25-أكتوبر-2022
عالم الأنثروبلوجيا الفرنسي برونو لاتور (تويتر)

عالم الأنثروبلوجيا الفرنسي برونو لاتور (تويتر)

نادرًا ما يحسب مفكر على مدرسة وعلى نقدها لاحقًا، يحدث هذا بلا شك، وبالأخص في مراحل إزاحات البارادايم في الحقول الفكرية والبحثية. إلا أن الأكثر ندرة هو أن ينال اسم الاعتراف بوصفه من رواد تيار بعينه، ومن ثم يصير واحدًا من مؤسسي التيار الناقد للتيار الأول. قبل أي شيء، يتطلب هذا شجاعة استثنائية تسمح بمراجعة عميقة للذات، وانفتاح على تحولات التاريخ وقدرة على التأمل في مفاعيل الزمن في الأفكار والعكس أيضًا.

يعد الأنثروبولوجي الفرنسي، برونو لاتور، الذي رحل عن عالمنا هذا الشهر واحد من هؤلاء، ممن استطاعوا العبور من القرن الفائت إلى قرننا هذا، بأفكاره باقية على طزاجتها ومشاكستها وآنيتها

يعد الأنثروبولوجي الفرنسي، برونو لاتور، الذي رحل عن عالمنا هذا الشهر واحد من هؤلاء، ممن استطاعوا العبور من القرن الفائت إلى قرننا هذا، بأفكاره باقية على طزاجتها ومشاكستها وآنيتها وبقدرتها على مسايرة تبدلات الزمن بل والمساهمة فيها أيضًا. في المقام الأول كان لاتور من مؤسسي حقل "الدراسات العلمية والتكنولوجية"، ليأخذ مكانته كمجال بحثي مستقل بذاته وسط فروع "الدراسات الثقافية". وبهذا، لم يكن لاتور وارثًا فقط لتقاليد "النظرية النقدية"، متعددة المشارب، من ماركس ونيتشه وفرويد وصولًا إلى مدرسة فرانكفورت، بل أيضًا ممن نقلوا تلك الأدوات النقدية من الثقافة إلى العلوم، في قفزة إبستمولوجية ساوت بين العلوم الاجتماعية وبين العلوم "الصلبة" من جانب، وبين الحقائق والخطابات والبنى الاجتماعية الأخرى.

وليس من المستغرب أن يتم التعاطي مع "الدراسات العلمية" بقدر كبير من سوء الفهم، وبالأخص من قبل العلماء. وفي واحدة من النوادر المتداولة طلب أحدهم من لاتور القفز من الشرفة، ليدلل على أن الجاذبية ليست بنية اجتماعية ولا هي مجرد خطاب، بل واقعة مادية تمامًا. وينسحب هذا التناول السلبي على الكثير من نطاقات النظرية النقدية، الموصومة بالشكية المرضية والعدمية والرومانتيكية أحيانًا كثيرة.

لكن وكما كان لاتور من أبرز رواد النقدية في عالمنا المعاصر، فهو وبالقدر نفسه يعد من ملهمي تيار ما بعد النقد. في نصه القصير نسبيًا وواسع التأثير، "لماذا فقد النقد زخمه؟" (2004)، يطرح لاتور السؤال على نفسه، هل أخطأ حين شارك في تأسيس حقل الدراسات العلمية؟ ويعود في صيغة تهكمية ليفحص سؤاله هذا، هل داهمته أزمة من منتصف العمر؟ ما قدمه لاتور ليس تبرؤًا من ماضيه، بل إقرارًا بانجراف "النقدية" المعتدة بنفسها نحو الانفصال عن المجتمع، وبعجز أدواتها عن اللحاق بالمستجدات خارج حدود العالم الأكاديمي. وعليه، يطرح ضرورة تغيير استراتيجيات المقاومة وتكتيكاتها.

عاش لاتور ليرى أطروحاته في أنثروبولوجيا العلوم وهي تستخدم من قبل مروجي نظريات المؤامرة ومنكري الكوفيد والرافضين للتطعيمات المضادة له، وقبلها كان قد أشار هو نفسه لاستلهام اليمين المتطرف لحجج النظرية النقدية ضد الحداثة والعقلانية والعولمة، في الترويج لخطاباتها واكتساب شعبية ترجمت إلى أصوات في صناديق الانتخابات أهلت أحزاب أقصى اليمين للوصول إلى الحكم في العواصم الغربية. وينطبق الأمر نفسه في سياقات أخرى، حيث تم توظيف النسبية الثقافية والنقد الموجه للأسس الإنسانية لحقوق الإنسان وتفكيك الديمقراطية التمثيلية، لصالح الدفاع عن أنظمة الحكم القمعية حول العالم. وكذلك في منطقتنا استقبلت الأفكار النقدية، وبالأخص تلك الصادرة عن المدارس ما بعد الاستعمارية، بحفاوة شديدة للترويج لأيديولوجيات شديدة الرجعية مناهضة للنساء والأقليات ومعادية للحداثة، وراغبة بالعودة بالمجتمع إلى ما قبل الحداثة.

كما كان لاتور من أبرز رواد النقدية في عالمنا المعاصر، فهو وبالقدر نفسه يعد من ملهمي تيار ما بعد النقد

في ذلك السياق، تظهر تيارات ما بعد النقد كحاجة ملحة وطارئة. وكما يوحي لنا لاتور، ليس ما بعد النقد نقدًا للنقد، ولا تخليًا عنه. بل إعادة تعريف للخصوم وللحلفاء، وبالتالي لخطوط المعركة ووظيفة النقد، فالحداثة والديمقراطية والعقلانية وكذا العلم، بما أنها جميعًا بنى اجتماعية، فإنها شديدة الهشاشة وفي حاجة دائمة للدفاع عنها، لفحصها بشكل دائم وإصلاحها وإعادة موضعتها. هكذا لا يعود النقد خصمًا لمكتسبات الحداثة، بل محاولة لإنقاذها.