16-يناير-2024
أفضل أفلام الحروب - فيلم حصان حرب

لقطة من فيلم حصان حرب (Imdb)

شكّلت الحروب، ولا تزال، مجالًا بحثيًا فلسفيًا ووجوديًا شديد الإغراء بالنسبة لصنّاع السينما الحديثة، الذين قدّم اللامعون منهم أعمالًا فريدة في قراءتها واستعراضها للحروب، ومساءلة القيم الإنسانية والوجودية من خلالها. بل وأصبح التاريخ يشكّل مساحة صغيرة ومحدودة في سياق الحكاية السينمائية التي تجعل من الحرب موضوعًا، إذ ركّزت السينما الحديثة على الحكاية الإنسانية بوصفها التاريخ الذي يجب أن يعيش. فالانغماس الشديد في بيئة عبثية وعدمية يحيط بها الموت من كل جانب، يستدعي أدق تفاصيل الحياة، ويدفع نحو تكريم النموذج الإنساني، أكثر بكثير من تمجيد السلاح أو النصر.

لكن ذلك لا يعني على الإطلاق الفرار من حتمية تصوير بشاعة الحرب، وانحطاط القيم الإنسانية، وتجريد الصراع الإنساني إلى أبسط صوره، في سبيل إظهار فداحة الحرب ولا معقوليتها، إذ لا بد للسينما التي تناهض الحرب أن تستحضرها بكل بشاعتها وقسوتها، لأن التعامل مع الموت يحتاج فهمًا مرهفًا لديناميكية الحياة وقيمة البقاء.

أصبح التاريخ يشغل مساحة صغيرة ومحدودة في أفلام الحروب التي باتت تركّز على الحكاية الإنسانية بوصفها التاريخ الذي يجب أن يُروى ويعيش

لقد نحت السينما الحديثة المنتمية إلى عالم "هوليوود" بشكل خاص، نحو إجراء مقاربات إنتاجية، تقرّب مفردات الحرب لصورتها الواقعية، وعادةً ما توخت هذه الإنتاجات الضخمة الجوانب التسويقية والتشويقية لصناعة فيلم مربح ومؤثر. كما استفادت هذه الأفلام بشدة من الفلسفة التطهيرية للعنف وطرق توظيفه لإشباع رغبات الجمهور تجاه الصور العنيفة، وتطهيره منها عبر المزيد من العنف. فالدماء والأشلاء والانفجارات الضخمة جزءٌ من سينما الإثارة "الأكشن" في بعدها التجاري. وقد شكلت سينما الحرب، من خلال تراكم التجارب، مساحة واسعة لاختبار مفاهيم العنف في السينما وتسليعها.

لكن هذا العنف لم يتعارض مع وجود حكاية سينمائية قوية ومزامنة لفلسفات أخرى إلى جانب فلسفة العنف، مثل الفلسفة الوجودية، وفلسفة الجمال والأدب، إذ نجح هذا التيار في جمع المتناقضات، وميّز نفسه بشكل جيد عن أفلام البروباغندا الدعائية التي حملتها أفلام الحروب التجارية، التي شاعت في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، إذ سعى التيار الجديد إلى مساءلة الحرب ومناهضتها عبر السينما من خلال تأصيل النموذج الإنساني، والقفز على مفهوم العدو إلى مفهوم الآخر. وفي بعض الأحيان، يمكن الشعور بقوة، من خلال بعض الأفلام الحديثة، أن سينما الحروب هي في الأصل موقف السينمائيين من الحرب.

وصار من الواضح، خاصة لمتلقي شرق المتوسط، الفصل بين سينما البروباغندا الحربية وسينما الموقف. وقد أظهر مخرجون كُثر ينتمون إلى هذا التيار، قدرة واضحة على تحويل الحرب إلى سؤال كبير تذوب فيه صورة العدو في مقابل بروز صورة الذات والآخر، بالإضافة إلى الأساليب المبتكرة في طرق سرد الحكاية السينمائية.

وفي هذا المقال، نسلط الضوء على مجموعة من أفضل أفلام الحروب التي حملت في مشاهدها صورة تأملية للإنسان الذي قهرته الحرب، وذهبت بعيدًا في توظيف مفردات الأخيرة كصورة عن الجحيم الذي يصاحبها، أي ذلك الذي يقربنا من آدميتنا بقدر ما يُبعدنا عن الحياة.


1- حصان حرب

يأخذنا المخرج ستيفن سبيلبرغ في فيلمه هذا إلى فضاء الحرب العالمية الأولى، ويبدأ حكايته السينمائية بإظهار صورة الحياة البسيطة والخالية من التعقيدات. الحياة الخام التي لا توجهها تعقيدات المدينة ومبرراتها، والتي قد تجد بسهولة ما يُبرِّر الدخول بالحرب وتبنيها.

تنتقل صور سبيلبرغ المفعمة بشعرية خاصة يشوبها الحزن وببيئة لونية تحمل مناخ الحرب المقبلة، بطريقة تشبه حصانًا في مرج شاسع يلفظ أنفاسه الأخيرة. صور مليئة بالخوف والحزن والشعر والجمال يروي من خلالها قصة الحرب بطريقة مبتكرة وجديدة كليًا عبر تصوير وتناول أحداث الحرب العالمية الأولى من وجهة نظر حصان قوي شديد التحمل كان يعيش في مزرعة، ثم باعه صاحبه بسبب العوز، فجرى إدراجه ضمن سلاح الخيالة البريطانية.

تزداد القصة ملحمية حين يُرسل الحصان إلى فرنسا، وقد ذُهل كل من امتلكه من قدرته الفائقة على الصمود والتحمل.  كما مُنحت بُعدًا أشد عمقًا من خلال حب الحصان لفرسة أخرى تعاني ما تعانيه في الحرب. وفي تلك الأثناء، كان ابن مالكه السابق يبحث عنه، وتطوّع في الجيش لأجله، وبالفعل يلتقي به في النهاية، ويتحد مصيره مع مصير الحصان الذي تجمعه به الكثير من الذكريات.

يقدّم الفيلم الذي يُعد من من أفضل أفلام الحروب، قصة ملحمية رائعة بحد أدنى من الحوارات والمونولوجات، لكنها كانت مفعمة بالحياة واللغة العميقة. وقد رفع سقف التحدي في صناعة أفلام الحرب، وجعل من الحصول على حكايات استثنائية أشبه بالتنقيب في حطام التاريخ لإيجاد الحكايا المهمشة والمنسية التي تنطوي على تاريخ مختلف للحرب. ولا بد من الإشارة إلى أن الفيلم مقتبس عن رواية للكاتب مايكل موربورغو.



2- خزانة الألم

يُعد "خزانة الألم" فيلم خاص واستثنائي. وعلى الرغم من أنه استُقبِل ببعض الرفض في العالم العربي، واتُّهم كذلك بالانحياز ضمنًا إلى السردية الأمريكية في حربها على العراق، لكن من الواضح أن الفيلم حاول التركيز بشكل كبير على موضوعة الحرب أكثر من تركيزه على ملامحها وتأثيراتها السياسية.

وربما هذا التعميم وتجاهل الإحصائيات والرعب والعذاب الذي جرّته أمريكا على الشعب العراقي، كان سببًا رئيسيًا في هذا الاستقبال غير الودي للفيلم. لكنه، مع ذلك، يعد واحدًا من أهم الأفلام التأملية في فلسفة الحرب ومحاولة قراءة معنى الحياة من خلال الموت، إذ ركز الفيلم في الكثير من مشاهده على فكرة الأرض التي تُقاتل إلى جانب أبنائها، فالخوف والرعب والقلق الذي كان يسيطر على مجموعة فك العبوات والمتفجرات والألغام التي كانت تزرعها المقاومة العراقية على طريق الجنود الأمريكيين وسط أحياء بغداد، كان مؤشرًا سينمائيًا قويًا على هذه الفكرة.

وعلى الرغم من أن الفيلم استطرد في التعميم بنسبه الأعمال الوحشية إلى المقاومة، مثل تفخيخ بعض المواطنين المتعاونين مع الأمريكيين كما ظهر في مشهد الطفل الصغير الذي قُتل بشكل وحشي بتفجيره وسط الجنود الأمريكيين، لكنه أظهر في المقابل حالة العبثية التي تتملك الجنود الأميركين في بيئة مشحونة بالكراهية والحقد.

 وإمعانًا في التأمل في فلسفة الحرب، استخدمت المخرجة كاثرين بيغلو مشاهد طويلة جدًا بزمن حقيقي وليس سينمائي، لتفكيك العبوات وللقناصة الأمريكيين المزروعين على حواف الأسطحة وخلف الجدران الطينية، إذ كانت تحاول إظهار نظراتهم الفارغة وعيونهم المتحجرة التي لا تعبّر عن شيء سوى فراغ الصمت والموت، وتدعونا من خلال استخدام الزمن الحقيقي إلى التأمل، وكأننا نحن الجنود "الضحايا".

نال الفيلم خمس جوائز "أوسكار"، بينها أوسكار أفضل فيلم، وأفضل إخراج، إلى جانب جوائز فنية وتقنية أخرى. كما حصد عددًا من جوائز "البافتا" البريطانية، وصُنّف كذلك كأفضل فيلم في عام 2010.



3- كل شيء هادئ في الميدان الغربي

يحكي الفيلم قصة مجموعة من الشبان الألمان اليافعين والمدفوعين بأحلام البطولة والوطنية، ببراءة مفرطة، الذين يتم تجنيدهم وإرسالهم إلى جبهات القتال، التي يصلون إليها محملين بالبراءة. لكن ذلك سرعان ما يتبدّل بفعل قوة ووحشية القتال على الجبهة.

وشيئًا فشيئًا، تبدأ كاميرا المخرج الألماني إدوارد بيرغر بالتركيز على شخصية بطل الفيلم "باول"، والغوص في أعماقه ومحو تلك الملامح البريئة التي كانت تعلو وجهه واستبدالها بأخرى تعبّر عن الصدمة والتوحش، وتظهر على وجهه في كل مرة ينجو فيها نجاة أسطورية من موت محتم. لكنه، وفي الوقت نفسه، يشاهد سقوط رفاقه قتلى واحدًا تلو الآخر.

يتناول الفيلم الأشهر الأخيرة من الحرب العالمية الأولى، ويرصد الهوة السحيقة بين الجنرالات في المكاتب، والجنود الذين يقاتلون ويُقتلون في الخنادق، حيث تتحول الحرب من قضية وطنية إلى مسألة شخصية، ويتحول الجنود من مقاتلين إلى قتلة.

 ترصد عدسة المخرج الألماني تلك التحولات بمهارة، وتبُرز كذلك عالم الشخصية الرئيسية الداخلي ببراعة شديدة، وتُظهر كيف حولت تلك الشهور القصيرة ذلك الشاب البريء المتحمس إلى وحش قاس يتلقى طعنة من جندي فرنسي في ظهره قبل إعلان الهدنة بدقيقة واحدة، كاشفًا كيف أن الحرب صارت حربه، تنتمي إليه وينتمي إليها، ولم يعد هدفها النصر وإنما النجاة.

نال الفيلم الذي يُعتبر من أفضل أفلام الحروب، استحسان النقاد والجمهور في آن معًا، مع ملاحظة الإفراط في مشاهد العنف حد الولع. كما نال أربع جوائز "أوسكار" متنوعة، من بينها أوسكار أفضل فيلم أجنبي، ناهيك عن جائزة "البافتا" البريطانية لأفضل فيلم، وجائزة الفيلم الألماني، وغيرها.