03-أكتوبر-2022
محمد شوقي الزين

الكاتب والباحث محمد شوقي الزين

يعتبر محمد شوقي الزين من أهم الفلاسفة العرب، فهو يشتغل على مشاريع فلسفية جادة تهتم بالراهن والتحولات التي يشهدها الواقع والإنسان الحديث، من منظور مختلف يقدم من خلاله للقارئ رؤى وآفاق جديدة، هذا بالإضافة إلى مؤلفاته العديدة ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر "الإزاحة والاحتمال" 2008، و"الذات والآخر" 2012، و"ميشال دو سارتو: منطق الممارسات وذكاء الاستعمال 2012، و"الغسق والنسق" 2018.

نشر محمد شوقي الزين بفضل تمكنه من اللغة الألمانية واللاتينية والفرنسية ترجمات لكتب عديدة، وكان آخرها "لماذا نتفلسف؟ سبل الحرية" 2021، و"انظر وفكر – من العين إلى الروح" 2022 للفيلسوفة الفرنسية لورانس فانين فيرنا.

جاء هذا الحوار بعد قراءة معمقة في كتابيه المهمين: "الغسق والنسق" و"تأويلات وتفكيكات"، واللذين تناولا مسائل مهمة تخص مشاكل المثقف العربي وسؤال الحداثة، كما يقودنا في رحلة أركيولوجية للعثور عن المعنى وفهم المعطيات التي تمكننا من النظر بشكل صحيح للواقع.


  • تؤسس الحداثة لأنماط فكرية كأنظمة سلوك، قوانين تشريعية، أو مؤسسات. ثم تتحول بتقادم الزمن إلى صروح جامدة فيأتي دور ما بعد الحداثة، ويعمل على تحرير الحدث بالتأويل ويفتح إمكانيات وجودية جديدة. أين موقعنا من هذه التحولات الفكرية. وهل يحق لنا التفكير في ما بعد الحداثة ونحن لم نطرق باب الحداثة بعد؟

نعم إنه السؤال الذي يتكرَّر. كيف نفكر في ما بعد الحداثة ونحن لم نطرق باب الحداثة؟ غير أن هذه الطريقة في التفكير هي طريقة كرونولوجية، أي أننا نفكر بمنطق "الواحدة بعد الأخرى" بدلًا من أن نفكر بمنطق "الواحدة مع الأخرى". نرى بأن علينا أن نمرَّ عبر الحداثة قبل أن نصل إلى ما بعد الحداثة.

محمد شوقي الزين:  لا يمكن القول بأن الحداثة الفكرية لم تلج في ديارنا. بل هي حاضرة. كان هنالك زمان، كانت تُحرق كتب ابن عربي، وكانت كتابات الجابري أو أركون محظورة. أما اليوم، فهي متداولة على نطاق واسع

لكن في الزمن العولمي الراهن تتواقت الأزمنة وتتداخل الدوائر. آخر جهاز سليل التكنولوجيات الحديثة تجده في نيويورك كما تجده في بيروت أو في نواكشوط. لكن، هل ينحصر الأمر في الحداثة المادية المسمَّاة التحديث؟ ما بال الحداثة الفكرية وانتقال الوعي إلى زمان الإبداع والتحديث اللغوي والتجديد المعرفي والإصلاح الديني والسياسي؟ لا يمكن القول بأن الحداثة الفكرية لم تلج في ديارنا. بل هي حاضرة. كان هنالك زمان، كانت تُحرق كتب ابن عربي، وكانت كتابات الجابري أو أركون محظورة. أما اليوم، فهي متداولة على نطاق واسع، ودخل النقد في الاستعمالات، وأصبح نقد التراث ومراجعة التقاليد شيئًا مقبولًا. كانت الفلسفة إلى وقت قريب غريبة في دول الخليج مثلًا (عدا الكويت)، وأصبحت اليوم حاضرة في السعودية والإمارات بالمؤتمرات التي تُقام والجمعيات الفلسفية التي تنشأ والبرامج التعليمية التي توضَع. إذا استمرَّت البنيات التقليدية التي نسميها "القدامة"، فلأسباب سياسية وأيديولوجية. أما المجتمعات العربية والإسلامية فهي قابلة لأن تنخرط في الحداثة في شقيها المادي والفكري.

  • أشرت في كتابك "إزاحات فكرية" على أن الكتابة هي المجال الذي يبرز فيه دور المثقف، باشتغاله على المفاهيم والمواد المعرفية. ما الذي يبرر غياب أو انسحاب الكتابة من المشهد الثقافي الجزائري والعربي عمومًا؟

الكتابة في مجالنا هي نخبوية، لأن فيها يبرز دور المثقف. لا يزال عموم المجتمع يتعامل مع الظاهرة الشفهية: حديث المقاهي، المواعظ في دور العبادة، الخطاب السياسي والدعائي.. إلخ. في الحقيقة، لم تنسحب الكتابة، لكن طغت الأشكال الشفهية على الروح الكتابية. لا أقصد الصوت، وإنما الذهنية. لذا، تفتقر الكتابة في منطقتنا إلى المتانة الفكرية والصرامة النظرية. لا نحسن صناعة المفهوم إلا نادرًا. لأن علاقتنا بالكتابة ليست تأملية وتركيبية، بل هي في الغالب محاكاتية وتفتقر إلى النوعية. هناك استثناءات تجلت مع بعض المشاريع الفكرية العربية (الجابري، أركون، علي حرب، نصر حامد أبو زيد...)، لكن تبقى نادرة ومهمَّشة. إذا طغت الذهنية الشفهية على الكتابة العالمة، نشهد إذًا هزالًا في الإنتاج المعرفي والمفهومي. السبب في ذلك بسيط وهو أن اللهجات التي نتداولها في المنطقة العربية تختلف في بنياتها عن اللسان العربي الرسمي. ومن ثمَّ فإن الشفهي يطغى في الشارع والعائلة، والكتابي والرسمي ينحصر في المدرسة والجامعة ودور العبادة. أسهم هذا الفاصل بين الشفهي والكتابي في اختلال نمط تعبيرنا عن الأشياء، لأن ما نتكلمه في المدرسة ليس ما نتكلمه في البيت، على العكس نسبيًا مع اللغات الأوروبية، حيث اللغة المنطوقة في المدرسة هي تقريبًا عينها اللغة المنطوقة في العائلة. ينادي البعض إلى التخلي عن الفصحى وتبنِّي الدارجة، لأن الأولى نخبوية ومنفصلة، والثانية متجذرة في المعيش وتُعبِّر عن المشاعر والتصوُّرات. لكن هذا النقاش في نظري هو مزيَّف، لأنه لا يمكن تطبيق البنيات الكتابية على البنيات الشفهية: الكتابة هي "استراتيجية" (ثابت) والشفهية هي "تكتيكية" (متحوّل)، وإحداهما لا تستغني عن الأخرى. لكل واحدة منهما معقولية. فلا يمكن التصرُّف إزاءهما بمنطق المفاضلة.

  • يشير فتغنشتاين إلى أن الممارسة تمنح للغة دلالاتها ويجدر بنا الإشارة إلى مفهوم الكنان (mystique) كما جاء في كتابك الغسق والنسق أنه لغة تداولية، تستعمل الكلمات ولكنها لا تدل بها على الأشياء، ولا تبرهن بها على صدق القضايا أو خطئها. هل ترى أن الكنان بهذا التعريف يعتبر خاليًا من المعنى؟

في دراسة مستقلة ("التصوف، العرفان، الكنان: غربلة في المصطلح وقفزة في الرؤية"، مجلة العرفان للدراسات الصوفية، العدد 1، 2018، ص8-40)، رأيتُ بأن الفاصل بين التصوف والعرفان في الثقافة الإسلامية هو أيديولوجي وليس معرفيًا. ارتبط التصوف بالتسنُّن، وارتبط العرفان بالتشيُّع. كذلك للتصوف تعريب وهو (sufism)، والعرفان له ترجمة وهي (gnosticism)، لكن الكلمة (mysticism) هي بلا ترجمة إلى العربية. اجتهدتُ عبر التأثيل والنحت ورأيتُ بأن الكلمة "الكِنَان" تؤدِّي هذا الدور، لأن القاسم المشترك بينهما هو "السر". الكنان الذي أقترحه ترجمةً للكلمة (mysticism) والمكنون للكلمة (mystic)، ينطوي إذًا على فكرة السر، وهو مصطلح محايد، يتجاوز الصراع الأيديولوجي بين التصوف والعرفان. لكن السر، ليس هو الخالي من المعنى، بل ما لا يمكن البوح به في لغة، تمامًا مثلما قال فتغنشتاين. وما هذا الذي لا يمكن البوح به في لغة؟ يمكن القول بأنه "الشعور الأقيانوسي" بمفهوم رومان رولاند، أي ما لا يمكن الإحاطة به، والشعور به يعجز الكلام عن تعيين حدوده وسماته. أو بتعبير الصوفية أنفسهم، إنه "الإشارة" التي تتعدَّى "العبارة"، والإشارة يتبعها النظر. إنها الإيماءة. يختلف نظام الرؤية عن نظام الخطاب. وإن كان الخطاب يُجزئ الرؤية إلى وحدات نظرية تقوم على الملاحظة والوصف والتصنيف من الوجهة الأبستمولوجية، إلا أن من الوجهة الأنطولوجية، الرؤية هي ما لا يمكن الحديث عنه، لأنه أساس التأمُّل وليس فقط موضوعه. أي أن الرؤية هي الدافع قبل أن تكون الموضوع، هي الأصل الأنطولوجي قبل التقسيم المعرفي. هنا ندرك أهمية الرؤية عند فتغنشتاين، وعند الصوفية عمومًا.

  • يشبه ميشال دو سارتو مهنة التاريخ بالصناعة، ومكان الاشتغال بالمصنع، وذلك لتحويل المعطى التاريخي إلى منتوج متداول في كتاب، ليجعله قابلا للاستهلاك الثقافي. كما تعتمد موضوعية الخطاب التاريخي على اعتراف المؤرخين في المختبر أو الجامعة لأنها ممارسة جماعية. ألا ترى أن المؤسسة بامتلاكها للسلطة قد تقيد من حرية المؤرخ وتعيق ظهور حقيقة أخرى تتعارض مع الحقيقة التي تروج لها هذه المؤسسة؟

لا يمكن استبعاد ذلك. لأن كل انتظام داخل المعرفة هو كذلك انتظام داخل السلطة. هنا، يوافق دو سارتو رأي فوكو حول السلطة. لكن يتميَّز عنه بوجود مقاومات معرفية داخل السلطة الأكاديمية نفسها. استفاد ذلك من نظريات العلم في أمريكا حيث كان أستاذًا في جامعة سان دييغو (كاليفورنيا)، وأهم نظرية علمية متداولة في عصره كانت نظرية توماس كون حول "النموذج أو البراديغم". فكرة النموذج هي أساسًا للإفلات من السلطة التي تُقيِّد من حرية العالم أو المؤرخ. لأن عندما يصل العلم إلى الأزمة، تنشأ بوادر نموذج جديد يُغيّر من الرؤية إلى العالم. تتغيَّر الرؤية حتى وإن لم يتغيَّر المعجم، ومن ثمَّ فإن نفس الكلمات لا تدل على نفس الأشياء. كذلك، المؤرخ مدعوٌّ لأن يتعامل مع مهنته التاريخية بوصفها "صناعة" (السرد والأسلوب والشروط المادية هي كلها مهمَّة في بلورة الخطاب التاريخي)، وكذلك بوصفها "نموذجًا" يمكنه أن يظهر مكان نموذج آخر. مثلًا، هناك العديد من الحقائق التاريخية تمَّ تصحيحها أو مراجعتها بوجود نماذج جديدة في قراءة الحدث، وكان هذا شأن مدرسة الحوليات في فرنسا، ومع فرناند بروديل، ثم جاك لوغوف. تصوَّر مثلًا أن جاك لوغوف يُمدِّد العصر الوسيط إلى غاية مشارف القرن الثامن عشر (عصر الأنوار). قام بتأريخ يختلف تمامًا عمَّا نتداوله اليوم. تصوَّر لو أننا أخذنا بنموذج جاك لوغوف، فإن قراءتنا لديكارت تختلف تمامًا، لأننا سنضعه في روح العصر الوسيط، وكل قراءاتنا لديكارت ستختلف من ألفها إلى يائها. طبعًا، كان تقسيم لوغوف يخصُّ التاريخ الاجتماعي والسياسي، أي الحدث نفسه، لكن لو نظرنا إلى التاريخ الثقافي والفكري بنفس المعيار، سنجد بأن قراءتنا لفلاسفة ومفكري القرنين السادس عشر والسابع عشر، ستكون وفق نموذج العصر الوسيط وليس وفق نموذج الحداثة. لماذا مدَّد لوغوف العصر الوسيط إلى غاية القرن الثامن عشر؟ لأن نظرته للعصر الوسيط هي على النقيض من النظرة الضيّقة التي تداولناها وهي عصر الظلامية والتعصُّب الديني ومحاكم التفتيش. بل إن العصر الوسيط في نظره كان عصر العلم والتقنية والبحث والاكتشاف. له نصيب من الحق إذا علمنا أن العديد من رجال الدين كانوا علماء وتجريبيين، وعندما نقرأ كتاب "الجهل العالم" للكاردينال نيكولا الكوزي (Nicolas de Cues)، فهو يتحدث عن كروية الأرض، وهو مؤسس الهندسة اللاإقليدية. نرى بأن تغيير نموذج القراءة وصيغة التأويل تبعًا لتقسيم أو تحقيب مغاير من شأنه أن يُغيِّر رؤيتنا للتاريخ وللموضوعات المتعلِّقة به.

محمد شوقي الزين: عندما يصل العلم إلى الأزمة، تنشأ بوادر نموذج جديد يُغيّر من الرؤية إلى العالم. تتغيَّر الرؤية حتى وإن لم يتغيَّر المعجم، ومن ثمَّ فإن نفس الكلمات لا تدل على نفس الأشياء

  • ما الذي يحيل بين المؤرخ في العالم الإسلامي وتشكيله لقطيعة تأسيسية مع التاريخ؟

السبب في ذلك هو غياب المسافة النقدية الضرورية. على الخلاف من المؤرخ في الغرب الذي وضع تراثه في مسافة وراح يدرسه موضوعيًا (في الأصل اللاتيني الكلمة "موضوع" تعني: المقابل، شيء قُبالة شيء آخر)، فإن المؤرخ في العالم الإسلامي يتماهى مع مادته التراثية ولا يستطيع من ثمة قراءته قراءة محايدة ليستخلص منه أهم القيم المعرفية. إذا طرحنا سؤال: لماذا لا يستطيع المؤرخ في العالم الإسلامي تحقيق القطيعة وإنجاز المسافة النقدية؟ نجيب بأن المسألة بسيطة: مرَّ الغرب بمنعطف حاسم اسمه "نظرية المعرفة"، الأساس الأول للتفكير الفلسفي، وللتفكير البشري عمومًا. تقتضي نظرية المعرفة أن يكون موضوع المعرفة "قبالة" الذات العارفة، أي خارجها وفي مسافة عنها. من التفكير العلمي في بداياته النهضوية وحتى الفينومينولوجيا، مرورًا بالوضعية وخصوصًا الكانطية، كانت نظرية المعرفة هي الأساس في قراءة الواقع والتاريخ والإنسان. بتحقيق المنعطف في فصل الذات العارفة عن موضوع المعرفة، تمكن الغرب من رؤية تاريخه وتراثه رؤية موضوعية. لم نستطع إنجاز هذا المنعطف طالما أن الذات العارفة في السياق الإسلامي مندمجة في موضوع المعرفة، وهذا الاندماج أو التماهي يحول دون التحرُّر من الذاتية. إنه العائق في تقديم رؤية واضحة للتراث، رؤية نقدية وتأويلية. ومع ذلك، هناك محاولات جريئة وعنيتُ بها مشاريع "النقد" في العالم العربي (الجابري، أركون، علي حرب، إلخ..).

  • قسم ميشال دو سارتو الثقافة الغربية على ثلاثة مراحل كبرى بداية بالبراديغم الديني/اللاهوتي، السياسي/الأخلاقي ثم الاقتصادي الرأسمالي. كيف تحول الدين من وازع/دافع إلى موضوع للتأمل أو "قلب في المفكر فيه على ميشال دو سارتو"؟ وهل يمكن مطابقة هذا المسار الثقافي الغربي مع ثقافتنا الإسلامية؟

إذا عدتُ إلى ما قلته في السؤال السابق، نرى أن الدين في الثقافة الغربية انتقل من الإحاطة الجامعة التي تُدبِّر الحياة العامة إلى موضوع الدراسة، أي بوجود تلك القطيعة التي تجعل مقاربة الدين مقاربة موضوعية. ينبغي معرفة أن الدين شكَّل الباراديغم الأول في الغرب خلال أكثر من ألف سنة، منذ تبني المسيحية من طرف الإمبراطور الروماني قسطنطين الأول. تشكَّل هذا الباراديغم وفق العقيدة الكاثوليكية وطغى على نمط الحياة الغربية. كانت هنالك مراجعات وسجالات لاهوتية في ما عُرف وقتها بسجال الأيقونات حول جواز الصورة أو حظرها. انتصر مشايعو الصورة وأسهم ذلك في تطور ملحوظ للفن في تاريخ الغرب، بل إن الكاثوليكية استعانت بالفن (القوطي، الباروكي) لبسط هيمنتها، خصوصًا في البدايات الأولى للإصلاح الديني مع البروتستانتية. لكن في بداية عصر التنوير وظهور الدولة الحديثة، تراجعت الوحدة الدينية بتشظيها في مذاهب وطوائف متناحرة، وشيئًا فشيئًا تشكل الباراديغم السياسي/الأخلاقي بظهور مفهوم الدولة الحديثة التي تعززت بالعقل والقوة، وتركبت هيكليًا بوجود أحزاب ونقابات ومجالس. كانت الثورة الفرنسية هي المنعطف الأساس في تحديث الدولة عندما حصل الانتقال (العنيف والدموي) من الملكية إلى الجمهورية. لكن، عندما تعززت الدولة وتغوَّل الحزب فيها بظهور أنظمة عاتية (فاشية، ستالينية، نازية...) وجاء ذلك بعد عصر التصنيع في القرن التاسع عشر وتنامي القوة العسكرية وظهور النزاعات الإقليمية، وصلت الدولة بالمفهوم الحديث إلى المأزق، خصوصًا بعد الحربين العالميتين. بسقوط السياسة وانهيار الأخلاق (صدمة المحرقة)، حصل منعطف بظهور الباراديغم الاقتصادي/الرأسمالي. كان بين الحربين العالميتين في إرهاصاته الأولية وإخفاقاته الجليَّة (أزمة 1929 أو ما يُسمى بالكساد الكبير)، لكن بعد صدمة الحرب العالمية الثانية، لم يكن الباراديغم الذي يتشكَّل اقتصاديًا محضًا في شكل رأسمالية ستتحوَّل إلى امبريالية وأيديولوجيا مالية مفترسة، بل بدأ يتشكَّل سياسيًا واجتماعيًا بشيوع القيم الليبرالية التي تقوم على أساس الحرية الفردية. لا يمكن مطابقة هذا المسار الغربي مع الثقافة الإسلامية، لأننا نعيش بقوة الحال في الباراديغم الثالث (العولمة والقيم الليبرالية)، لكن نحيا ذهنيًا في الباراديغم الأول (القيم الدينية والتمثُلات الأسطورية)، ونحيا تنظيميًا في الباراديغم الثاني (لا تزال الدولة القوة الرادعة في تنظيم المجتمع، أحيانًا إلى غاية الاستبداد ونفي الحريات). معنى ذلك أننا نحيا في أزمنة تلاشت وبقيت أشباحها قائمة، ونحيا زمانًا بالوكالة هو العولمة أو الباراديغم الثالث، نحياه بشكلٍ غير واعٍ لأنا لم نُسهم في بنائه، مثل الطفل الصغير الذي يتعجَّب من اللعبة التي بين يديه ويستمتع بها. نتداول التكنولوجيا الحديثة ونحن غرباء عن التاريخ الطويل للعلوم والتقنيات التي جعلت ممكنًا ما نتداوله في حياتنا من تكنولوجيات حديثة.

  • ما الذي يمنع من تشكيل مسافة أبستمولوجية مع الدين وتحويله إلى موضوع للدراسة والتحليل عوض الإغراق في البحث عن الأصل حتى تحول إلى "صنم تاريخي"؟

كما أوردتُ سابقًا، تكمن العلة في غياب فلسفة في المعرفة تقوم على الفصل بين الذات العارفة وموضوع المعرفة، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بمجال يغلب عليه التصديق والتسليم مثل المجال الديني. هذا لا يعني أن المناهج العلمية غير قادرة على مقاربة الدين، وكان التاريخ الإسلامي غنيًا بالسجالات الكلامية والنقاشات اللاهوتية انخرطت فيها مذاهب متنوعة ومتناقضة مثل المعتزلة والأشاعرة باستعمال الطرائق الحجاجية والمنطقية والبلاغية وقتها، لكن عندما أصبحت الغلبة للتقليد بدلًا من العقل، تمَّ تطويق التراث الديني بسياجات منيعة تحظر التفكير وتُعطل الاجتهاد سوى ما يقتضيه التكرار والاجترار. ثم لا يمكن استبعاد دور الحكم السياسي في تعطيل العقل بالانتصار للتقليد لأغراض شعبوية، وهذا ما تفطن له الجابري مثلًا في كتاب "نحن والتراث"، حيث بيَّن عن قناعة بأن "السياسة" في التاريخ العربي الإسلامي تقوم مقام "العلم" في تاريخ الغرب، ومن ثمَّ فإن كل القرارات بالإعلاء من شأن العقل أو الإطاحة به كانت سياسية، بينما في الغرب شق العلم طريقه بمعزل عن السلطة السياسية التي كانت وقتها دينية في هيكل الكنيسة، بل حاربت الكنيسة التصورات العلمية التي لم تكن توافق الأناجيل، ولم تُفلح ما دام خرج منها كذلك علماء أسهموا في تطوُّر المعرفة العلمية والتقنية إلى أن أصبحت هي المرجعية الأساسية بوساطة عاملين رئيسين: التجربة من جهة، والمنهج من جهة أخرى.

  • قريبًا سيصدر لك عمل فلسفي جديد، من جزأين بعنوان رئيسي "نقد العقل الثقافي" عن دار ابن النديم للنشر والتوزيع، حدّثنا عن هذا العمل.

هو في الحقيقة عمل مركب من أربعة أجزاء، صدر منه جزءان. يتركب العمل من أربعة أعمدة أساسية سميتها "المربع الثقافي"، وهي: الثقافة، الثقاف، الثقف، المثاقفة. كل جزء هو دراسة معمقة لعمود من هذه الأعمدة. تكفَّل الجزء الأول بدراسة الثقافة بالاشتغال على نظرية التكوين التي كانت لها تجليات في تاريخ الفكر: "البَايْدِيَا" عند الإغريق، "البيلْدُونْغ" عند الألمان، "التَّهْذِيب" عند العرب.. إلخ. كانت الدراسة تحليلية ونقدية وتأويلية بالاشتغال على فكرة التكوين عند القدماء، ثم في المسيحية والإسلام، وأخيرًا نماذج في معظمها ألمانية: هردر، شيلر، هيغل، ونيتشه. تكفَّل الجزء الثاني بدراسة ما أسميته "الثقاف" الذي وضعته في مقام النموذج أو القالب الذي يُقوّم الطباع والتصوُّرات. في هذا الجزء هناك دراسة واسعة حول فكرة رؤية العالم في ثلاثة أقسام: المفاهيم، الأعلام، المجالات. عالجتُ المفاهيم المرتبطة بفكرة رؤية العالم مثل الحدس والتصوُّر والتمثُّل والخيال، ثم أعلام فكرة رؤية العالم ومعظمهم ألمان (دلتاي، هومبولت، ياسبرز، هوسيرل، هايدغر)، وأخيرًا المجالات مثل الرؤية الدينية للعالم، والرؤية الإسلامية للعالم، ثم الرؤية الأسطورية وأخيرًا الرؤية العلمية. بعد ذلك، يتكفَّل الجزء الثالث بدراسة "الثقف" الذي رأيتُ بأنه يحتاج إلى مقام إلى جانب العلم والفهم والدراية والخبرة. لماذا الثقف؟ يدرس الجزء الثالث نظريات الفعل ورأيتُ بأن الثقف يناسب روح الزمن الذي هو عصر السرعة والتسارع في الاتصالات والمواصلات والمالية وكل ما يخص الفعل البشري في تجلياته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. ثم الجزء الرابع المخصص للمثاقفة ويدرس نظريات التواصل والاعتراف والترجمة. لهذه الأعمدة سقف، ورأيتُ أن أترك الجزء الخامس عبارة عن مفاجأة لمعرفة أيُّ سقفٍ أضعه في النظرية الثقافية التي أشتغل عليها.