27-أكتوبر-2023
دمار أحدثته غارة لجيش الاحتلال على قطاع غزة

يفاقم العدوان الإسرائيلي الأوضاع الصعبة للاقتصاد الفلسطيني (Getty)

لم يتوقف جيش الاحتلال الإسرائيلي، منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، عن قصفه لقطاع غزة، مُلحقًا أضرارًا هائلة بالبنية التحتية والاقتصاد تُضاف إلى مجازره الشنيعة بحق المواطنين العزّل. ومع ذلك، لم تكن دولة الاحتلال بمعزل عن العمليات العسكرية المهمة التي شنتها المقاومة الفلسطينية، والتي تكبّدت جرّاءها خسائر فادحة، لا سيما في القطاع الاقتصادي الذي يشكل عصب دولة الاحتلال.

خسائر فادحة في الاقتصاد الإسرائيلي

لا ريب أنّ الاقتصاد الإسرائيلي قد تأثر سلبًا بالعدوان الصهيوني على قطاع غزة المحاصر، وعمليات المقاومة الفلسطينية التي طالت عمق الاحتلال. فعلى سبيل المثال، انخفض مؤشر الأسهم TA-35 للشركات الكبرى بنسبة 9% تقريبًا، في حين انخفض سعر صرف الشيكل إلى نحو 4 شيكل مقابل دولار أمريكي واحد، لا سيما أن رهانات المستثمرين ترجح امتداد الصراع لمدة زمنية طويلة تترتب عليها خسائر اقتصادية فادحة. كذلك ارتفاع أسعار التأمين على الديون السيادية الإسرائيلية منذ بداية العدوان على غزة.

قد تكون التداعيات الاقتصادية للعدوان الإسرائيلي على غزة أسوأ بكثير من تداعيات حربه مع "حزب الله" عام 2006

وفي هذا السياق، يرى جاي بيت آور، كبير الاقتصاديين في شركة "Psagot Investment House"، أنّ التداعيات ربما تكون أسوأ بكثير من تلك التي شهدتها دولة الاحتلال خلال الحرب مع "حزب الله" في عام 2006، ويعتقد كذلك أنّ الناتج الاقتصادي لدوحة الاحتلال قد ينكمش بنسبة تتراوح بين 2%-3% خلال الربعين الثالث والرابع لهذا العام.

ويقول بيت آور: "يبدو أننا أمام عملية طويلة الأمد، وستلحق خسائر فادحة بالاقتصاد الإسرائيلي؛ إذ ترى الناس يلغون جميع العطلات والحفلات والمناسبات والأحداث ويلازمون منازلهم، والحال يسري كذلك على الأطفال الذين يظلون في منازلهم، وهذا يعني أنّ أناسًا كثرَ عاجزون عن العمل في هذه الظروف".

ومن الجدير ذكره أنّ المدارس في عموم دولة الاحتلال انصرفت إلى التعلم عن بعد خلال هذه المدة. ومن المعروف أنّ قوام جيش الاحتلال يضم عددًا كبيرًا من جنود الاحتياط، ويعني ذلك أنّ قرابة 360 ألف جندي قد يتركون وظائفهم هذه المدة، ويلتحقون بالخدمة العسكرية ضمن الجيش، مما يفضي إلى توقف عجلة الاقتصاد في بعض المجالات.

ولم يكن قطاع الخدمات الإسرائيلي بمعزل عن هذه التداعيات الكبيرة، فأخذ يرزح تحت وطأة ضغوط شديدة منذ بداية العدوان، إذ طالت التأثيرات السلبية جميع جوانب هذه القطاع، وبدأ المواطنون الصهاينة يئنون من الخسائر الفادحة التي لحقت بهم، فعلى سبيل المثال، تقول نينا مزراحي، وهي سائقة سيارة تاكسي من شمال إسرائيل، إنها كانت تذهب في 20 إلى 40 طلبية في اليوم الواحد، أما في الأسبوع الماضي، فاقتصر عملها على طلبية واحدة يوميًا، وهي تعلق على ذلك بقولها: "لا يوجد أي عمل بتاتًا، ولا أدري حقًا كيف ستستطيع الشركات الصغيرة تدبر أمورها في المدة القادمة".

ومن البديهي القول إنّ السياحة من أبرز القطاعات التي طالتها تداعيات الحرب العدوانية على غزة، ففي الأحوال العادية كان موسم الذروة في الأراضي المحتلة يبدأ في شهر تشرين الأول/ أكتوبر ويستمر حتى كانون الأول/ ديسمبر، بيد أنّ جانيت بيليج، رئيس "جمعية المرشدين السياحيين الإسرائيليين"، تقول إنّ بعض الجولات السياحية قد ألغيت لمدة تقارب العامين منذ الآن؛ فالمناخ العام الآن تسوده مخاوف من اندلاع حرب إقليمية جرّاء العدوان المتواصل على غزة. كذلك تتجنب السفن السياحية المرور بشواطئ فلسطين المحتلة، في حين أوقفت شركات الطيران الكبرى رحلاتها إلى دولة الاحتلال ومنها.

وتعلق بيليج فتقول: "إننا نتلقى إخطارات يومية بإلغاء الجولات والرحلات السياحية"، وتضيف بأنّ انهيار قطاع السياحة يستحضر في الأذهان ذكريات وباء كوفيد قبل عدة أعوام، وتقول: "لقد تعافينا للتو من تداعيات الوباء، وها نحن نواجه مشكلات أخرى مرّة ثانية".

وفي قطاع الطاقة والشحن، تعرضت عمليات الشحن البحري للتباطؤ والعرقلة بسبب القيود والضوابط الإضافية التي فرضتها البحرية الإسرائيلية عليها، في حين اضطرت دولة الاحتلال إلى إغلاق أحد مينائيها النفطيين الرئيسين لدواعي السلامة والأمان، وهو أمر قد يترك أثرًا جليًا على الاقتصاد نظرًا لاعتماد الكيان الإسرائيلي على النفط المستورد.

ويرى محللون أنّ العدوان المستمر ربما يبطئ استثمارات الغاز الطبيعي لدى الكيان، وهذا الأمر ولا ريب يضر كثيرًا بطموحاته الكبيرة لأن يصبح مركزًا لتصدير الغاز الطبيعي إلى أوروبا ومناطق أخرى حول العالم.

تتجنب السفن السياحية المرور بشواطئ فلسطين المحتلة، في حين أوقفت شركات الطيران الكبرى رحلاتها من وإلى دولة الاحتلال

وبطبيعة الحال تحمّلت مناطق جنوب "إسرائيل"، المتاخمة لقطاع غزة المحاصر، العبء الاقتصادي الأكبر منذ بداية العدوان الصهيوني، فعلامات التراجع الاقتصادي بادية للعيان في جميع الأمكنة؛ فمستوطنة سديروت، مثلًا، كان يقطنها نحو 30 ألف مستوطن إسرائيلي، أما الآن فقد أصبحت مدينة أشباح عقب إجلاء قرابة 90% من سكانها، وأغلقت المتاجر فيها أبوابها وانعدمت فيها أوجه الحياة تقريبًا.

ولا شكّ أن التزايد المطرد لهذه الأعباء الاقتصادية قد دفعت المستوطنين إلى الاعتماد على المساعدات الحكومية، فازدادت الطلبات للحصول على هذه المعونة، بل إنّ وزير المالية بتسلئيل سموتريتش أعلن عن خطة لتقديم مساعدات مخصصة لتغطية النفقات الأساسية للشركات التي تراجعت إيراداتها بفعل العدوان، فضلًا عن توفير مساعدات مالية للعمال العاجزين عن بلوغ مواقع العمل. وحدت الأوضاع الاقتصادية المتدهورة بالبنك المركزي في إسرائيل إلى الإعلان عن بيع 30 مليار دولار أمريكي من احتياطي الدولار بغرض دعم الشيكل.

ويشير سموتريتش إلى ارتفاع العجز الحكومي إلى 3.5% هذا العام جرّاء خطط المساعدة، وهو يفوق بكثير نسبة 1.1% التي كانت تستهدف الحكومة تحقيقها في السابق. ولا يقتصر الضرر على ذلك؛ إذ يتوقع الاقتصاديون أن تعاني دولة الاحتلال من عجزٍ أكبر بكثير في العام القادم. ومع ذلك، يحاول بعض الخبراء والاقتصاديين تجميل الواقع المر؛ فرافي جوزلان، كبير الاقتصاديين في شركة IBI Investment House، يقول إن إسرائيل تمضي في هذه الحرب العدوانية في ظل ظروف أفضل بكثير من الصراعات السابقة، ويقصد بكلامه انخفاض نسبة الدين إلى الناتج المحلي إلى 60% تقريبًا، فضلًا عن احتفاظ البنك المركزي بقرابة 200 مليار دولار أمريكي من احتياطيات النقد الأجنبي.

يقول جوزلان: "الوضع الاقتصادي في هذه المرة مغاير تمامًا؛ إذ يتيح للحكومة والبنك الإسرائيلي المركزي بتمويل العجز الضروري في الميزانية، الذي سيزداد ولا ريب زيادة حادة. وسنشهد طبعًا بعض الأضرار التي تلحق بنشاطنا الاقتصادي، لكنها متوقفة في المقام الأول على عمق العملية العسكرية وطول مدتها".

ويرى إيريل مارغاليت، مؤسس شركة "Jerusalem Venture Partners"، إنّ قطاع التكنولوجيا في دولة الاحتلال الإسرائيلي ما يزال يشهد إبرام صفقات جديدة بغض النظر عن الشكوك والهواجس لدى المستثمرين بخصوص الصراع. والجدير ذكره أن قطاع التكنولوجيا الصهيوني استفاد كثيرًا من الدعم المباشر الذي تلقاه من كبرى شركات التكنولوجيا حول العالم، مثل "إنفيديا"، إذ أوضحت رسالة إلكترونية داخلية أنّ الشركة تدفع لموظفيها في إسرائيل مبلغًا قدره 10 ملايين دولار أمريكي باسم (المساعدات الإنسانية)، علمًا بأنّ هذه الشركة سبق وأن ألغت مؤتمرًا للذكاء الاصطناعي كان مقررًا عقده في دولة الاحتلال خلال شهر أكتوبر الحالي. ومع ذلك من المتوقع أن يشهد هذا القطاع اضطرابات جرّاء التحاق الموظفين بجيش الاحتلال.

وفي جميع الأحوال يظل الخوف والترقب مهيمنان على نواحي الاقتصاد كافة في دولة الاحتلال، لا سيما أن إطالة مدة العدوان وتصاعد العمليات العسكرية من المقاومة الفلسطينية سيفاقمان الأوضاع الاقتصادية، ويلحقان ضررًا كبيرًا يفضي إلى ضغوط أكبر على السياسيين الصهاينة.

آفاق قاتمة للاقتصاد الفلسطيني

كانت آفاق الاقتصاد الفلسطيني غير مبشرة قبل أن تفرض "إسرائيل" حصارها الكامل على قطاع غزة عقب عمليات المقاومة الفلسطينية في السابع من أكتوبر الحالي، وقد أفضى هذا الحصار إلى كارثة إنسانية، على حد وصف منظمة الصحة العالية. ويشير تقرير اقتصادي أجراه صندوق النقد الدولي إلى التداعيات الخطيرة للحصار المطلق الذي تفرضه "إسرائيل" على السكان في قطاع غزة بالتزامن مع زيادة القيود على الضفة الغربية، فهذه التصرفات والإجراءات تشكل عقبات كبيرة تعرقل مسيرة النمو الاقتصادي، وتعيق تنمية القطاع الخاص.

يفاقم العدوان الإسرائيلي الأوضاع الصعبة للاقتصاد الفلسطيني الذي يعاني أساسًا بسبب الفقر وارتفاع معدلات البطالة

وقد ساهم العدوان الصهيوني والحصار الكامل في تدمير البنية التحتية لقطاع غزة، وتسبب في نقص حادٍ في إمدادات الطعام والمياه والوقود وغيرها من مستلزمات الحياة، وتسبب كذلك في تشريد نصف سكان غزة الذين يناهز عددهم مليونا فلسطيني، وهذا الأمر ألقى بظلاله على الاقتصاد في القطاع، فتعذر على موظفي الشركات ممارسة وظائفهم وأعمالهم نتيجة انعدام وسائل الطاقة وقطع الكهرباء من قِبل دولة الاحتلال، وتأثر بهذا الأمر على وجه الخصوص الشركات والعاملون في المجال التكنولوجي ممن اضطروا للتوقف عن العمل بسبب استمرار العدوان.

ويفاقم العدوان الإسرائيلي الأوضاع الصعبة للاقتصاد الفلسطيني الذي يعاني أساسًا بسبب الفقر وارتفاع معدلات البطالة حسبما كشفته مراجعة سنوية أصدرها "صندوق النقد الدولي" في شهر أغسطس الماضي. وأشار التقرير كذلك إلى أن التوقعات الاقتصادية ما تزال "قاتمة وسط حال سياسي وأمني متلقب"، وهو إلى ذلك خلص إلى نتيجة مفادها أنّ أي تحول أو تحسن مرهون "بتخفيف القيود المفروضة من إسرائيل على الحركة والاستثمار والنشاط في غزة والضفة الغربية"، وهو أيضًا متوقف على الوصول إلى تسوية سياسية سلمية.

ومن المتوقع أن ترتفع معدلات البطالة خلال العدوان وبعده، وهي إلى ذلك أصلًا كانت مرتفعة النسبة منذ العام الماضي، إذ بلغت نسبتها نحو 24% في مجمل الأراضي الفلسطينية، وهي موزعة بنسبة 13% في الضفة الغربية و45% في غزة، على أنّ فئة الشباب والنساء هي الأكثر تضررًا. كذلك يتوقع أن يواصل الاقتصاد الفلسطيني أداءه الضعيف في المرحلة القادمة، خاصة أن تقرير "البنك الدولي" أشار في الشهر الماضي- قبل بداية العدوان الإسرائيلي- إلى توقعات بنموه بمعدل 3% خلال العام الحالي. وقال البنك أيضًا إنّ الدخل الفردي قد يظلّ جامدًا، مما يؤدي إلى انخفاض مستويات المعيشة لدى السكان.

وكان "مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية" (الأونكتاد) قد أعلن في تقرير رسمي أنّ قطاع غزة يشهد تراجعًا في التنمية منذ بدء الحصار الإسرائيلي قبل 16 سنةً، إذ يقول التقرير إنّ الحصار المطبق على المنطقة أفرغ الاقتصاد من قدراته وقوته، ودفع السكان إلى الاعتماد على المساعدات الإنسانية. وأفاد التقرير كذلك بصعوبة حصر التداعيات الاقتصادية الناجمة عن العدوان الإسرائيلي في المرحلة الحالية، إذ: "يتعذر تحديدها" على حد وصف التقرير.