10-يناير-2023
المؤشر العربي 2022

المؤشر العربي 2022

لفتني في نتائج المؤشر العربي للعام 2022، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، تلكَ التي جاءت لتستعرض موقف الشعوب العربية من الديمقراطية وثقافتها، فقد جاءت آراء نسبة كبيرة من العرب الذين خضعوا للاستجواب مؤيدة للديمقراطية، إذ قدّم 85% من المستجيبين تعريفًا ذا محتوى للديمقراطية، وجاءت آراء نسبة كبيرة منهم متوافقة مع تعريف الديمقراطية الليبرالية باعتبارها التي يتم فيها انتخاب من يُمثّل الشعب دوريًا، ويتم فيها الحفاظ على الحريات المدنية والسياسية.

كما أشار 72% منهم إلى أنّهم يؤيدون النظام الديمقراطي في دولهم ويرونه النظام الأمثل لحفظ الحقوق والحريات، وبدا أن هناك غالبية عربية رفضت المقولات السلبية عن الديمقراطية، ورأت فيها مقولات مساندة للأنظمة الاستبدادية التي انقلبت على الربيع العربي، وكان لها دور أساسي في الانتكاسة التي أصابت مسار التحوّل الديمقراطي في المنطقة العربية.

72% من العرب، بحسب المؤشر العربي 2022، يؤيدون النظام الديمقراطي في دولهم ويرونه النظام الأمثل لحفظ الحقوق والحريات، وهناك غالبية عربية ترفض المقولات السلبية عن الديمقراطية

أعادتني نتائج المؤشر العربي للعام 2022 فيما يتعلّق بموقف العرب من الديمقراطية إلى نقاش قديم خضته مع صديق بعد الانتكاسة التي أصابت مسار التحوّل الديمقراطي الذي بدأته ثورات الربيع العربي، حيثُ استذكرتُ ما قام به ذلك الصديق من تبنٍّ لمقولة "الاستثناء العربي"، واستخدامها كحجة دامغة على أنّ الشعوب العربية لا تفتقر فقط للثقافة الديمقراطية وممارستها، بل تفتقر لأي إمكانية لتلك الممارسة.

ومقولة "الاستثناء العربي" هي مقولة سادت في الأوساط الأكاديمية الغربية في أجزاء كبيرة من العالم نهاية الحرب الباردة، وذلك بعد أن تحوّلت دول كثيرة في أوروبا الشرقية وآسيا وأمريكا الجنوبية إلى النظام الديمقراطي، بينما بقي العالم العربي يرزح تحت وطأة الحالة الاستبدادية، استهجنت فئة كبيرة من المثقفين في العالم العربي تلك المقولة ورأت فيها شكلًا من أشكال الاستعلاء الغربي، ولكنّها رغمَ ذلك أخذت تتحدّث عن شكل من أشكال "الخصوصية العربية" في التفاف معين حول المقولة يرفضها ظاهريًا، لكنّه يتبانها في الجوهر والمضمون.

فمقولة "الاستثناء العربي" في الأوساط الغربية، أو ما يُعادلها تعبيريًا في الأوساط العربية "الخصوصية العربية"، هي مقولة هدفها الأول والأخير إدانة المجتمعات العربية سياسيًا، وتصويرها على أنّها مجتمعات منغلقة لا تقبل أي أفق للتحوّل الديمقراطي السياسي فيها، فهذه المقولة تأتي لتدين الثقافة العربية والإسلامية في هذه المجتمعات، ولتحمّلها مسؤولية عيش المواطنين في الدكتاتورية، عبر النقض في جوهرها، ونفي قدرتها على حمل معاني القانون والحرية والمسؤولية الفردية وغيرها.

وعن مقولة الخصوصية الثقافية للعرب يُورد المفكّر عزمي بشارة في كتابه "المسألة العربية: مقدمة لبيان ديمقراطي عربي" بأنّ متبنيها من العرب يتذرعون بالعديد من الحجج من أجل رفض فكرة الديمقراطية بمعناها الليبرالي الحديث، ومن ضمن هذه الحجج أن للمجتمعات الشرقية عمومًا والعربية الإسلامية بشكل خاص خصوصية تَجعل من الأفراد العرب يعتمدون على قيم الجماعة، وليس القيم الفردية، كما وأنّهم يدعون بتخلّف المجتمعات العربية وعدم جهوزيتها لتقبّل قيم الديمقراطية ويتخدون ذلك حجة من أجل التأكيد على فكرة استثناء العرب من أشكال الديمقراطية الحديثة.

من يتبنون هذه المقولة يرون أنّ سبب غياب الديمقراطية وديناميكياتها في البلدان العربية يعود إلى رسوخ ثقافة استبدادية دينية أو زمنية تُشكّل اللبنة الأساسية قي بنية الوعي العربي، وتتحكّم به عبر الزمان والأمكنة. هؤلاء يرون أنّ العرب في خضوعهم للمنظومة الاستبدادية يُشكّلون "حالة استثنائية مستعصية" يصعب تغييرها أو الانتقال بها، لأنّ مكمن العطب هو في جوهر ثقافتهم الرافضة للديمقراطية وأسسها ومقوماتها عمومًا.

يتجاهل هؤلاء في تبنيهم لهذه المقولة أنّ الظاهرة الاستبدادية في المنطقة العربية هي ظاهرة لم تأتِ من فراغ، ولها شروط تكوينها وتكريسها الجيوسياسية والاقتصادية والاجتماعية والدولية، تلك الشروط المرتبطة بتصنيف المنطقة العربية كواحدة من أكثر المواقع حساسية في الاستراتيجية الدولية بسبب موقعها الجيوسياسي وحجم الاحتياطات النفطية فيها.

ينسى متبنو هذه المقولة تلك الحقيقة التي أوردها عزمي بشارة في كتابه السابق بأنّ عملية التأسيس للديمقراطية كما هي الآن في الغرب هي عملية تمت بالتدريج على مدار 100-150 عامًا، وعلى موجات وفي بعض الحالات موجات دموية، فالتأسيس للديمقراطية، بحسب بشارة، لم يحدث في الحالة الأوروبية مرة واحدة، وإنما حدث على مراحل تاريخية عديدة، تمكّنت الدول الأوروبية في نهايتها من إرساء نموذج عالمي للديمقراطية الليبرالية لا يُمكن نفيه أو تجاهله.

إنّ أهمية الآراء العربية التي جاء بها المؤشّر العربي فيما يتعلّق بالديمقراطية تنبع من كونها تؤكّد بأنّ هناك إدراكًا في الذهنية العربية للنموذج الديمقراطي العالمي في أشكاله الأكثر حداثة، وكما أورد بشارة في الكتاب نفسه فتجليات هذا الإدراك تظهر فيما ترسّخ في الذهنية العربية من أنّه "لم يعد حتى بوسع دول أخرى أن تبدأ من جديد من الصفر، ومن يؤسّس لديمقراطية في بلدان أخرى في المرحلة التاريخية التي يعيش فيها لا يستطيع أن يتجاهل أن المرأة الآن صاحبة حقّ اقتراع في النظام الديمقراطي الليبرالي المعولم والذي يسهل تخيّله، وأنّ حقّ الاقتراع معمم دون علاقة بين المستوى الاقتصادي والثقافي للمواطن، وأنّ هذا النظام يضمن حقوق أساسية للمواطن باتت معروفة، ولا يستطيع أن يبدأ ديمقراطية كما بدأت بحقوق لـ20 في المئة من السكان فقط كأصحاب حقّ اقتراع، أو بدون حقّ تصويت للمرأة، ناهيك بالعمال، ولا يستطيع أن يبدأ العملية التاريخية كلّها من جديد، أن يُسمي ذلك، ديمقراطية في عصرنا، فهو سوف يصطدم حتمًا مع حاجات عُممت، ومخيلة سياسية لم تعد تقبل ذلك”.

التأسيس للديمقراطية، بحسب عزمي بشارة، لم يحدث في الحالة الأوروبية دفعة واحدة، وإنما حدث على مراحل تاريخية عديدة، تمكّنت الدول الأوروبية في نهايتها من إرساء نموذج عالمي للديمقراطية الليبرالية لا يُمكن نفيه أو تجاهله

إنّ ملاحظة الآراء العربية فيما يتعلّق بالديمقراطية بحسب المؤشّر العربي، تقود بالضرورة إلى ملاحظة آرائهم الأخرى فيما يتعلّق بإسرائيل وقضية فلسطين، فنتائج المؤشّر تشير إلى أنّ هناك إجماعًا عربيًا على أنّ سياسات إسرائيل تهّدد أمن المنطقة واستقرارها، حيثُ يوافق 59% من المستجيبين العرب على أنّ إسرائيل والولايات المتّحدة هما الدولتان الأكثر تهديدًا لأمن الوطن العربيّ، ويؤكّد ما نسبته 76% من المستجيبين على أن "القضية الفلسطينية هي قضية العرب جميعًا، وليست قضية الفلسطينيين وحدهم". وهو الأمر الذي يظهر أنّ المجتمعات العربية ما تزال تعتبر فلسطين قضيتها وقضية العرب جميعًا.

الآراء العربية التي وردت في المؤشّر العربي في ما يتعلّق بفلسطين وحقوق شعبها، تأتي كسند أساسي للفكرة التي أوردها المفكّر عزمي بشارة في كتابه السابق مؤكّدًا فيها على أنّ الديمقراطية لا يُمكن أن تبدأ بدون ديمقراطيين، فبحسبه فإنّ الديمقراطية لا يُمكن أن تبدأ بدون ديمقراطيين يحملون قيم العدالة وثقافتها، ويؤمنون بحقّ الشعوب المضطهدة بالاحتلال والاستبداد وغيره في مناهضة أشكال الاضطهاد المختلفة، من أجل تحصيل حقوقها في الاستقلال الوطني والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية.

إذا كانت مقولة "الاستثناء العربي" واحدة من المقولات الفكرية التي تتجلى عبرها القابلية الذهنية للاستبداد والظاهرة الاستبدادية، فإنّ آراء المواطنين في العالم العربي حول الديمقراطية -سواء في المؤشّر العربي أو غيره- تأتي دائمًا لتدحضها، وتبيّن بأنّ العرب في ثقافتهم مدركين جيدًا للثقافة الديمقراطية ومتقبّلين لها في المستويات الذهنية، وفي انتظار شروط موضوعية وسياسية تَسمح لهم بممارستها على أرض الواقع.