09-فبراير-2019

جيمس سكوت (ألترا صوت)

يُعد جيمس سي سكوت واحدًا من أهم علماء السياسية والأنثروبولوجيين سواء في أمريكا أو في العالم جميعه، حيث عُرف منذ مطلع التسعينات باهتماماته البحثية المميزة، وانتشرت كتبه حول الثقافات الزراعية وتاريخ الدول والجماعات المناهضة لها في شرق آسيا، بسرعة كبيرة، وحظيت باستشهادات على نطاق واسع جدًا.

جيمس سكوت: إن الفكرة الأساسية للنكتة هي في الواقع في قيمتها الاجتماعية، كطريقة لخلق خط اتصال وتضامن

على الرغم من الشهرة الواسعة التي يحظى بها سكوت، حيث تم تصنيفه في غير مرة من قبل مراكز أبحاث ومجلات متعددة، كأحد أبرز المفكرين الأحياء في العالم، إلا أنه لم يُترجم له إلى العربية سوى كتاب واحد، هو "المقاومة بالحيلة: كيف يهمس المحكوم من وراء ظهر الحاكم؟". حظي هذا الكتاب بشهرة عربيًا أيضًا، ونجح في استقطاب عديد الباحثين، لكن هذا لم يولد أي اهتمام في الوطن العربي بكتبه الأخرى غير المترجمة، التي لا تقل أهمية، على غرار "أن ترى كدولة"، و"فن ألا تكون محكومًا"، و"ضد القمح.. تاريخ الدول الأقدم".

اقرأ/ي أيضًا: "أن ترى كدولة" لجيمس سكوت.. مجزرة التجانس وعقدته

تحاول هذه المقابلة الحصرية لـ"ألترا صوت"، مع الأستاذ في جامعة ييل، تفادي هذا النقص، من خلال طرح أسئلة تمس القارئ العربي بشكل مباشر، وتتعلق بقضايا من واقعه.


  • سيد سكوت. اسمح لي أن أعبر عن سعادتنا باستضافتك، كجزء من اهتمامنا في الترا صوت بإجراء حوارات مع مفكرين وباحثين حول العالم.

شكرًا لك. هذا من دواعي سروري.

  • دعنا من فضلك نبدأ بالسؤال الأول. إن الافتراض الحداثي بأن المنطق العلمي يمكن أن ينجح دائمًا، جنبًا إلى جنب مع التبسيط المرتبط بالفكر العقلاني، كانا مدمرين للغاية، كما وضحت في كتاب "أن ترى كدولة". مع ذلك، تبدو هذه المجادلة خطيرة في أماكن مثل العالم العربي، حيث تعاني المجتمعات من نقص حاد في المعاهد والجامعات والتنمية العلمية. كيف ترى هذه المعضلة؟

إنه سؤال مثير جدًا للاهتمام في الحقيقة. يبدو لي أن ما أجادل بشأنه في "أن ترى كدولة"، ليس ضد المعرفة العلمية. كما أنني لا أجادل ضد الفكر العقلاني. إن ما أجادل  بشأنه، هو أن هذا الفكر يجب أن ينتهي إلى تفاعل ديمقراطي حقيقي مع معرفة الناس الذين ليسوا علماء، ومع طرق حياتهم. بمعنى أن فكرة أن المهندسين والعلماء يمتلكون المعرفة فقط هو الخطأ القاتل. إذا كنا نفكر في الزراعة على سبيل المثال، فإن لدى المزارعين العاديين قدرًا هائلًا من المعرفة التي يمكن أن يتعلمها العلماء والمهندسون الزراعيون. دعني أعط مثالاً وقد تختلف معي، لكني أعتقد أنه بالكلام عن المحدِّثين في العالم الإسلامي. فإن أشخاصًا مثل الشاه في إيران وأتاتورك في تركيا، ربما كانوا من رعاة أسرع الجهود لتحديث المجتمع الذي رأيناه على الإطلاق.

وفي كلتا الحالتين، لأن هذا التحديث كان من أعلى إلى أسفل، فإنه أدى إلى نوع من ردود الفعل، بحيث أصبح لدينا ثيوقراطية في إيران، وأصبح لدينا أردوغان في تركيا. لذا يبدو لي أن التحديث الذي يقوده العلم والفكر العقلاني يجب أن يأخذ في الحسبان، إمكانية التعلم من غير العلماء وغير المهندسين، بالإضافة إلى أخذ قيم هؤلاء الناس بعين الاعتبار.

  • في هذا السياق أيضًا، قد يتم استخدام نقد الدولة القومية الحديثة لأهداف مناصرة للاستبداد، أو للقول إننا لسنا بحاجة إلى أي تغيير أو تحديث، خاصة في البلدان العربية التي لا تزال تهيمن عليها الطوائف والعشائر والعائلات الكبيرة. أليس كذلك؟

حسنًا. أظن أن الطريقة التي تطرح فيها السؤال تضع الدولة في جانب، والمجتمع التقليدي من الطوائف والعائلات في جانب آخر. لست خبيرًا، لكنني أتصور أن في كل هذه المجتمعات، هناك موجات من التغيير السريع جدًا، بسبب الاتصالات ووسائل التواصل الاجتماعي والسفر والإنترنت وما إلى ذلك. ما يعني أن تغييرًا ثقافيًا راديكاليًا يحدث، وهو غير خاضع لا للدولة ولا للمجتمع التقليدي المكون من الطوائف والعائلات. أظن أنه يتوجب عليك أخذ العنصر الثالث في الحسبان عند الحديث عن قوى التغيير الاجتماعي.

  •  بعد إحباط موجة التحول الديمقراطي عربيًا، أصبح هناك مجموعات ضخمة من النكات والقصص التي تقال ضد الدكتاتوريات. بدا ذلك وكأنه نوع من البلاغة المناهضة للأنظمة. ولقد اُستخدم كتابك واسع الشهرة عربيًا "السيطرة وفنون المقاومة" (المترجم إلى العربية تحت عنوان المقاومة بالحيلة) من أجل فهم ذلك، بطريقة احتفائية نوعًا ما. لكن ألا تظن أن هذه النكات والقصص قد تكون تعبيرًا عن الإحباط وقلة الأمل بدلًا من كونها تعبيرًا عن المقاومة؟ تعرف أن هناك فضاءات للتعبير ضد السلطة يتم ضبطها من السلطة نفسها.

إنه سؤال مهم جدًا. وجهة نظري هي أنه عندما تكون السياسة الحقيقية، أي المشاركة المباشرة للقوى السياسية بطريقة منفتحة وديمقراطية، غير ممكنة، فإن ما يحل محلها، هو هذه الأشكال المستترة من الخطاب السياسي كما تقول. وهي البلاغة التي تأخذ شكل النكات في كثير من الأحيان. وأعتقد أن النكات هي بديل نوعًا ما عن السياسة. إنها السياسة عندما لا يكون هناك سياسية حقيقية، وهي الاحتجاجات المفتوحة عندما لا يكون هناك منظمات مفتوحة. لكن ما يهم هو أن هذه النكات تخلق ثقافة معارضة يسخر فيها الجميع من ادعاءات النخب. حيث تكون النكات دلالة على تلك السخرية والثقة، لأنه يتم تشاركها. إن الفكرة الأساسية للنكتة هي في الواقع في قيمتها الاجتماعية، كطريقة لخلق خط اتصال وتضامن. ولذلك فإنها تبقي الأمل موجودًا. إنها غاية في الأهمية.

لقد قيل لي، إنه وفي خضم حركة التضامن في بولندا، في نهاية فترة الأحكام العرفية، كان البولنديون معروفين بآلاف وآلاف النكات ضد النظام. لكن وفي اللحظة التي سقط هذا النظام فيها، لم يعد هناك نكات جديدة، لأن السياسة الفعلية أصبحت ممكنة الآن. بمعنى أن قيمة النكتة قد اختفت لأن التنافس والانفتاح السياسي أصبح ممكنًا في النهاية.

جيمس سكوت: أعتقد أنه من الغاية في الأهمية النظر إلى النكات المناهضة للسلطة كتأسيس لثقافة منشقة تحت "رادار" النظام

إن من أختلف معهم هم أولئك الذين يعتقدون أن هذه النكات أو أشكال المحاكاة الساخرة "الباروديا" مجرد هواء ساخن ليس له أي أهمية اجتماعية. أعتقد أنه من الغاية في الأهمية النظر إليها كتأسيس لثقافة منشقة تحت "رادار" النظام. هناك أيضًا أماكن "تخريبية" للنظام القائم. في جنوب آسيا، يتحدثون عن دردشات المقاهي كنوع من الإشاعات. عندما لا توجد أخبار حقيقية، فإن الشائعات تأخذ المكان. وبالتالي، فإنه لا يوجد خطاب تخريبي (subversive) ضد النظام فقط، وإنما يوجد أماكن للتجمع الشعبي، تبدو في نفس الوقت، ذات أهمية كبيرة من أجل توسيع هذا الخطاب.

  •  بالحديث عن نفس الموضوع، لكن من زاوية نظرية ربما. لقد اتفق فرانز فانون مع ماركس، بأن القصص الشعبية المأخوذة من الدين تحديدًا، قد تكون طريقة لتقبل السلطة بدلًا من رفضها. لأنها تبدو انتصارات رمزية وليست فعلًا حقيقيًا. هل تتفق مع ذلك؟

لا أعتقد ذلك. عندما عندما يفكر المرء في كل من الديانات التوحيدية مثل اليهودية والمسيحية والإسلام، فإن نصوصها كما تعلم واسعة جدًا وتخضع لدرجات هائلة من التفسير، ولهذا السبب لدينا مدارس ومذاهب مختلفة داخل كل من هذه الأديان.

ما هو مثير بالنسبة لي هو أنه إذا أخذت المسيحية على سبيل المثال، وإذا أخذت الإمبراطورية الرومانية المتأخرة تحديدًا لتسأل ما هو الفرق بين الدين كما تمارسه النخب والدين كما تمارسه الطبقات الدنيا من الرجال والنساء. تميل الطبقات الدنيا إلى العبادة في الأضرحة، والتقرب من الأولياء والأشخاص المقدسين الذين يجسدون رسائل "تخريبية/تقويضية" للنظام القائم؛ رسائل في كثير من الأحيان، حول انقلاب العالم وعودة المسيح المخلص، إلخ.

اقرأ/ي أيضًا: التاريخ الدموي للسعادة.. الأوتوبيا الأقسى

 اسمح لي أن أقدم لك مثالًا آخر. في ظل العبودية في الولايات المتحدة، حاول مالكو العبيد تعليمهم نوعًا معينًا من المسيحية، أي مسيحية العهد الجديد، حيث تكون المقولات الرئيسية حول إدارة الخد الأيسر، وكيف تكون خادمًا جيدًا وصادقًا، أي أنهم ركزوا على المقولات في العهد الجديد، التي من شأنها خلق الطاعة و"الاحترام" عند العبيد". بيد أن العبيد بدورهم أخذوا الكتاب المقدس وأحبوا العهد القديم، لأنه كان بالطبع عن موسى ويوشع والأرض الموعودة والتحرير. هذه هي حريتهم إذا صح التعبير. ما هو مثير للاهتمام بالنسبة لي، هو أن يجد المرء في كل دين تقريبًا نوعًا من ثيمة تحرير في عالم سوف ينقلب رأسًا على عقب، بينما يأتي نبي أو مخلص ويدمر قوى الشر.

إذا فكرت في الأمر بهذه الطريقة، فستجد أن في كل دين، هناك نوع من الرسالة الثورية كجزء من خلفيته النصية. هناك كتاب لجيمس غريهن، قرأته في العام الماضي، قد تكون مهتمًا به، تحت عنوان "Twilight of the Saints"، حول سوريا والأردن والعراق في القرنين الثامن والتاسع عشر. ويجادل أنه رغم التعريف الصارم للإسلام والمسيحية واليهودية في المدن، فإن ما كان يحدث في الأرياف، حيث لا توجد مساجد أو كنائس أو معابد يهودية، كان مختلفًا. حيث إن الناس في المناطق الريفية كانوا يمتلكون نفس النوع من الممارسات.

إنهم يزورون الأماكن المقدسة نفسها، ويذهبون لزيارة نفس الأشخاص المقدسين أو الأولياء. إذ إن ممارسات هذه الأديان المختلفة، متشابهة جدا جدا بالفعل، خارج المدن الكبرى. يوجد ناس سيخبرونك نعم إننا يهود طبعًا، نعم إننا مسلمون، نعم إننا مسيحيون، مع ذلك، فإن هناك طقوسًا دينية حقيقية متشابهة إلى حد مذهل بين جميع الأديان في هذه المناطق.

  •  كما تعرف فإن الأنثروبولوجيا المعاصرة تذهب غالبًا إلى نوع من الخلاصات الجزئية جدًا. هناك تجاهل للاستنتاجات النظرية الأكبر التي تأتي ما بعد الميدان. لكن في منهجيتك لم تقم بذلك. لقد كانت أعمالك مليئة بالاستشهادات الإمبريقية، لكنك في نفس الوقت كنت متحمسًا للوصول إلى استنتاجات حول الدولة الحديثة والسلطة والمقاومة وغيرها. هل يرتبط ذلك بموقف ابستمولوجي (معرفي)؟

حسنًا. عندما بدأت التدريب، كان ذلك في العلوم السياسية وليس في الأنثروبولوجيا. بدأت عملي في جنوب شرق آسيا. وهكذا كانت حرب فيتنام أهم قضية سياسية واجهتها وأنا شاب. ويجب أن أضيف أنني نشأت في مدرسة "كويكر"، وهي فرع من البروتستانتية التي ترفض الخدمة العسكرية. على أي حال قررت أن أكرس حياتي كباحث شاب، لدراسة الفلاحين، لأن الفلاحين كانوا أكبر طبقة في تاريخ العالم. وهذا هو السبب الذي يجعل من المنطقي دراسة مصيرهم وآفاقهم.

جيمس سكوت: أحد المشاكل الأساسية في الأنثروبولوجيا، أنها سطحية جدًا فيما يتعلق بالتطور التاريخي للمجتمعات والتحليل العميق لهذا التغير

لذلك قررت أيضًا أنه إذا كنت سأقوم بدراسة الفلاحين، فإنه عليّ أن أمضي سنتين على الأقل في قرية حقيقية، حتى أتعرف على طبيعة حياتهم. وهكذا أمضيت عامين في قرية الملايو، وكان كتابي "أسلحة الضعفاء" Weapons of The Weak))، بمعنى ما، دراستي الميدانية الأنثروبولوجية، وقد طورت النتائج الخاصة بها إلى الخلاصة التي تعرفها في "الهيمنة وفنون المقاومة" (المقاومة بالحيلة). لذا فإن ما فعلته آنذاك هو أخذ الخلاصات النظرية لعملي الميداني، ثم تجربتها على قماش أوسع ومع مجادلة أكبر.

  • استكمالًا للحديث عن الأنثروبولوجيا. تعرف أن الأنثروبولوجيين الغربيين ما زالوا مهووسين بدراسة الآخر. ألا يجدر بالأنثروبولوجيا اليوم أن تكون أكثر محلية؟

أولًا، دعني أبدأ بالقول إنني كنت لاجئًا سياسيًا هرب من العلوم السياسية إلى الأنثروبولوجيا، لأنني اعتقدت أنها أكثر إثارة للاهتمام وأقوى من الناحية النظرية. لذلك فإن معظم الناس يعتقدون أنني أنثروبولوجي. الشيء الرائع الذي يعجبني في الأنثروبولوجيا هو أن هناك هذا الجهد لدراسة مجتمع صغير على نطاق ضيق، مع القليل من الأفكار المسبقة، ومع تقدير وانفتاح قدر الإمكان على الأشخاص الذين تقوم بدراستهم. بمعنى أنه إذا كنت تريد أن تعرف لماذا تقوم مجموعة من الناس بما يقومون به، فإن أول ما يجب عليك فعله هو أن تسألهم عما يعتقدون أنهم يفعلونه، وأن تأخذ ذلك على محمل الجد. العلوم السياسية وعلم الاجتماع لا يفعلان ذلك.

اقرأ/ي أيضًا: حوار| لورنسو فرتشيني: قانون القومية مؤشر على أزمة إسرائيل الاستعمارية

أما ما هو سيئ في هذا العلم، فهناك أمران. أولًأ أعتقد أن كل الأنثروبولوجيا تقريبًا مرتبطة بما نسميه بالدراسة نحو الأسفل studying down))، أي أن هناك أشخاصًا متعلمين من مناطق حضرية، يذهبون، كما فعلت أنا، لدراسة قرى ومجتمعات صغيرة، أو دراسة قبائل في جزيرة ما، إلخ. إن ما أعتقد أن على معظم الأنثروبولوجيين القيام به، هو أن يحصلوا على وظائف مثًلا في مؤسسات مصرفية واستثمارية مثل البنك الدولي أو صندوق النقد، أو وزارة ما، والقيام بنوع من الأنثروبولوجيا السرية للنخب، وفهم عالمهم، لأنهم هم فعليًا من يملكون شيئًا ليخفونه حول طريقة سير العالم. ولذلك، بدلًا من الدراسة نحو الأسفل، فإن عليهم القيام بدراسة نحو الأعلى (studying up)، ما يعني إقحام أنفسهم داخل النخب، ومعرفة كيف تعمل هذه المجتمعات.

المشكلة الثانية في الأنثروبولوجيا، هي أنها سطحية جدًا فيما يتعلق بالتطور التاريخي للمجتمعات. إنها تستطيع ربما فهم مكان ما بشكل جيد للغاية، في اللحظة التي تتم فيها الدراسة. لكنها تظل نوعًا من اللقطة الفوتوغرافية. لحظة مؤقتة ومحددة. وأعتقد دائمًا أنه يجب على الأنثروبولوجيا أن تُستكمل بفهم تاريخي عميق. إذا كانت الدراسة حول قرية ما مثلًا، فإنه يجب معرفة ما كانت عليه قبل جيلين أو ثلاثة أجيال. بمعنى أنه يجب عليك أن تلم بالتغيرات التي حصلت في نفس الوقت الذي تصف فيه الواقع اليوم.

  • يبدو من إجابتك أنك تتفق مع إدوارد سعيد. كيف ترى العلاقة بين الاستشراق والأنثروبولوجيا؟

نعم أنا أتفق مع سعيد. لقد التقيت به بالفعل قبل وفاته وكانت لحظة مهمة بالنسبة لي، لأنني أكن له قدرًا كبيرًا من الاحترام. أعتقد أننا عندما نفكر بالاستشراق، فإنه ينقسم إلى نمطين. أعتقد أن ما اعترض عليه سعيد هو الجهد لجعل المجتمعات الشرقية غريبة بشكل مثير، ومختلفة جذريًا. هذا جزء واحد من الاستشراق.

الجزء الآخر من الاستشراق هو الدراسة القريبة جًدا للنصوص المبكرة. وأعتقد أن هذا يبقى هدفًا فكريًا هامًا للغاية. هناك كتاب جديد مثلًا عن ابن خلدون، يهتم - بدلًا من البحث عن أين تكون نظرياته عن الحضارة متوافقة مع بعض الأفكار الحديثة – بوضعه في وقته وفي سياق القضايا التي كان يهتم بها في العالم الفكري الإسلامي الذي نشأ فيه. وأعتقد أن هذا النوع من الاستشراق يحظى بقدر من الاحترام مني.

جيمس سكوت:  لقد التقيت بإدوارد سعيد بالفعل قبل وفاته وكانت لحظة مهمة بالنسبة لي لأنني أكن له قدرًا كبيرًا من الاحترام والتقدير

أريد أن أذكر بالمناسبة؛ لا أعرف إن كنت تعرف أن جامعتي، جامعة ييل، قررت قبل عدة سنوات إنشاء فرع في سنغافورة. وسنغافورة مثال لنوع معين من السلطوية التي أكرهها. وقد قمت مع مجموعة من الطلاب، نصفهم مسلمون ونصفهم يهود، بالاعتراض لنقول لجامعة ييل، إنها إذا أرادت أن تفعل شيئًا مفيدًا في العالم، وإذا أرادت فتح فرع من جامعة ييل في مكان آخر، فيجب أن تفعل ذلك في الضفة الغربية، في رام الله مثلًا أو بيت لحم.. شيء مثل جامعة بيرزيت. وبالطبع فشل ذلك لأن الخريجين اليهود الأثرياء كانوا ضد هذا الاقتراح بقوة.

  • بالحديث عن الاستشراق، فإن هناك مسارًا تقليديًا، في المعرفة الغربية عن تاريخ المعرفة والأفكار. هناك دائما قفزة هائلة من الحضارة اليونانية إلى عصر التنوير الأوروبي مباشرة، دون أي اهتمام بالإنجازات الثقافية للعديد من مناطق العالم (على سبيل المثال، تجاهل ما يسمى الآن بالشرق). لكنك أظهرت اهتمامًا بمناطق ومراحل أخرى، كما فعلت في كتابك الأخير "ضد القمح". كيف تفسر ذلك؟

نعم. كان هذا هو الجهد المبذول لإنشاء قصة عن الحضارة الغربية، مع ادعاء التفوق بالتأكيد، وأعتقد أن سعيد فهم ذلك جيدًا. كان مشروع القرن الـ19، من خلال علماء الآثار والمؤرخين القدماء الذين طوروا صورة ما يسمى بالعصر الذهبي لليونان، غير دقيق كما نعرف الآن. لقد كانت صورة أجمل وأقل تعقيدًا من الواقع. هناك كتاب من تأليف مارتن بيرنال يدعى أثينا السوداء (Black Athena)، حاول تصحيح القصة حول الحضارة الغربية وإدخال جميع التأثيرات والمساهمات الهائلة التي جاءت عبر البحر المتوسط ​​من مصر وغيرها. لذا كان ذلك محاولة لتدمير السردية السابقة حول الحضارة الأوروبية.

 بخصوص ما في كتابي الأخير. أنا مهتم بالحضارة الأولى في هذه المسألة في بلاد ما بين النهرين، وبكيف حصلنا على هذه الدول الزراعية المبكرة. إذا كنت سأقوم بهذا العمل على المستوى العالمي، فسيتوجب علي أن أكتب عن الحضارة المبكرة على طول النهر الأصفر والحضارة المبكرة على طول نهر السند، والحضارة المبكرة في العالم الجديد في منطقة المايا. لأن تلك كانت الدول الزراعية الأولى التي لم تتأثر بالدول الزراعية المبكرة الأخرى.

  • بما أنك عالم سياسة، لنذهب إلى العلوم السياسية إذًا. هل تعتقد أن صعود الشعبوية أحد تحديات الدولة القومية الحديثة؟

نعم، هذا هو الجواب القصير. وبالطبع فإن هذا سؤال يحتاج إلى إجابة طويلة ومفصلة. لا أعرف ما إذا كنت تريد جوابًا عن الشعبوية بشكل عام أو ما إذا كنت تريد جوابًا عن الشعبوية في أمريكا والرئيس ترامب تحديدًا. لنبدأ بالحديث عن أمريكا على أية حال. يبدو لي أنه إذا أراد المرء أن يفهم فوز ترامب في الانتخابات، وهو فوز بهامش صغير للغاية بالمناسبة، فإن يجب أن ينظر إلى الأماكن التي حصل فيها على أصوات أكثر من أي عضو آخر في الحزب الجمهوري من قبل، وهي بالتحديد المناطق التي يعيش فيها معظم السكان البيض الفقراء (وست فرجينيا، كنتاكي، تينيسي، أركنساس، إلخ). هؤلاء هم البيض المساكين الذين تُركوا في خضم تآكل الصناعة والتقدم في العشرين أو الثلاثين سنة الماضية. اليوم أجورهم راكدة ويشعرون بأنهم عالقون في وضع يائس.

 الشيء المثير للاهتمام هو أن نسبة السود في هذه المناطق قليلة جدًا. قبل انتخاب باراك أوباما، كان هؤلاء البيض يقولون لأنفسهم إنه على الرغم من أنهم فقراء فإنهم على الأقل ليسوا سودًا. لكن انتخاب باراك أوباما، كان لحظة فارقة، لأنه أصبح هناك رئيس أسود، ما قال بشكل رمزي لهؤلاء البيض أن السود يسبقونكم، وليس هناك شيء مميز في أن تكون أبيض. لذلك، أعتقد أن غضبهم الذي كان له خلفيات اقتصادية وعرقية على حد سواء، تجسد من خلال تصويتهم لصالح ترامب. وبمعنى ما، يمكنك المجادلة، كما يفعل كثيرون، أن فشل الديمقراطيين في تحسين ظروف الطبقة العاملة البيضاء وآفاقها هو أصل هذه الشعبوية.

اقرأ/ي أيضًا: ملف خاص: النكتة السياسية عربيًا.. سرديات المقهورين

 وبالطبع في أوروبا أيضًا. لقد تأججت الشعبوية كما تعلم بسبب الخوف من موجات المهاجرين الهائلة وما إلى ذلك، وبفعل خوف الناس الذين أخبرهم الزعماء الشعوبيون بأن حضارتهم المسيحية تتعرض للهجوم. إنها بالطبع لا تتعرض لأي هجوم على الإطلاق، ولكن هذه الدعاية أداة سياسية فعالة للغاية للأشخاص الذين يشعرون بأن آفاقهم في العالم آخذة في الانخفاض.

  • في سياق الحديث عن كتاب "أن ترى كدولة". في العديد من الأمثلة على إعادة الإعمار في الضفة الغربية وقطاع غزة، صممت إسرائيل البنية التحتية المحلية بطريقة مناسبة للأغراض العسكرية. أي أنهم قاموا بتطويع المكان وجعله أكثر قابلية للتحكم. ألا يُمثل نمط التصميم الحداثي للفضاء الاجتماعي، الذي تحدثت عنه؟

بالضبط. أعتقد أنه سؤال مثير للاهتمام. لأنني أفكر في البناء العسكري في إسرائيل وفي الضفة الغربية كنوع من الحداثة الفائقة المُعسكرة، التي يُعنى منها بالطبع فصل منطقة عن أخرى، وسكانًا عن سكان آخرين. وتصميم أنواع معينة من الطرق التي تجبر الناس على اتخاذ مسارات محددة للذهاب من أ إلى ب ومن ب إلى ج. لذا فهي  تمثل نوعًا من تصميم حياة الناس على أساس الطرق والجدران والحواجز. وهو ببساطة الاستخدام العسكري للحداثة الفائقة.

إذا كنت تريد مثالًا من القرن التاسع عشر، فسيكون البارون هاوسمان الذي أعاد تصميم باريس في منتصف ذلك القرن، وكان عمله في جزء كبير منه عبارة عن إعادة تصميم عسكري. على سبيل المثال، كانت الطرق العظيمة في باريس هي بالضبط المسافة التي يمكن أن تسلكها قذيفة من مدفع. كانت الفكرة أن الجيش يستطيع في أحد طرفي طريق إطلاق النار من مدفع وتفريق حشد ثوري في الطرف الآخر من الشارع. وقد أعيد تصميم باريس أيضًا مع طرق مستقيمة لأغراض عسكرية، وتم كذلك تصميم السكك الحديدية التي يمكن أن تسهل مرور الجنود من الضواحي إلى المناطق الثورية لكي يتمكنوا من قمع الثورة وما إلى ذلك.

جيمس سكوت: أفكر في البناء العسكري في إسرائيل وفي الضفة الغربية كنوع من الحداثة الفائقة المُعسكرة، التي يُعنى منها بالطبع فصل منطقة عن أخرى، وسكانًا عن آخرين

وبالطبع تم تصميم مدن النهضة في إيطاليا أيضًا لأغراض عسكرية جزئيًا. إذًا هذا تقليد طويل الأمد من العمارة العسكرية التي هي حداثية إلى حد بعيد، ولكنها مصممة للأغراض الهجومية والدفاعية.

  • أخيرًا، بما أن هذه هي المقابلة الأولى لك، الموجهة إلى القارئ العربي. ماذا تقول لقرائك والباحثين العرب في العلوم السياسية والأنثروبلوجيا؟

أفترض أن علي القول إنني مسرور لأن بعض أعمالي يثبت أنه مفيد ومثير لاهتمام علماء اجتماع وباحثين من ناحية فهمهم لمجتمعاتهم المحلية. وإنني أتطلع إلى أي من دراساتهم التي تتناول بعض الموضوعات التي أهتم بها. على الرغم من أنني بالطبع لن أتمكن من قراءتها إلا إذا تمت ترجمتها إلى الإنجليزية أو الفرنسية، لأنني لا أجيد العربية.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

حوار | يانيس فاروفاكيس.. الحياة قصيرة الحرب أطول!

كريم مروة: ثورات الربيع العربي بوصلة نحو المستقبل