18-سبتمبر-2023
كاريكاتير لـ علي راسترو/ إيران

كاريكاتير لـ علي راسترو/ إيران

ربما لست أملك ما يكفي من وسائل للإقناع بما ترسخ عندي من اعتقاد بأن علاقة حميمة تربط التحديث بتمجيد العمل، غير أنه لا أحد يمكنه أن يقتلع هذه الفكرة من ذهني: المجتمعات تخطو نحو التحديث، بقدر ما تقتنع بأن العمل هو ما يجعل الإنسان إنسانًا. دليلي الحيّ على ذلك ما ألاحظه يوميًا في مختلف مظاهر حياتنا، ومن قنوط في دواليبنا الإدارية، وتأفّف من مختلف أشكال العمل. صحيح أن هذه الفكرة لم تتمكن من أن تترسخ، حتى عند المجتمعات التي نهجت سبل التحديث، إلا بعد تحولات اجتماعية وتاريخية كبرى، وبعض التحولات العلمية والفلسفية التي كانت وراء ذلك.

ولعل أهم تلك التحولات ما عرفه مفهوم "الطبيعة" ذاته، عند ظهور الفيزياء، علم الطبيعة، على يد غاليليو ومن معه، حيث لم تعد الطبيعة "مبدأ حركة الأشياء"، كما رسّخ ذلك "المعلم الأول". لقد فقدت الأشياء "طبعها" وأصبحت عاطلة قاصرة محتاجة لتغيير حركتها، أو سكونها، إلى قوة خارجة عنها. لم يعد الكائن يسعى من تلقاء ذاته نحو غاية ينطوي عليها، وإنّما أصبح لا يغيّر من حالته إلا بفعل قوة خارجية. وهكذا انصهرت العلل الأرسطية لتذوب في علة واحدة هي العلة الفاعلة. كما أن الكائن أصبح محتاجًا لتأثير قوة حتى يتحوّل.

هذا المبدأ الأساس لعلم الحركة سيأخذ في التعميم ليطال الحياة الاجتماعية والحركة التاريخية، وسيتسع شيئًا فشيئًا لتقتنع به فئات اجتماعية واسعة، ستدرك أن تغيير حالة الكائن لا بد أن تكون نتيجة تأثير قوة مغيّرة، وأن تبدّل الأحوال متوقّف على الفعاليات والأعمال.

نفض مفهوم العمل عنه كل الأوصاف السلبية التي اقترنت به خلال قرون ليغدو مصدر الحركة والتحوّل والتاريخ والحياة، بل ليصبح محدّدًا من محدِّدات الإنسان بما هو إنسان

لا عجب إذًا أن ينفض مفهوم العمل عنه كل الأوصاف السلبية التي اقترنت به خلال قرون ليغدو مصدر الحركة والتحوّل والتاريخ والحياة، بل ليصبح محدّدًا من محدِّدات الإنسان بما هو إنسان، ويغدو كوجيطو العالم المعاصر، ليقول أحدهم "لست إلا ما تقوم به من أعمال"، أو "أعمل فأنا موجود".

المعروف أن العمل ظل يعتبر، لمدة غير قصيرة، استرقاقًا، أو، على الأقل، نوعًا من العناء الذي لا يتولد فحسب عن بذل الجهد الجسدي والفكري، وإنما ينتج حتى عن التكرار والرتابة. ونستطيع أن نؤكد أن المعنى الفلسفي للعمل لم يعرف تحوّلًا عميقًا إلا في القرن الثامن عشر الأوروبي. بل إن العمل لم يُنظر إليه على أنه مبدع للقيم، ووسيلة الإنسان لتحقيق ذاته، إلا مع ظهور الفلسفات الجدلية عل امتداد القرن التاسع عشر.

تقوم هذه الفلسفات على الإعلاء من مفهوم السّلب معتبرة أن الكائن هو بما ليس هو. ها هنا سيظهر مفهوم أساس لن يعيد للمفهوم الأرسطي مجده بالقول "إن الكائن ينطوي على مبدأ حركته"، وإنما سينظر إليه على أنه مجموعة ممكنات Potentialités. الكائن نفي وسلب، وهو ما ليس هو. هو ممكنات وانفتاح على المستقبل. هذه العبارة سيطبقها جول لوكيي (J. Lequier) في القرن العشرين حتى على الكائن البشري، وهي عبارة كان يحلو لسارتر أن يردّدها، وهي تقول "إن الإنسان ليس ما هو عليه، وهو ما ليس هو".

لن يعمل مفهوم طاقة الجهد potentialité هذا على استرجاع المفهوم الأرسطي عن الطبيعة، ولن يلغي مطلقا المفهوم الفيزيائي للعطالة، إلا أنه سيحدّد الكائن على أنه نفي، وسيفتحه على ممكنات، إلا أنها ليست ممكنات تعتمد على نفسها للخروج إلى الفعل، إذ لا يتوقف تحققها على "مبدأ ذاتي"، وإنّما على قوى خارجية، هي ما سيُدعى "قوى التغيير". من هنا سيتخذ العمل جدواه وفعاليته من حيث هو أداة هذا التغيير، وسعي دائب نحو تحقيق الممكن. وسيعده بعضهم "وسيلة إنتاج"، ولن يظل نيرًا Tripalium وعناء ومشقة، وإنما أداة لتحويل الكائن، ومبدأً للحركة التاريخية.

هذا التأسيس الأنطلوجي للعمل، سيحول دون فصل "ماهية" الإنسان عما يبذله من جهد فكري وعضلي قصد تحويل الطبيعة والفعل في حركة التاريخ. العمل هو ما به يحقق الإنسان ذاته، إنه الكوجيطو المعاصر: "أنا أعمل، إذًا أنا موجود".