02-أغسطس-2022
فيليب لاركن وت س إليوت

فيليب لاركن وت س إليوت

تناولت بعض الصحف البريطانية مؤخرًا إعلان الهيئة الناظمة للمناهج المدرسية والامتحانات الرسمية التخلي عن نصوص عدد من الشعراء الإنجليز العريقين كفيليب لاركن، لصالح إدخال نصوص شعراء "ملونين" إلى المقررات الدراسية لضمان تمثيل التعددية الثقافية في المناهج التعليمية. وهذا المنحى هو رضوخ لأصوات بدأت تعلو لتعديل دفة التمثيل الثقافي ليشمل الأقليات المهاجرة المشكلة للنسيج البريطاني.

منذ خمسينيات القرن الماضي كان لاركن متحدثًا باسم تلك الشريحة الإنجليزية التي بدأت تذوب في الأطراف لصالح كوزموبوليتية لندنية تربع إليوت على عرشها

لا شك أن هذا يؤشر على نوع من تخلي النخبة عن أحد أعمدة الشعر الإنجليزي الحديث. فلاركن قاد عملية انسحاب من الهوية البريطانية إلى عمق إنجليزي أكثر انعزالًا وأقل كوزموبوليتية. وهو بذلك، شكل خروجًا عن سطوة النظرة الثقافية البريطانية في الشعر الحديث التي كان قد أرساها ت. س. إليوت في قصائده ومسيرته في النقد، وفي تأثيره في تحديد المناهج الثقافية والدراسية في جامعتي أوكسفورد وكامبريدج في بدايات القرن المنصرم، من خلال صداقات مع فرانك رايموند ليفيس الناقد الأدبي والأستاذ في جامعة كامبردج وناشر دورية التدقيق النقدية، وعلاقة إليوت الوطيدة بعصبة بلومسبري في لندن التي ضمت فيرجينيا وولف وجون مانيارد كينز. خروج لاركن من أسطرة الهوية البريطانية المتمحور حول المدينية اللندنية ومؤسساتها التجارية الهرمية، كان عملية اعتراض على قيود وضعتها تحالفات الملكية والنخبة السياسية والثقافية في أعقاب الحرب العالمية الأولى والتي مثّل إليوت أحد بطاركتها الثقافيين.

لم يتوان فيليب لاركن عن المجاهرة بيأسه المتزايد من ضمور هويته الأم التي فقدت الاتصال بتاريخها وأساطيرها وطقوسها. فمنذ خمسينيات القرن الماضي كان لاركن متحدثًا باسم تلك الشريحة الإنجليزية التي بدأت تذوب في الأطراف لصالح كوزموبوليتية لندنية تربع إليوت على عرشها. وهذه الشريحة وجدت في لاركن وقلقه على أرض أفرغت نفسها من ماضيها، متحدثًا باسمها، وهي حالة من السخط على ضياع الأصل الذي ذوى في كلٍّ يتمدد ليحافظ على مكتسبات إمبراطورية جنتها المملكة في القرون الفائتة.

بدأ إليوت بتصدر المشهد الثقافي في لندن منذ عام 1914 مع بداية الحرب العالمية الأولى آتيًا من سان لويس في ولاية ميزوري الأمريكية، ومتحدرًا من عائلة كاثوليكية ميسورة، كانت حاضرة في المجتمع الأرستقراطي ومنخرطة في الشأن العام، تدعي رفعة في الذوق الثقافي وتلتزم بنزعة محافظة وبخلفية تتصل بالكنسية التوحيدية (Unitarian) وعلى تناقض بنيوي مع الكنيسة البروتستانتية (Puritan) التي سيطر اتباعها على الطبقة الوسطى. وكان من أثر هذه النزاعات أن انحسر حضور عائلة إليوت وذائقتهم الثقافية لصالح انتشار نسق نفعي تبناه "رعاع" بروتستانت، مدعومين بمد انتصار الشمال في الحرب الأهلية، وانتشار الأفكار الليبيرتارية، لا يقيمون وزنًا لقيم الأستطيق ولا تحركهم إلا مصالحهم الصناعية والتجارية والإنجاز الرأسمالي.

يلاحظ تيري إيغلتن أن إليوت وجد المشهد الثقافي في بريطانيا مشابهًا في "انحلاله" لما حصل في مسقط رأسه الذي غادره للتو. فالثقافة في بريطانيا آنذاك كانت تخضع في وجه من وجوهها لخطاب الرومنطيقيين الممتد من القرن التاسع عشر، وانشغال أدبياتهم ونتاجهم الفني بالإيغال برمزية مرتحلة عن مشاغل الطبقة الوسطى غير المثقفة والمنشغلة بيوميات التجارة والاقتصاد، والغائبة حكمًا عن معاناة الطبقة العاملة الدنيا الخام وغير المتعلمة والمفتقدة للذوق الفني. وترافق هذا الخضوع الثقافي مع اضمحلال للخطاب الكنسي ورمزيته وعجزه عن تأمين نقطة جذب وإقناع لتلك الطبقات الاجتماعية. وهذا المنحى المنفصل للفن عن الحياة عمّقه تيار الفلسفة العقلانية الذي اتخذ من الإمبيريقية منهجا لاستخراج المعنى من الدلالة متجاهلًا الحسي في علاقة البشر بالأشياء. في حين أن الثورات والتغيرات الثقافية في فرنسا وألمانيا طرحت أفكارًا تغييرية بنفس أناركي أثار انتباه هاتين الطبقتين وأفزع المؤسسة الملكية والنخبة السياسية البريطانية.

وسط هذا الخراب اختبر إليوت إمكانية بناء مشروع ثقافي يغير فيه أعمدة هذه التركيبة. ولم يكن النبض المندفع لتركيب هذه الهندسة الثقافية سوى ذاك الناجم عن غربته عن أصالتها. فهو رأى نفسه دخيلًا على هذه الثقافة، وهذا اللاانتماء بالذات كان بوابة دخوله إلى المحلي. لاحظ إليوت أن قدرة الدخيل أعلى من الأصلي على التقاط روح المكان وثقافته واستقراء تمايزاته وخارطة إمكاناته. والمعنى أن كونك غير أوروبي أو ريفي أريستقراطي بريطاني هو أفضلية وليس نقصًا، فالغريب الهارب من مكانه يمكنه أن ينتمي الى أي مكان.

أولى قصائد إليوت في خريطة هذه الهندسة كانت قصيدة بروفورك، وفيها كسر إليوت بنية القصيدة التقليدية الموزونة، ولكنه أبقى نغمًا يجعل من المونولوغ الذي يؤلف النص ترنيمة روح تهذي حينًا وتسخر حينًا آخر وتعود خاشعة مستسلمة لسلطة روحية عليا. فـ بروفورك يندب عجزه عن المبادرة والتقدم في لغة تُصنع من ازدواجية الإحباط والتوقف أمام نقطة تأزم داخل الذات. يغرق فيها الرجل عبر موجة من التساؤلات الساخرة إلى حدود العدم، ثم العودة منه إلى رثاء الروح التي وقعت في هذا الفخ المحكم من المراوحة. ومن خلال سلالم التساؤلات المرتفعة حينًا، والهابطة حينًا آخر، يخرج إليوت أولى أفكاره عن الثقافة، فهو في مكان ما في القصيدة يمرر بوحًا مسيحيًا عن استحالة الانفكاك عن الذات الإلهية، رغم ما تتيحه مادية الحياة الحديثة من انفتاح واسع للتنعم بالموسيقى، والكلام عن فن مايكل أنجلو في المقاهي الراقية وتناول الشاي والقهوة بالأكواب الفاخرة. ثم يعاود الهبوط إلى مدارات التأنيب والسؤال إذا ما كان يجرؤ أن يعكر صفو الكون بتساؤلاته هذه. ليخلص إلى نقطة التسليم بصغر ذاته الخاشعة طالبًا الصفح عن ذنوبه. فهو يذكر نفسه مرارًا بأنه ليس نبيًا أو ملاكًا ليتنبأ، ثم يختم برؤية تائبة متخففه، فهو ليس هاملت ليحمل كل ذنوب الأرض، وما السياسة إلا حمل ثقيل لشخص عادي، تتطلب رفعة المعرفة وبلاغة اللغة وإثمًا يستدعي الحذر من ضياع الذات في سخافتها المبتذلة حد الهذيان.

يلاحظ تيري إيغلتن أن إليوت وجد المشهد الثقافي في بريطانيا مشابهًا في "انحلاله" لما حصل في مسقط رأسه الذي غادره للتو. فالثقافة في بريطانيا آنذاك كانت تخضع في وجه من وجوهها لخطاب الرومنطيقيين الممتد من القرن التاسع عشر

مشروع إليوت هو مشروع مغادرة وابتداء، قام على محاولة صناعة تقليد جديد. تقليد يميني محافظ يجمع في مكوناته التفافًا حول المَلكية كإرث يجب صونه لأنه يمثل نواة أصيلة تاريخية تلتف حولها أبنية شركات تجارية ومالية هرمية ضخمة - وهو الذي عمل في مصرف لويد العريق، ومن ثم في دار فابر للنشر والتوزيع- وكسد منيع أمام فردية صغار الكسبة ومنفعيتهم الضيقة الأفق. وعليه كان لا بد من إخراج الثقافة السائدة آنذاك من بؤرتها التي تراوح فيها إلى بنية مركزية مدينية جديدة، تدفن ريفية الأرستقراطيين وتضبط فيها اللغة عقول وأرواح الطبقتين الوسطى والعاملة كبديل عن الأناركية المتأججة في أوروبا والليبيرتارية الصاعدة في أمريكا، وكانتا تمثلان نقطتي إغراء للذات الفردية تدفعانها للتفلت من إخلاصها وطاعتها لبنى اجتماعية وسياسية ودينية مركزية. فبالنسبة لإليوت لا يمكن للإنسان تحقيق النجاح والازدهار دون ولاء لصروح أكبر منه خارجه. فالذين لا يدينون بهكذا ولاء لمؤسسات وأبنية اجتماعية وسياسية عريقة ينتهون كبعض الشعراء الرومنطيقيين، يتماهون مع الكون عوضًا عن الواقعي واليومي المعاش، ورأى إليوت أن الإنسان لا يتماهى مع الكون إلا إذا لم يكن لديه شيء آخر يتماهى معه.

بهذه النظرة البطريركية بطّن اليوت هندسته الثقافية. فلغته مسبوغة بمراوحة مبنية على حدين، السؤال عن المآل والعودة عنه عبر تسليم الأمر لمشيئة عليا متوازية مع استصغار الذات وإمكاناتها، ودعوتها للتماثل والعودة إلى حضن روحي أكبر، وترك السياسة لأنها إثم لا يقدر الإنسان العادي على تحمل تبعاته. الأفراد العاديون بالنسبة لإليوت غير قادرين على التفكير العميق، ومشاركتهم في صنع الثقافة هي مشاركة أقل وعيًا من أولئك الأكثر اضطلاعًا وسعة معرفة. فانتسابهم هذا إلى الثقافة والسياسة على حد سواء يتشكل عبر تتبع خرائط وإشارات الأعراف والتقاليد والإيمان بالأساطير، والمثابرة على العادات الموروثة.

غذى إليوت تصوراته هذه بنسق سريالي انتقاه من التيار الفرنسي، وباقتباس من مشروع مالارميه اللغوي في الشعر ليعطي هوية حداثية للنص. وجمع كل هذا في بناء ابوكاليبتي يعكس تأثر الشاعر بتجربة دانتي المغادر والمبتدئ والواعظ المؤنب أيضا. فقصائده التالية وظفت طبقات الخوف والسير في مجاهل العذابات ودرجاتها. على هذا النحو يمكننا أن نقرأ الأرض اليباب في القصائد الخمسة. ففيها يبدو إليوت كبطرك طائر فوق أكوام من كولاج من الهذيان السريالي، راعدًا بصوته وملوحًا بصولجانه في مساحة جغرافية عريضة يستعرض فيها بجمل متقطعة، لندن ونهرها ثم يطير فوق الجبال والسهول ويهيم فوق تشققات التحديث التاريخي وانهيار الممالك في القدس، أثينا، الإسكندرية، فيينا.. ويخلص إلى وقفة عند اللاحقيقي في "ماذا يقول الرعد".

على غرار صديقيه عزرا باوند وجيمس جويس الغرباء الدخيلين مثله على بريطانيا، استعان إليوت بأساطير إغريقية وصوت هادر في وعي الذات المخدر بالنفعية والمأسورة بنيهيلية عدمية سببها مادية الصناعة. واستعان أيضًا بتأنيب شامت بالنهايات المنتظرة لهكذا سلوك، على نحو غسل الميت تطهرًا بالماء في تأبين يكلله اللوم للبحار الفينيقي الغريق في "موت في البحر". فلغة الشعر والإنتاج الإبداعي يجب أن تكون قوية، عاصفة في دلالاتها، مبنية برفعة المعاني وبعلو النبرة وتكثير المصادر. فوظيفة الشعر بالنسبة له هي صناعة منضبطة للمعنى في لاوعي الطبقات الاجتماعية لتتمظهر كوعي بديهي في اليومي المعاش، كخزان أفكار وتصورات في الذاكرة الخلفية للمجتمع لتصنع من هذا كله سلم قيم تقوم عليه الثقافة المحافظة.

هذه السيطرة المحكمة على اللغة والنقد، بغلاف حداثوي عصري وكوزموبيليتي واعظ، والتي أرساها إليوت على المشهد الثقافي البريطاني تحولت عبئًا على الهوية الإنجليزية التي كانت تعاني من سلبية مضاعفة، فهي منكسرة أمام صورة بريطانية كبرى، هي أيضا منحسرة بدورها في إمبرياليتها الذاوية وتعثر اقتصادها.  ففيليب لاركن المولود عام 1922 درس وتخرج من جامعة كامبردج، ثم رحل فيما بعد شمالًا إلى مدينة هال في الطرف الشمالي الشرقي للقناة الإنجليزية على بحر الشمال، حيث عمل أمينًا لمكتبتها. رحل لاركن شمالًا إلى العزلة الباردة الإنجليزية، في خضم هجرة داخلية من مدن الشمال إلى لندن، في مناخ خيمت عليه تبعات ما بعد الحرب الثانية وبداية الثورة الجنسية والروك إند رول ومشاريع الدولة التحفيزية للزواج والإنجاب. وهذا ما شكل نقطة تأزم له حاول فيها التقاط الهوية الإنجليزية الذاوية. ولكنه فعل ذلك بنيهيلة عالية فيها إقرار مسبق باستحالة استعادتها، وعالج قناعته بهذه الاستحالة بإضفاء السخرية العالية على المشهد.

غير أن لاركن ليس ذا نتاج كبير مقارنة بإليوت، فله بضعة إصدارات فقط وبعض الروايات والنصوص النقدية. غير أنه استطاع حفر مكانه في وعي ويوميات الطبقة الوسطى والعاملة على حد سواء، برغم مجاهرته الساخرة من أحوال هذه الطبقة وتعاستها. كتب لاركن بلغة بسيطة ولكنها لغة صادمة بشفافيتها، محلية وبتوظيف عال ومكثف للعادي والمحسوس دون اللجوء إلى صور خارجية وأصوات عليا. فذاتية لاركن تأخذ القسط الأكبر في محورية السؤال مقابل تناوله للآخر. فالمنحى الهجائي الذي اتخذه كان يواجه العدم ولا نهائية السقوط فيه، مقارنة بروح العصرالمكملة في التقدم. وهكذا فإن لاركن ارتأى أن الفجاجة في التعبير هي المرآة التي يجب أن تعكس عملية الإنجاز والتقدم لما فيهما من تكثيف لابتذال المجتمع الجماهيري والرأسمالية الصناعية. وبهذا خط لاركن نسقًا صارخًا في الخروج عن الصوابية السياسية التي بدأها إليوت وكرسها صوته المرتفع في النص.

رفض لاركن الحداثة برمتها، كما أوضح في إصداره النقدي الكتابة المطلوبة لأنه رأى أنها توسلت تزاوج التعقيد والغموض والفظاعة. وأكثر اعتراضات لاركن على الحداثويين حدة تمثل في سخطه المقذع والمهاجم بلغة نابية لما صار من المقدسات. فهذا الركون إلى الهجوم اللفظي الحاد هو أعلى درجات التوسل العاطفي الذي يمكنه أن يعيد الاعتبار للأصالة في ظل ذويان الهوية الإنجليزية في مدينية تأكل الريف الأصيل. ذلك أن المدينة تعزز العزلات والاندثار وتصغير الكائن وتحويلة إلى رقم، وتقتل الالفة، لأن فلسفة بنائها هي نظرة رياضية نفعية للفضاء العام، وهذا الاعتراض حاضر بقسوة في هجائه لمبنى المستشفى في مدينة هال في قصيدة المبنى. في هذا النص حاول لاركن إظهار انحدار البشر في مواجهة صدمة العجز أمام هذه الفظاعة. ورأى أن هذه العقلانية المفرطة في التخطيط والرغبة المفرطة في حشر البشر في نظام محكم السيطرة ما هو إلا نهاية البشر، فاستنتاجه "رجالًا أو نساء، يافعين أو مسنين، هؤلاء أوجه لعملة وحيدة يتغمدها هذا المكان، كلنا نعلم أن الموت بانتظارهم".

رفض لاركن الحداثة برمتها، كما أوضح في إصداره النقدي الكتابة المطلوبة لأنه رأى أنها توسلت تزاوج التعقيد والغموض والفظاعة. وأكثر اعتراضات لاركن على الحداثويين حدة تمثل في سخطه المقذع والمهاجم بلغة نابية لما صار من المقدسات

في قصيدة زيارة إلى الكنيسة يعيد لاركن بالتذكير بنهاية المكان. فلا منطق أو هدف من الزيارة، فهي تبدو زيارة يحركها الفضول عوضًا عن الإيمان أو التقصد أو المساعدة. والاعتراف بتكرار هذه الزيارة جاء بوحًا مواربًا في النص لم يستطع أن يكتمه، فالإحساس بالخسارة يعاوده في كل مرة يزور المكان، لأن المكان فقد "مكانه" وعزل الداخل عن الفضاء العام فلذلك لا بد من ازدرائه والتفكير إذا ما كان يجب التخلص منه أو إبقائه للسياحة. وفي المقام نفس يكتب لاركن قصيدة ذهاب، ذهاب مهاجمًا كمية السيارات على طرقات الريف الإنجليزي وخلوها من الراحة والسلام والطمأنينة، مردفًا "كل ما تبقى لنا الآن هو الإسفلت والإطارات". لاركن غاضب من هذه الحداثة التي جاءت بالمد الصناعي، وقتلت الروح الإنجليزية، هو يريد العودة إلى زمن رومنطيقي، ولكنه يعرف أنه لن يعود، وهذه نقطة تأزمه.

هذه الحسرة تتجلى في نصه نوافذ عالية، وهو نص يتعامل فيه لاركن مع الثورة الجنسية في الستينات، ولكنه يعالجه من نقطة ذاتية متمثلة بتقدمه بالعمر وفوات أوان التمتع بهذه الحرية. غير أن في هذا النص يتعمد الكثير من الدوران في اللغة، فصور النوافذ العالية التي تنفتح على سماء زرقاء عميقة تشير في مكان ما إلى التعالي، شيء يتجاوز الظاهرة العادية المتمثلة بصورة مراهقين في علاقة جنسية والتي هي بيت القصيد. ولكن لاركن يراوغ في كيفية تقديم الصورة، فتارة تبدو حسرة فَرِحة بوصول الجيل الجديد إلى هذه النقطة رغم حرمان الجيل الأقدم من ملذاتها، وطورًا تبدو نقطة نيهيلية في قاموس لاركن المتشائم. فهو يكلل عدمية مشاعره بغموض يختصره بعبارة "لا يظهرأي شيء: النوافذ العالية والهواء خارجها هي اللانهاية ولا تفضي إلى شيء".

كان لاركن يوازي عدمية شكوككه وسخريته باستحضار العامي كمتن صلب لنصه، فتبدو قصائده متوهجه بخفتها ومحليتها. رمزيته متواضعة على نحو ما كتب في قصيدة "الأشجار": "يبدو أن العام الماضي قد مات،/ أبدأ من جديد، من جديد، من جديد". فلاركن بنى شعبيته على الفجاجة البسيطة مع مزاج عالي السخرية، وتضاد التأويل في معنى واحد، وهذا ما حاكى مشاعر من يحب الشعر ومن يكرهه على حد سواء، فهو الذي أنهى قصيدته "دراسة عادات القراءة": "الكتب هي حمولة من الفضلات".

لاركن علق في نقطة الانقضاء، انقضاء الوقت الذي لا يعود رافضًا الانصياع لمجيء الحاضر أو المستقبل. فلغته تعتمل في هذا اللامكان الذي لا يمكن الوصول إليه أو إعادته، وبالتالي لا يمكنه الاستئناف إلى أي زمن آخر، وبعناده هذا صار على تماس متواصل مع الموت الذي يشكل في النص نقطة ارتداد دائمة. وهذا مكان متوتر في اللغة وفي سلالم الشعر، إذ ليس هناك مدرج أو مسرب للخروج من تلك النقطة. ولهذا يوظف لاركن الاستهزاء من الحاضر ومن الآخر ومن نفسه، كنقطة جذب تصعد وتهبط في جمل تحركها عدمية مسيطرة على النص. وهذه المراوحة والتوتر بإحباط يحتقن في كل ستانزا ولا يُصرف إلا بسخرية عالية تظهر لامعة في سطور قصيدة خطوط على ألبوم سيدة يافعة في إصدار الأقل انخداعًا.

على الرغم من يمينية إليوت ولاركن الشديدتين غير أنهما مثلًا نقطتين مختلفتين في النظرة إلى الهوية البريطانية. إليوت رأى في اللغة الإنجليزية رافعة لمشروع تجديدي حداثي مركزي، يبدأ من انتسابه إلى الثقافة كوافد غريب عليها ولكن بخلفية أنغلوفونية، أراد إعادة الاعتبار لروح الأمة البريطانية بلغة مدينية ووعظ مسيحي وبغطاء حداثوي كوني، لوّن من خلاله النص بسريالية فرنسية منتسبة إلى كونية كانت متأججة في ذلك الحين. أما لاركن فمثل حالة اعتراض بمراوحة عنيدة ترفض الحاضر والمستقبل ولكنها لا تستطيع استرجاع الماضي.

وهذان الخطان شكلا إلى يومنا هذا، مرتكزين متضاربين لنظرة الإنجليز المتأزمة إلى أنفسهم ودورهم في الهوية البريطانية الكبرى وفي أوروبا والعالم. فهم المكون الأكبر في الأمم الأربع التي تشكل المملكة المتحدة، وأنغلوفونيتهم لها عمق استعماري أمريكي وكومنولثي، وهم في المقابل على تماس مع قارتهم الأوروبية. وفي هذا فان الأدوار الخارجية التي تلعبها المملكة كما المشاريع الداخلية التي تشغل سياستها ورأيها العام تبدو مجبولة من هذا التضارب بين المركزي الكوزموبوليتي الأوروبي والأفكارالكونية، وبين ذاتية منفردة تحاول التمايز في كبرها بين المكونات البريطانية الأخرى والأتراب الأوروبيين. وقد شكل بريكزيت أحد تمظهرات هذا التناقض.

هذا وتعري هذه الهوية المتأزمة تناقضاتها بسخرية عدمية تؤلف المزاج الإنجليزي المتهكم على الذات والآخر، والمتحدي للصوابية السياسية والوقار الأخلاقي. وللمفارقة المضحكة خلال كتابة هذا المقال، سقط بوريس جونسون في مصيدة الصوابية السياسية، وهو الذي جمع التناقضات كلها في مسيرته المهنية، فهو من أصول تركية، وبعد أن كان أوروبي الهوى، انقلب على نفسه وخاض حملة بريكزيت التي دغدغت أحاسيس الهوية الإنجليزية ونقمة الأطراف على تكتل كوزمبوليتي لندني يتنعم بسلطة المركز، فيما تلك الأطراف الإنجليزية والمدن الصغيرة تعيش في ظل شعور من النسيان والازدراء والضمور، فنال أكثرية ساحقة في البرلمان للانسحاب من الاتحاد الأوروبي. وللمفارقة أيضًا أنه شكل للتو رأس حربة أوروبية في تصدي الناتو لروسيا بوتين. فكان أن تسلح مؤخرًا، في اجتماع مجموعة السبع قبل الفضيحة التي أطاحت به بأيام، بخطاب نسوي كوني مصرحًا أنه لو كان بوتين امرأة لما اتخذ قرار الحرب. غير أن حرب الفوكلاند التي شنتها ثاتشر في بداية الثمانينات من القرن المنصرم لإنقاذ حكمها المترنح مازال راهنًا في الأذهان.