02-مارس-2023
كاريكاتير لـ مكايل جيفتجي/ تركيا

كاريكاتير لـ مكايل جيفتجي/ تركيا

محظوظون لأننا جئنا في زمن بات فيه المجال العام بين أيدي الناس كما لم يكن من قبل، وتعساءٌ لأننا قمنا بتدميره والعودة إلى درجة الصفر مجددًا.

وفّرَ زمن المنصات والتواصل الرقميّ لنا مساحاتٍ مكّنتنا من التعبير عن آرائنا والمشاركة بها، ضمن حوار بات يصل إلى نطاق عالمي. وغيّرت هذه الوسائل طرق نشر المعلومات وتداولها، ما سمح للناس العادين بالوصول إلى مصادر المعلومات وتشكيل وجهات نظر غير خاضعة للتوجيه الذي تمارسه السلطات السياسية.

ومع أنها خلقت بالمقابل تحديات جديدة، مثل انتشار المعلومات المضللة والأخبار الكاذبة والشعبوية والنزعة الاستهلاكية والسطحية.. وغيرها؛ إلا أنها لا تزال تلعب دورًا كبيرًا في تشكيل الرأي العام.

وفّر زمن المنصات والتواصل الرقميّ لنا مساحات مكّنتنا من التعبير عن آرائنا والمشاركة بها، ضمن حوار بات يصل إلى نطاق عالمي. وغيّرت هذه الوسائل طرق نشر المعلومات وتداولها

وبعد أن منحت هذه التقنيات شخصياتنا الإمكانية لتكون مرئيةً، وأعطت أصواتنا قيمة التأثير، وغيّرت معادلة القوة المختلة مع السلطة، أعادت علاقتنا مع المجال العام إلى سابق عهدها، ليس عبر طردنا منه كما في السابق، بل عبر إشغالنا بأمور لا قيمة لها، حيث نَحَّيْنَا المسائل التي تمس الخبز والكرامة والحرية جانبًا، وأبرزنا أخرى ليست بذات أهمية كبيرة كالموضة والجمال (حصرًا في مفهومه السائد) والرقص والمقالب السخيفة، وبالطبع الشعبوية وخطاب الكراهية والعنصرية، وفوق هذا وذاك نظرية المؤامرة.

ليس الميل الكبير نحو التعري والتفاهة مضرًّا بحدّ ذاته، إلا أنه أدى إلى تشتيت الانتباه عن القضايا الاجتماعية والسياسية الأكثر إلحاحًا، وإلى التقليل من شأن تشكيل خطاب عام، فحين تكون الأولوية للترفيه والمتعة الشخصية تغدو القضايا الاجتماعية هامشية. وحين يحضر خطاب الكراهية والعنصرية ونظرية المؤامرة تُخلق بيئة حياة سامة، ويُهمش الضعفاء، ويُفتت الترابط الاجتماعي عبر تكريس الأنانية واللامبالاة كثقافة.

تساهم خوارزميات المنصات في تضخيم أنواع معينة من المحتوى، خصوصًا ما يتعلق بالمنتجات الاستهلاكية، على حساب أنواع أخرى مهمة لحياتنا كالتضامن والعدالة الاجتماعية ومحاربة العنصرية.. إلخ. وربما يكون صعبًا تجنب التأثر بالمحتوى السائد، لكنّ هناك لحظاتٍ تحوز فيها قضايا هامة على اهتمام الجميع، كحرائق الغابات وقضايا اللاجئين، غير أنّ المأساة تكمن في أنّ معالجتها واتخاذ المواقف منها لم تعد تختلف كثيرًا عن المحتوى المعهود للتفاهة.

اللوم الذي نلقيه على السلطة دومًا لا يعفينا من مسؤوليتنا الأخلاقية، فنحن عاجزون عن تشكيل كتلة رأي ثابتة حول الكثير من القضايا، ولو حدث وتشكّلت سنراها تتلاشى سريعًا أمام الأحداث الجديدة، لأنّ الأساس هو الترند لا الرؤية الأخلاقية.

من وجهة النظر النفسية، من يحصلون على القوة فجأةً سوف يُدمرون من حولهم، كونهم متأكدين من أنهم لا ينطقون عن الهوى. وبالطبع ستلعب البيئة الدكتاتورية التي شكّلت العقول والنفوس دورًا في ظهور سلوك دكتاتوري، بدرجات مختلفة.

جزء من استقبال المعلومات هو تحليلها والوقوف على مضمونها وطريقة وصولها، وموصليها أيضًا، وبغياب ركن من هذه الأركان نغدو مشاركين في هذا الخراب. لهذا علينا العمل ونحن مقتنعون أن المنصات، كما الإعلام التقليديّ، ليست المصادر الوحيدة للمعلومات التي تؤثر في حياتنا، فهناك العديد من المصادر الأخرى كالعلاقات الشخصية والفضاءات المجتمعية والكتب.. التي يمكنها تزويدنا بوجهات نظر بديلة وتساعدنا على التفكير النقدي.

في النهاية، الحياة أكثر وأكبر ممّا نراه على شاشات موبايلاتنا. وهي ذات معنى عظيم، لا يمكن أن تكون بحال من الأحوال حفلةً من المقالب السخيفة، أو الاستعراض المملّ للأجساد والثياب. نحن البشر مصنوعون من الشغف بعالمنا وأشيائنا، ولدينا نزعة قوية للانخراط في مشاركة الآخرين همومَنا وهواجسَنا، وللعمل معهم على التغيير، ولهذا ما من شيء يعزز منظورنا نحو معنى أن نكون أكثر من لذة أن نفعل!