخوف، بالغًا، مثلي، وكبيرًا، مثلي، وممتلئًا، مثلي. أقرب للواقع هذه المرة، تحفزه وجوه بشرية عادية، غير مشوهة، وأسلحة، على أرض خصبة من الذعر، مسقية بمياه الخرافة

أحيانًا أخاف الجن، سمعت عنهم حين تلصصت على حديث جارتنا، وهي تشرب القهوة مع أمي، قالت أن ابن أخيها ركبه جني، وهو يتصرف على نحو غريب، يتحدث بصوت لا يشبه صوته، ويتمتم بكلمات غير مفهومة، أما الموروث الشعبي بحكاياته كان الأكثر إرعابًا، وتهديدًا.

أحيانًا أخاف من "زبدلى" حكت عنه خالتي، هو وحش بوجه مشوه، وأسنان بشعة، ورجل معزة، يتدلى من الحيطان، ليذبح الأطفال الصغار الذين لا يسمعون كلام الكبار، ولا ينامون باكرًا، وأحيانًا أخاف من "أمنا الغولة" التي تخرج من القصر لتخطف الأطفال، وتلتهمهم. وأحيانًا أتخيل "أبو رجل مسلوخة"، وغيره من قصص ترهيب الأولاد المشاغبين، كانت مخيلتي واسعة، وخصبة، يكفي أن أسمع طرف خيط من قصة واحدة، حتى أنسج لها آلاف الاحتمالات، والاختيارات، ليس بالضرورة أن تكون القصة قصة رعب، فيها قتلة، وسكاكين، وجرائم، يكفي أن تكون عن طفل ضاع عن أبويه، أو ولد اختفى بعد أن صدق المرأة التي تقول له ساعدني في حمل الأغراض إلى المنزل، كي أرسم شكل الحياة التي لا أريد أن أحياها، زرعت الحكايات الخوف في رأسي، ولم أكن وحدي، كنا نتشارك قصص الرعب التي نسمعها، ونزيد عليها بعضًا من التوابل، صباحًا يكون هذا النشاط مسليًا، خاصة حين يفغر الأطفال المستمعين أفواههم، وما إن تغرب الشمس حتى تتحول القصص إلى عقد لا تُحل، بذروا الخوف في رؤوس الأطفال كي يناموا، وحصدوا أجيالًا قلقة، مضطربة، وأرِقة.

مع الوقت مل والديّ من هذه الحالة، لم يهنئا لا في ليل، ولا في نهار، جربا تشغيل سورة البقرة، وآيات الرقية، والحصن الشرعي، لم يجدي الأمر نفعًا، قررا عرضي على طبيب نفسي، والعلاج النفسي لم يكن شائعًا حينها كما الآن، لذا خافا من الوصمة التي ستلحق بي إن عرف أحد بتلك الزيارة، لا أذكر الحديث الذي دار بيننا، في المرة الوحيدة التي دخلت العيادة فيها، أذكر طاولة مكتبه، وقميصه المقلم، وشهادة وحيدة معلقة على الجدار خلف ظهره، وأذكر أني صرت أنام جيدًا حين ألتزم بالدواء الذي وصفه لي، لا أحس حين تنقطع الكهرباء، ولا أنقز إذا لفحتني نسمة هواء، لكني بالطبع لم أتحول لطفلة قوية، كل ما أفعله هو إعادة تدوير مخاوفي في حلقة مفرغة من قصص وهمية، وأخرى حقيقية.

في سنوات مراهقتي خف هذا الخوف بشكل واضح، وكاد أن يتلاشى لولا لحظات ضعف النفس، صرت أنام ليلًا، وحدي في غرفة شبه معتمة، بابها مردود، شعرت بلذة الانتصار، صرت فتاة غير جبانة، وهذا الضد لا يعني بالضرورة شجاعة في المقابل، عزوت الفضل إلى الطبيب الذي ربما سألني عن اسمي، وناتج ضرب سبعة بثلاثة، قبل أن يخبر أبي بتشخيصي المرضي، والوصفة الطبية لهذا الداء.

بعد خمسة عشر عامًا يعود هذا الخوف، بالغًا، مثلي، وكبيرًا، مثلي، وممتلئًا، مثلي. أقرب للواقع هذه المرة، تحفزه وجوه بشرية عادية، غير مشوهة، وأسلحة، على أرض خصبة من الذعر، مسقية بمياه الخرافة، لكن الظرف مختلف هذه المرة، لا يمكن إنارة البيت، تنقطع الكهرباء فجأة، يستمر الانقطاع لخمس أو ست ساعات متواصلة، وضوء "فلاش" الموبايل لا يكفي لأكثر من نصف ساعة، وأنا كلما أغمضت عيني رأيتهم، ينخرون صدري، أو صدر من أحب، ولن أكتب أكثر من ذلك، فأنا كما قلت لطالما كنت جبانة، لكني عرفت بالمصادفة معنى نوبة الهلع، قبل شهور أصابني رعب شديد، أخاف من كتابة أسبابه، ظننت يومها أن إنهاء حياتي أفضل من أن يحل بي المصير الذي تخيلت، شلت أطرافي، وكان قلبي يخفق، ويضطرب، ويدق أسرع من الضوء، وأعلى من صوت المولدات، بعد شهر تكررت النوبة، غير الأسباب الأولى، لكنها ليست مختلفة تمامًا، تبدو مثل نوبة قلبية، تجمد دماغي، ثم تكررت بعد أسبوعين، ثم مرة كل أسبوع، ثم كلما سمعت حكاية عما فعلوه أصحاب تلك الوجوه غير المشوهة، ثم كلما تخيلت اقترابهم من عائلتي، وهكذا.

سرقت تشخيصًا قرأته على الإنترنت، واشتريت دواء لا يحتاج لوصفة طبية، وادعيت التحسن، فكلفة العلاج النفسي أكبر من قدرة الغالبية على الدفع

تعبت، وتعب وجهي، وتعب جسدي، وتعبت بطارية الهاتف، وشواحن اللدات، والقواطع. نصحتني صديقتي بزيارة طبيب نفسي لعله يعطيني وصفة طبية، واقتنعت، فأنا لي تجربة سابقة جيدة، زرت الطبيب، وقال قلق بسيط، لا خطر فيه. صرت أنام جيدًا بعدما سألني عن اسمي، ومهنتي، وأخبرني بالتشخيص المرضي، والوصفة الطبية لهذا الداء.

ما لا يعرفه أحد أني كذبت، ولم أذهب. فعلت كما يفعل الكثيرون من زملاء القلق في هذه المدينة الملعونة، المحفوفة بمحفزات الرعب، كما يفعل الأطفال الكبار الخائفين حتى اليوم من الغول. سرقت تشخيصًا قرأته على الإنترنت، واشتريت دواء لا يحتاج لوصفة طبية، وادعيت التحسن، فكلفة العلاج النفسي أكبر من قدرة الغالبية على الدفع، والدواء أرخص، إذا ما وضعنا تأثيراته الجانبية على حيواتنا جانبًا. أعرف أن هذا أمر ضار بالصحة، وغير قانوني ربما، لكني وبالإضافة إلى ما سبق، لا أثق بأحد، ما الذي يضمن لي أن الطبيب ليس من شرطة الأطفال، أو أن ساقه عادية، لا مسلوخة؟ وكيف سأتأكد أنه لن يلتهمني إذا ما أغلق باب العيادة؟ ماذا إن تمتم بكلمات غير مفهومة؟ والأهم ما الذي سيمنعه من اختطافي، وتسليمي لأصحاب الوجوه المرعبة؟

الحكايات تقول إنها حقيقية، وأنتم طلبتم منا تصديقها، لننام، وها أنا مستيقظة منذ أيام، أبتلع حبوبًا لا تنفع، وأراجع ذاكرتي، لأني أخاف أن أحكي للطبيب عما أخاف منه، وبحثت، وأبحث، عن طبيب لا يشكل مصدر قلق، ولا تهديد، وسأظل أبحث عن واحد في كل... لا، لا، لن أكتب لكم اسم المدينة التي أعيش فيها، كي لا تعرفوا عني، وعن قلقي شيئًا أنتم وأشباح الأسلحة، وجن الظلام.