24-أبريل-2024
تاريخ الحرب العالمية الأولى

(freepik) لم تكن الحرب العالمية الأولى حتمية أو عرضية، بل بدأت نتيجة أفعال وقرارات بشرية

الحرب العالمية الأولى.. هذه الحرب العظمى (والعظمى هنا بأسوأ دلالاتها) التي لم تنعكس نتائجها المدمرة على أطراف الحرب وحدهم، بل إن دمارها طال العالم كله، سواء بالقتل والدمار أو حتى الآثار النفسية والاجتماعية على الذين عاشوا تكويهم ويلات الحرب المستمرة بعد توقفها. وفي هذا المقال نحاول تقديم ملخص للأسباب التي قامت من أجلها هذه الحرب، وما نتج عنها من آثار على حياة البشرية جمعاء.

 

أسباب الحرب العالمية الأولى

رغم أن أوروبا في القرن الـ19 عشر كانت تعيش استقرارًا سياسيا إلى حد ما، إلا أنه لم يدم طويلًا، فقد نشبت الحرب العالمية الأولى حينما أعلنت أكثر من 20 دولة الحرب بين عامي 1914 و1918، وخلال ذلك الوقت شكلت بريطانيا وفرنسا وروسيا قوى الحلفاء. وعلى الجانب الآخر، شكلت النمسا والمجر وألمانيا وإيطاليا تحالفًا باسم قوى المركز. ولكن بطبيعة الحال لم تكن تلك التحالفات ثابتة، فقد غيرت إيطاليا موقفها خلال الحرب؛ كما انضمت الولايات المتحدة واليابان والعديد من الدول الأخرى إلى قوى الحلفاء؛ أما فيما يخص منطقتنا فقد انضمت الإمبراطورية العثمانية جنبًا إلى جنب مع بلغاريا إلى قوى المركز؛ بينما طرأت ثورة في روسيا دفعت قادتها إلى الانسحاب من الحرب. وفي محاولة لفهم هذا الموت والدمار، يبرز سؤال هام: لماذا اندلعت الحرب العالمية الأولى في قارة كانت مسالمة ومزدهرة في الغالب؟

ظاهريًا كان اغتيال فرانز فرديناند، وريث عرش النمسا-المجر، في عام 1914، سببًا في إشعال حالة الطوارئ والتراشق بإعلانات الحرب

إرهاصات الحرب.. أوروبا على كف عفريت

ظاهريًا كان اغتيال فرانز فرديناند، وريث عرش النمسا-المجر، في عام 1914، سببًا في إشعال حالة الطوارئ والتراشق بإعلانات الحرب. ولكن في العمق، يطرح المؤرخون وجود أسباب دفينة كانت دافعًا نحو هذه الحرب. ولفهم الأسباب العميقة وراء نشوب الحرب العالمية لا بد من الرجوع إلى الوراء بـ 100 عام على تاريخ الحرب، وفيما يأتي بعض الأسباب التي هيأت الأرضية لاشتعال أوروبا والعالم:

  • كانت للمستعمرات التي ضُمت لكل دولة أوروبية وإعادة ترسيم الحدود دور بارز في تنامي الأحقاد السياسية بين دول أوروبا. ولاحقًا بعد هزيمة نابليون حاول القادة الأوروبيون إنهاء الحرب من خلال الاجتماع لمحاولة إرساء اتفاقيات سلام سميت بالوفاق الأوروبي، منعا لنشوء الثورات على الأنظمة الحاكمة وإشعال الفتن مجددًا 
  • بفضل الوفاق تقدمت الدول وزاد نفوذها. وزادت الابتكارات التكنولوجية لإنتاج الآلات، والصلب، والكهرباء، والكيمياء الحديثة وفي الوقت نفسه أدت التحسينات في الشحن والسكك الحديدية والأسلحة إلى اتساع النفوذ الاستعماري للبلاد. وبالتالي خضعت دول العالم للسيطرة الاستعمارية الأوروبية عمومًا طوال القرن الـ19

عوامل نشوب الحرب العالمية الأولى

ولكن بحلول منتصف القرن الـ19 عادت الصراعات بين الدول الأوروبية بسبب عدة عوامل وهي

  • صعود ألمانيا

بطريقة ما كانت القوى الأوروبية متقاربة في التسليح والنفوذ في تلك المرحلة، هذا حفز الدول على تجنب الصراعات التي لن تأتي بأي مكتسبات، ومع ذلك، تغيرت ديناميكيات السلطة في النصف الأخير من القرن التاسع عشر. فقد شهدت بريطانيا – أكبر إمبراطورية في العالم وأكبر قوة بحرية واقتصادية – أن قوتها بدأت تضعف في منتصف وأواخر القرن الـ19. بالتزامن مع صعود الدول الصناعية السريعة مثل الولايات المتحدة وألمانيا وتفوقها على بريطانيا. ونتيجة لذلك، تلاشت تفوق بريطانيا التكنولوجي والتصنيعي على بقية العالم. وهذا أفسح المجال لظهور ألمانيا كدولة مستقلة في عام 1871 عندما قام الزعيم بسمارك بتوحيد الأمة الألمانية. فقبل التوحيد، كانت ألمانيا مقسمة إلى 39 دولة مستقلة- فصارت ستصبح ألمانيا الموحدة الجديدة ثرية من خلال التصنيع. فظهرت قوتها على المسرح العالمي من خلال الاستحواذ على مستعمرات في أفريقيا. وفي عهده حافظ على السلام في القارة من خلال تحقيق التوازن بين القوى الأخرى، ولكن القادة اللاحقين كانوا عكسه. فكان فيلهلم الثاني عدوانيًا، كما ظهر من تصريحاته، واستثمر في التسليح.وسعى لبناء قوة بحرية يمكنها تحدي الأسطول البريطاني. فدفعت هذه العسكرة السريعة سباق التسلح في القارة، مما أدى إلى زعزعة توازن القوى في أوروبا.

  • القومية

في الفترة التي سبقت الحرب العالمية الأولى، غذّت النزعة القومية رغبة الدول في التفوق على بعضها من خلال إمبراطورياتها وجيوشها وابتكاراتها التكنولوجية. ومن ناحية أخرى، فقد عززت الحكومات، ووسائل الإعلام المطبوعة الجديدة، والمدارس والجامعات،رسائل تفوق كل دولة. حتى أن اغتيال الأرشيدوق فرانز فرديناند من النمسا نُفذ باسم القومية السلافية.

  • شبكات التحالف

لعله كان من الممكن أن يظل الاغتيال الذي حدث بحق فرانز فرديناند كان يمكن أن يبقى أثره محدودًا في الإطار المحلي، ولكن شبكة التحالفات التي أنشأها حكام أوروبا آنذاك قد بنيت هذه على فكرة أن أي هجوم على دولة واحدة سوف يتم التعامل معه باعتباره هجومًا على التحالف بأكمله.

فبعد أسبوع واحد من اغتيال فرانز فرديناند، تعهد القيصر الألماني فيلهلم الثاني بتقديم الدعم غير المشروط للإمبراطورية النمساوية المجرية، لكنه اختار الرد على الهجوم. وبهذا، أعلنت النمسا والمجر الحرب على صربيا في 28 يوليو/تموز 1914. وفي غضون أيام، أعلنت فرنسا وألمانيا وروسيا إعلانات الحرب المتتالية. وهكذا تلاحقت الأحداث حتى نشبت الحرب المدمرة

بسبب الحرب غرقت معظم القارة الأوروبية في حالة من الفوضى الاقتصادية والإنسانية والعسكرية

نتائج الحرب العالمية الأولى

انتهت الحرب في عام 1918، بأن أعلن انتصار قوات الحلفاء. ومع ذلك، بقي الجانبان يعانيان من حجم الدمار الناتج. لقد استخدمت تقنيات حربية جديدة مثل الغاز الكيميائي والمدفعية مما جعلها حربا ضروسًا. وقد نجم عنها وفاة 9 ملايين جندي، في حين أن عدد القتلى المدنيين تجاوز على الأرجح 10 ملايين. كما تفشت الأمراض المعدية، ودمر القتال البنية التحتية، وكانت الخسائر المالية للحرب هائلة. فغرقت معظم القارة الأوروبية في حالة من الفوضى الاقتصادية والإنسانية والعسكرية. وفيما يلي تفصيل الحديث عن نتائج الحرب:

  1. نتائج الحرب العالمية الأولى العسكرية

لم تكن الحرب العالمية الأولى حتمية أو عرضية، بل بدأت نتيجة أفعال وقرارات بشرية. فقد تطوع أكثر من 65 مليون رجل أو تم تجنيدهم للقتال في الجيوش. وكان النصر يعتمد على الدعم الشعبي. وقد كانت الحرب العالمية الأولى حربًا ضد الناس أيضًا. وارتكبت الجيوش الغازية فظائع ضد المدنيين في المناطق التي احتلتها. ومن نتائج الحرب:

  • تكنولوجيا الحرب الجديدة الفتاكة: تشمل الابتكارات العسكرية المستخدمة في الحرب الألغام الأرضية وقاذفات اللهب والغواصات والدبابات والطائرات المقاتلة. إذ سمح التصوير الجوي لكلا الجانبين بإنشاء خرائط متطورة لمواقع خصومهم. كما أعطت المدفعية بعيدة المدى للجنود القدرة على إطلاق النار على الأعداء الذين لا يستطيعون رؤيتهم. بالإضافة إلى استخدام أسلحة الدمار الشامل، كالغاز الكيميائي. هذا أدى إلى معاناة الآلاف من المحاربين لصدمات نفسية.  
  • تكون مفهوم الحرب الشاملة: منحى القتال في الحرب كان بعيدا عن أي أدبيات للحرب مهما كانت متواضعة؛ فقد  كان كل شيء في دولة العدو هدفًا للقصف فكانت الأهداف المدنية والعسكرية سواء. وذلك كاستخدام ألمانيا الغواصات لمهاجمة السفن المدنية واستخدمت المناطيد لقصف المدن في بريطانيا. ناهيك عن عمليات القتل الجماعي والإبادات بحق مجموعات عرقية معينة.
  1. نتائج الحرب العالمية الأولى في مختلف المجالات

تركت الحرب العالمية آثارا على كل مناحي الحياة في أوروبا والعالم، ومنها:

  • التطور الطبي: بسبب الأسلحة الجديدة وآثارها، فإن العديد من الممارسات الطبية والأدوات المنزلية الشائعة تعود أصولها إلى الحرب. كما حدث حين بدأ الأطباء باستخدام سترات الصوديوم لمنع تجلط الدم. واضطرار الأطباء لإجراء بعض أولى عمليات ترقيع الجلد الناجحة، التي مهدت الطريق للجراحة التجميلية الحديثة.وأهم الاختراعات الطبية آنذاك كان اختراع الجبائر التي كان لها الفضل في تقليل خطورة بعض الإصابات بشكل كبير؛ فقبل الحرب، كانت نسبة الوفاة بين الجنود مصابين بكسر في عظم الفخذ 4 من 5؛ وبعد إدخال الجبيرة، صارت نسبة النجاة 4 من كل 5. كما أدت الحرب إلى لتطوير بدائل للضمادات القطنية. 
  • التوقيت الصيفي: تم تطوير التوقيت الصيفي خلال الحرب العالمية الأولى للحفاظ على الطاقة وتوفير المزيد من ساعات النهار للمعركة. وعلى الرغم من أن معظم دول العالم ألغت العمل به بعد انتهاء الحرب، إلا أن الحرب العالمية الثانية كانت سببًا في إعادة اعتماده سريعًا. 
  • الإنتاج الغذائي: فقد تم تصنيع السجق النباتي في ألمانيا خلال الحرب كوسيلة رخيصة لإضافة البروتين إلى الوجبات وسط النقص المتكرر في الغذاء. فقرر عمدة مدينة كولونيا كونراد أديناور، آنذاك، صنع ما يسمى بـ "سجق كولونيا" باستخدام فول الصويا والدقيق والذرة والشعير والأرز المطحون. وكانت لذيذة ومقبولة رغم كل شيء 
  • الجراحة التجميلية: كان ارتفاع عدد المصابين بالتشوهات في الوجه وشدة الإصابات بين الجنود الذين في الحرب العالمية الأولى، حافًا للمجتمع الطبي لابتكار إجراءات إعادة ترميم الوجه بأسرع ما يمك. فخرج الطبيب هارولد جيليس بفكرة استخدام أنسجة الوجه الخاصة بالمريض لتقليل فرصة رفض الزرع، مما شجع على التطور السريع في مجال الجراحة التجميلية.
  • استخدام ساعات اليد: دفعت حاجة الجنود في الخنادق، الذين كانوا معزولين عن أي معرّفات للوقت عبر أجراس الكنائس وصفارات المصانع. إلى استخدام ساعات اليد، التي كان يُنظر إليها على أنها إكسسوارات نسائية قبل الحرب العالمية الأولى، ولكنها ما لبثت أن صارت جزءًا أساسيًا من معدات الجنود. حتى أن عبارة "مزامنة ساعاتك" ترمز إلى أهمية استخدام الساعة في ساحة المعركة حيث كان لا بد من جدولة القتال بدقة؛ حيث كان التوقيت أداة حيوية للتواصل والبقاء.
  • إنتاج الأفلام الإخبارية: قديمًا كان الناس يصطفون في دور السينما لمشاهدة حلقات مدتها ساعة تتنوع بين الأخبار والفقرات الترفيهية. وحينها نادرًا ما تضمنت الأفلام الإخبارية تقارير عن الحرب في بدايتها.ولكن مع تقدم الحرب وتعطش الجمهور لمعرفة المجريات، بدأت الأفلام الإخبارية تتضمن لقطات من الصراع الدائر. وتضمنت المقاطع الإخبارية صورًا لإطلاق السفن العسكرية، والمدنيين الفارين من قراهم، وأسرى الحرب، وساحات القتال. هذا كله أدى إلى توثيق الوقائع والأحداث المروعة للحرب بالفيديو على مرأى ومسمع من الناس.
  • تغير أدوار النساء: أدت مشاركة الرجال في الحرب إلى ترك فراغ في الأوطان في المهن والوظائف التي تسيّر البلاد، وقد غطت النساء هذا الفراغ بكفاءة. وهذا بطبيعة الحال ساهم باستقلال المرأة اقتصاديًا ونفسيًا، ومن مسببات تلك المرحلة أن نجحت مجموعات حقوق المرأة في الضغط من أجل حق الانتخاب في العديد من البلدان بين عامي 1917 و1920. وكنتيجة لخروج المرأة إلى العمل تأثرت الأزياء النسائية بالحرب، فقد مالت العاملات إلى لبس السروايل بدلا من التنانير، وإلى اعتماد ما يريح الجسم ويؤمن سلامة الحركة وحريتها

ولكن من الضروري القول إن هذه الحرب وويلاتها لم تجعل حياة النساء أفضل، كما لم يكن الاستقلال الاقتصادي للمرأة أمرا جيدًا، ولا حتى متاحًا للنساء جميعهن ، فقد رُملت ما لا يقل عن 3 ملايين امرأة بسبب الحرب وكان عليهن مواجهة أسوأ الظروف.

صارت أراضي تلك الإمبراطوريات السابقة مشاعًا للمنتصرين في الحرب العالمية الأولى

  1. نتائج الحرب العالمية الأولى السياسية

من آثار الحرب صعود قوى الدولية وسقوط أخرى:  فقد كانت نهاية الحرب العالمية الأولى بمثابة تحول في القوى العالمية. وبلغت الحرب ذروتها بسقوط الإمبراطوريات الكبرى، مثل الإمبراطورية العثمانية، وصعود قوة عالمية جديدة هي الولايات المتحدة التي ما زال بلاؤها يعم العالم حتى اللحظة. كما أدت الحرب العالمية الأولى إلى انهيار 3 إمبراطوريات أخرى: الإمبراطورية النمساوية المجرية، والألمانية، والروسية.

وبطبيعة الحال، صارت أراضي تلك الإمبراطوريات السابقة مشاعًا للمنتصرين في الحرب العالمية الأولى. ومثال ذلك اتفاقية سايكس بيكو بين بريطانيا وفرنسا التي نصّت على تقسيم الأراضي التابعة للدولة العثمانية، وتزامن ذلك مع انطلاق الثورة العربية الكبرى. وفي الوقت نفسه، اضطرت ألمانيا إلى التنازل عن مستعمراتها في أفريقيا والمحيط الهادئ كجزء من شروط معاهدة فرساي. حددت معاهدة السلام هذه شروط نهاية الحرب العالمية الأولى في عام 1919. كما أدى تفكك هذه الإمبراطوريات إلى إنشاء دول جديدة في أوروبا مثل تشيكوسلوفاكيا ويوغوسلافيا بالإضافة إلى عودة ظهور الدول القديمة مثل بولندا.

ولكن ويلات الحرب كانت من الشدة بحيث كانت الدول المنتصرة في أوروبا في حالة ضعف شديد، هذا أدى إلى تحول مركز القوة العالمية عبر المحيط الأطلسي إلى الولايات المتحدة. والمثير للسخرية أنه رغم أن الحرب العالمية الأولى كانت مدمرة بشكل يفوق قدرة أي عاقل على التحمل، إلا أن ذلك لم يردع أحدًا، ولم تكن هذه الحرب رغم كل الدمار والخسائر إلا تمهيدًا لحرب عالمية ثانية أكثر فتكًا بعد عقدين من الزمان فقط.