11-مايو-2023
غع6فب

تستثمر بعض الأمهات في الحياة الخاصة لأطفالهم (Getty)

هذه مقالة مترجمة، للكاتبة الصحفية البريطانية كلاريسا سيباغ مونتيفيوري، المختصة بالكتابة عن القضايا الجارية والفنون والدين، وقد نُشرت أعمالها في صحيفة وول ستريت جورنال والغارديان ونيويورك تايمز وفي صحف أخرى. أقامت سابقًا في الصين وأستراليا وهي تعيش الآن في بروكلين في نيويورك.

وفي حين أن المادة تتحدّث عن ظاهرة استغلال الآباء والأمهات للأطفال على وسائل التواصل الاجتماعي لأغراض تجارية بحتة، إلا أن الظاهرة أكثر شيوعًا بين "الأمّهات" المؤثرات حول العالم، ومن هنا نشأت كلمة "MomFluencers"، أو الأمّهات المؤثّرات، والتي ظهرت بعنوان المادة بنسختها العربية. لكنّ هذا لا يعني أن الآباء في منأى عن المسؤولية بالتواطؤ في الأشكال السلبية من هذه الممارسة. 

خضعت المادة لبعض التصرف، وهي بترجمة أسامة عيسى، ومراجعة وتحرير آلاء حيمور. 


 

عندما يحل المساء وتضاء الأنوار، أستطيع أن أرى من نافذتي كل ما يجري في منزل جارتي. عيد الميلاد قادم بعد أيام قليلة، وها هي ذا تصور رقصة استعراضية مرتديةً ملابس النوم أمام شجرةٍ مزينةٍ بإتقان وتصرخ: "حان الوقت الآن!"، ثم تهوي على ركبتيها وتفتح كفيها ملوحة بهما، وتهز كتفيها. ابتسامتها بيضاء ناصعة جذابة وشعرها الأشقر العسلي مموج بإتقان، ومن خلفها ثلاث فتيات صغيرات يرتدين نفس الملابس ويلوّحن بأعواد الحلوى.

في أحد الأيام، أحضرت منظارًا لأراقب تلك الأم المناسبة للتصوير بكل المقاييس. راقبتها لساعاتٍ هي وزوجها ذا الوجه الجذاب وأطفالهما الخمسة أثناء تناولهم الطعام وبينما هم يقرأون ويغنون ويرقصون. وهي لا تكترث لي وأنا أراقبها، بل تفتح ستائرها حتى أراها بسهولة أكثر. بدأت بعد ذلك بعرض المنتجات التي تستخدمها محاولةً إغرائي كي أشتريها. تريدني أن أنخدع بجمال حياتها وأن أقلدها.

زكي وزكية الصناعي

أنا لا أتجسس على جيراني فهي جريمةٌ يعاقب عليها القانون، لكني أستطيع فعل أمر مشابه لساعات بشكلٍ قانوني تمامًا، إذ يمكنني أن أتتبع الأمهات على الإنترنت. من بين هؤلاء الأمهات، ماديسون فيشر، التي تصوّر كل شيء، من اللحظات الفارقة مثل ولادة طفليها التوأم، وحتى اللحظات اليومية مثل تحضير الطعام،  وتنشرها لملايين المتابعين على يوتيوب وإنستغرام. وهي واحدةٌ من آلاف الأمهات اللواتي يبعن حيواتهن على الإنترنت، واللواتي يطلق عليهن اسم "الأمهات المؤثرات" (Momfluncers).

اكتسب تطبيق إنستغرام شهرته من فكرته الذكية بإضافة فلاتر تصوير تجمّل أي صورةٍ تلتقطها في حياتك. ولكنه تحول إلى شيء مختلفٍ تمامًا بعد أن بيع لشركة فيسبوك عام 2012، إذ تحول عندها لمركز تسوق ضخم بعد أن سُمح برعاية المنشورات.

في عام 2021 نُشر أكثر من 3.8 مليون منشور في العالم تحت وسم #إعلان، وقد مثل ذلك قفزة كبيرة عن السنة السابقة بنسبة 27 بالمئة. ومكاسب إنستغرام تتركز بشكل أساسي في الجنس؛ إذ يعرض نساء بثياب فاحشة يبعن مستحضرات التجميل والحقائب والمكملات الغذائية. كما تتركز مكاسبه في ما قد يأتي بعد كلمة الجنس وما يتعلق بها: أي الأطفال.

ومع الأطفال تأتي الأمهات اللواتي يبعن نسخًا متكلّفةً من الأمومة، إذ يجب أن تتمتع الأم المثالية في الولايات المتحدة ببطنٍ مسطح وشعر لامع وعمل رائع وزوج وسيم وتكون قادرة على طهو وجبة عضوية متوازنة وأن تكون ثريةً، وكل ذلك يأتي بفضل المنتجات المستدامة للعناية بالبشرة، والعلامات التجارية الفاخرة وتطبيقات اللياقة البدنية وبرامج إنقاص الوزن وأحدث صيحات الموضة، وكلما بدت تلك الأمهات بصورة أجمل، ازداد إيمان المشاهد بتلك الرسالة. تظهر عارضة الأزياء الأمريكية إميلي راتاجكوفسكي عاريةً في الحمام بينما يحتضنها ابنها الصغير في إحدى الصور المنشورة على حسابها على إنستغرام الذي يتابعه 29 مليون شخص، مع عبارة "لومل... حب حياتي". يا لها من لقطة لطيفة للأمومة، وأيضًا، يا لها من وسيلة لبناء علاقة تربط المتابعين بعلامة تجارية.

يستخدم الأطفال اللطيفون، بالإضافة إلى مشاهد العري وغيرها، لاستدراج المتابعين. فعندما اتهمت راتاجكوفسكي من قبل معارضين على الإنترنت بأن سلوكها كان "غير لائق"، ردت بفيديو على منصة تيكتوك لها وهي ترقص مع ابنها المبتسم وهي تردد أغنية ميغان ذي ستاليون: "تحدثوا عن شيء تحبونه، وتوقفوا عن التحدث عني''. لكن "حديثهم عنها" واكتسابها متابعين إضافيين، وهو ما يمكن بدوره أن يتحول إلى صفقات مربحة، وعروض أزياء، وفرص عمل، هو بالضبط ما تصبو إليه راتاجكوفسكي، التي تستخدم حسابها على إنستغرام للترويج لأعمال من بينها العلامة التجارية "إيناموراتا" التي تمتلكها والمختصة بملابس السباحة.

قد تبدو مواقع الأمهات المؤثرات عفويةً ومليئة باللحظات الخاطفة الصادقة، ولكن الإجراء المتبع الآن من قبل المؤثرين الكبار (الذين يمتلكون أكثر من 100,000 متابع)، أنهم يضعون خططًا للمحتوى قبل أشهر من عرضه

تبشر تطبيقات إنستغرام ويوتيوب وتيك توك بعصرٍ من الدعاية الشخصية الهوجاء. عصرٌ يُقاس النجاح فيه من خلال عدد المتابعين و "الإعجابات"، وتتفوق فيه الفضيحة على الخصوصية، وتترجم فيه الشهرة إلى المزيد من الأموال، ففي حياة المؤثر، كل شيء معروض للبيع - بما في ذلك الأطفال.

دخلت العالم الرقمي للأمهات المؤثرات للمرة الأولى خلال فترة الوباء، فقد كنت أعيش في نيويورك وكنت حاملاً، وصادفت مؤثرةً رقمية كانت قد أنجبت طفلها مؤخرًا.

 وفي حين استخدمت الأمهات الأخريات منصاتهن للحديث عن مواضيع صعبة (مثل مشاكل الخصوبة وتمرد الأطفال) وتقديم النصائح، كانت هذه المؤثرة تقدم محتوى أكثر ضررًا، إذ كان حالمًا وخياليًا وغير حقيقي. لم يبد أي شيء في حياتها ذا أهمية، وقد تضمن محتواها جولات في منزلها وعلامات على السيراميك الفاخر وورق الجدران والكراسي ذات العلامات التجارية الخاصة بمصممين، وقد كانت تجري جلسات تصوير مع طفلها الصغير لحملات الملابس وتتمتع برحلات مجانية في منتجعات شاطئية حصرية. طرود لا حصر لها وصلت إلى منزلها، وكانت مليئة بالمنتجات المرسلة من العلامات التجارية الراغبة في الترويج لها. كان طفلها جذابًا، وكان زوجها داعمًا لها وبدت حياتها سهلة جدًا ومكتظّة بالأعمال في آن واحد.

بلغت قيمة الصناعة الناشئة للتسويق من خلال المؤثرين في الولايات المتحدة الأمريكية  1.7 مليار دولار في عام 2016، وبحلول عام 2021 تضخم هذا الرقم إلى 13.8 مليار دولار. في هذا العالم، تحظى الأمهات المؤثرات بمكانة خاصة، فهن يقدمن محتوى آمن ومناسب للأسرة، ويبدو أنهن يضعن الآخرين في المقام الأول. كما أنهن يستهدفن زميلاتهن في الأمومة، وهو سوق مربح جدًا نظرًا إلى أنّ مشتريات النساء تساوي 83 بالمائة من جميع المشتريات في الولايات المتحدة الأمريكية عام 2019.

يؤمن أكثر من 92 بالمئة من أبناء جيل الألفية الثانية بمصداقية المؤثرين الرقميين ويعتبرونهم أكثر مصداقية من المشاهير والإعلانات التقليدية. "لقد طوّر المؤثرون الرقميون علاقة طويلة المدى مع النساء اللواتي يتابعنهم، لذلك فإن مجتمعات متابعيهم تثق بهم"، كما تقول ماريا بايلي، المتخصصة في التسويق للأمهات ومؤسسة شركة بي إس إم ميديا في فلوريدا. وتضيف  أن "هذا ما يجعلهم قادرين على بيع المنتجات للآخرين".

اقتصاد الأمهات المؤثرات مشابه جدًا للاقتصاد العادي: فهو اقتصاد شديد التباين، إذ يحصل واحد في المئة من المؤثرين الأعلى دخلاً على أجور تصل إلى ستة أرقام، ويصل سعر الإعلان الواحد إلى 125,000 دولار أمريكي أو أكثر، أما الآخرون، فيغامرون ويعرضون بعض الحفاضات مقابل بضع مئات من الدولارات. ولكن هناك فرصة كبيرة لمن ينجح بالصمود، ففي عام 2019، قدّرت مجلة فوربس قيمة اقتصاد الأمهات الجديد (أي التطبيقات والمنتجات والخدمات التي تستهدف الآباء والأمهات من جيل الألفية الثانية) بـ 46 مليار دولار أمريكي.

أما الأمر المؤكد  فهو أنه لا يمكن أن تكون إحداهن من الأمهات المؤثرات من دون أطفال، ومن دون دفع هؤلاء الأطفال أمام العامة على طبق رقمي، ليشاهدهم كل المتفرجين الجائعين لهذا المحتوى. ولا يمكن أيضًا أن يصبحن أمهات مؤثرات مالم يدفعن أولادهن للعمل.

كسب الأطفال عيشهم عبر القرون عن طريق العمل في المزارع العائلية وفي المصانع والمناجم أو خدمًا منزليين، إذ لم ينظر إلى فكرة "الطفولة" بوصفها مقدسة، وفيها يحافظ على الحق في اللعب ويشجع التعليم وتشدد القيود على عمالة الأطفال، إلا قبل فترة قصيرة نسبيًا، وقد كان كل من الكاثوليك والبروتستانت يعتقدون أنّ الإنسان يحمل خطيئة آدمية، وقد أعلن القس الإنجليزي توماس بيكون في عام 1550 أنّ "الطفل في الكتاب المقدس هو إنسان شرير كما أنّه جاهل ولم يمارس التقوى". وأكد كتاب التعليم المسيحي في نورمبرج أنّه حتى الأطفال الذين لم يولدوا بعد لديهم "شهوات ورغبات شريرة"، وكان الكسل في الأطفال مكروهًا إذ اعتبروا لاأخلاقيين. هذه الأفكار تسربت وانتشرت خلال فترة التحول إلى الصناعة وكانت محركًا لعمالة الأطفال. وفي عام 1790، اقترح أحد أصحاب المصانع في لندن استخدام الأطفال في مصانع النسيج لديه لـ "منع صفتي الخمول والتسيب اللتين أصبحتا عادتين" تدمران المجتمع.

كان جان جاك روسو جريئًا عندما رفض مفهوم الخطيئة الأصلية في عمله الأساسي "إيميل" أو في كتابه "عن التعليم" عام (1762)، فقد أصر روسو على أنّ الأطفال يولدون بريئين فقط ليتلوثوا من العالم الذي يعيشون فيه. وفي القرن التاسع عشر، تجلت هذه الفكرة في المدرسة الرومانسية في المقام الأول ردَّ فعلٍ على ظروف العمل القاسية التي كان يعاني منها الأطفال. وقد أعلى شعراء مثل ويليام ووردزورث وويليام بليك من شأن الطفولة الهانئة في رواياتهم، والتي لا يمكن استعادتها بعد الفقد، في حين أن المؤلف المشهور جدًا تشارلز ديكنز، والذي كان ينتج ما يعد وسيلة الترفيه الأهم آنذاك، فضح في كتبه استغلال الأطفال في العمل.

مهنعغ
طفلة تعمل في أحد مصانع القطن في الولايات المتحدة عام 1908. (مكتبة الكونغرس)

يقول هيو كانينغهام مؤرخ الطفولة في جامعة كنت في إنجلترا: "إنّ ما حدث في القرن التاسع عشر أمر لم يسبق له مثيل، إذ بدأ الناس في التفكير في عالم يجب ألّا يعمل فيه الأطفال". ويضيف أنّ الأطفال الذين يعملون في المصانع والمناجم آنذاك لم يعودوا يعتبرون مواطنين منتجين، بل "أطفالًا فقدوا طفولتهم فحسب".

 في الوقت نفسه، كانت نسبة الوفيات بين الأطفال تتناقص، كما بدأت الأسر تصبح مكونة من أفراد أقل، وقد "أصبح الأطفال أكثر قيمةً بقليل"، كما يلاحظ جيمس مارتن، مؤلف كتاب "مقدمة قصيرة جداً لتاريخ الطفولة" (2018). ولكن كانت العائلات الأكثر ثراءً فقط هي القادرة على أن تضطلع بمسؤولية حماية أطفالها ورعايتهم، في حين احتاج الأطفال من الطبقة العاملة إلى حماية الدولة في ذلك الوقت. وفي عام 1833، حظر قانون المصانع البريطاني توظيف الأطفال دون سن الـتاسعة وحدد ساعات عملهم، وأصر على أنّ يتلقوا تعليمهم. أما الولايات المتحدة، فلم تُنظم عمالة الأطفال فيها في القانون الفدرالي حتى عام 1938، وكان ذلك من خلال قانون المعايير العادلة للعمل.

ومن المفارقات الناتجة عن هذه النزعة أن الأطفال اليوم لا يتمتعون بحماية وحصانة هما الأكبر فقط، ولكن حدود الطفولة تتسع أيضًا، فقد أظهر التعداد السكاني لعام 2017 في الولايات المتحدة أنّ أكثر من ثلث الشباب (من 18 إلى 34 عام) يعيشون مع والديهم. لقد قدسنا هذه المرحلة من حياتنا وجعلناها مريحةً وخاليةً من المسؤوليات الحقيقية لدرجة أننا أصبحنا نريد التقوقع فيها لأطول فترة ممكنة. فالأغنياء المحظوظون المنعمون بالهدايا المادية والمحميون من المخاطر الجسدية، يتلقون كل فرصة تعليمية ممكنة، ولكن التكنولوجيا في الوقت ذاته تعني أنّهم الأكثر هشاشة على الصعيد النفسي والعاطفي والقانوني. ففي حين أن الأطفال في الخمسينيات من القرن الماضي كانوا ربما تقع أيديهم على مجلة بلاي بوي الإباحية، يستطيع الأطفال الذين لم يتجاوزوا الحادية عشر من العمر اليوم أن يشاهدوا أفلامًا إباحية كاملة. أما ما يثير القلق أكثر، فهو أنّ هذا الجيل يجري تصويره والاحتفاظ بصوره لا من أجل العائلة والأصدقاء فحسب، بل من أجل الترفيه عن الغرباء أيضًا.

سُرقت سابقًا طفولات عاطفية وسرديات حميمة، لأغراض تجارية، ففي مطلع القرن العشرين، استُخدِمَت رسومات، وبعد ذلك صور، تظهر أطفالًا بدينين للترويج لصابون" بيرز". وفي الثلاثينيات، ظهرت النجمة الطفلة شيرلي تيمبل في إعلانات لحبوب الإفطار "ويتيز"، ثم في السبعينيات، حصلت الممثلة البريطانية باتسي كنسيت على فرصتها لتظهر على التلفاز بصفتها طفلة لطيفة في الرابعة من العمر تروج لبازلاء من العلامة التجارية بيردز آي"، مع العبارة التي أصبحت أيقونية الآن "حلوة مثل لحظة فتح قرن البازلاء". يستمر تسليع الطفولة بلا هوادة، ولكن وسط انتشار وسائل التواصل الاجتماعي المشكوك فيها أخلاقيًا، لم يعد الأطفال يبيعون السلع فقط في إعلانات تجارية واضحة، إنما أصبحوا رموزًا لنمط المعيشة الذي يحسد المرء عليه، والذي يجني منه الوالدان أرباحهم.

عغفقث
غرايس (3 سنوات) ومود دالي (5 سنوات)، عاملتان في أحد مصانع الروبيان في الولايات المتحدة عام 1911. (مكتبة الكونغرس)

قد تبدو مواقع الأمهات المؤثرات عفويةً ومليئة باللحظات الخاطفة الصادقة، ولكن الإجراء المتبع الآن من قبل المؤثرين الكبار (الذين يمتلكون أكثر من 100,000 متابع)، أنهم يضعون خططًا للمحتوى قبل أشهر من عرضه، كما ويكثر أيضًا الاعتماد على وكالات تمثلهم، وفقًا لدانييل وايلي، مؤسسة وكالة تسويق المؤثرين، في مقالتها في مجلة فوربس. ويستخدم المؤثرون بشكل متزايد أيضًا طواقم تصوير ومصورين محترفين، تدفع تكاليفهم إما من قبل العلامات التجارية المروجة أو على نفقة المؤثرين الخاصة.

مقابل كل صورةٍ تنشر، هناك مئات النسخ التي التقطت ثم حررت وعدلت. وفي الوقت نفسه، على المؤثر أن ينتظر العلامات التجارية الممولة للإعلانات حتى توافق على المنشور النهائي قبل نشره، وتناقش الوكالات مسبقًا ما إذا كان الأطفال سيظهرون أم لا. وغالبًا ما تُكتب نصوص المحتوى مسبقًا، إذ يُطلب من الأطفال تكرار شعارات لعلامات تجارية مثل "زارا" أو "تارجيت" كما لو أنّهم كانوا يتحدثون بطريقةٍ عفوية.

ورغم أنّ الأمهات المؤثرات يتحدثن في منشوراتهن عن مدى حبهن لأطفالهن، فإنّ توقيت حديثهن عن ذلك غالبًا ما يكون مخططًا جيدًا ليتزامن مع أعياد مثل عيد الأم أو عيد الحب. يتم تتبع "التفاعل" (عدد "الإعجابات" والتعليقات التي يتلقاها المنشور) لمعرفة مدى فعالية المؤثر في بناء جمهوره، وحتى لو لم يكن المنشور مرتبطًا بمنتِج ما، فلا بد أن يظل متوافقًا مع العلامة التجارية الخاصة بالمؤثرة سواء كانت فاشنستا جريئة أو أمًا ماهرة في الأعمال اليدوية أو سيدة أعمال شابة. وحتى لو لم تكن قادرة على توظيف فريق خاص، فإن إنتاج صورةٍ واحدةٍ بمظهر جذاب وسلس يتأتى من التدبير والإعداد التفصيلي، وكما أخبرني أحد العاملين في هذه الصناعة فإنه "نادرًا ما تكون -تلك الصور- حقيقية".

مقابل كل صورةٍ أو مقطع فيديو تنشر، هناك مئات النسخ التي التقطت ثم حررت وعدلت للخروج بنسخة تبدو عفوية وطبيعية.

في عام 2017، أصبحت التوأمان ميلا وإيما ستوفر من ولاية أريزونا والبالغتان من العمر عامان، حديث الساعة، عندما انتشر مقطع فيديو لهما على إنستغرام وهما توجهان نصائح مهنية لبعضهما البعض، وحقق الفيديو أكثر من 5 ملايين مشاهدة. تريد إيما أن تصبح معلمة، فترد ميلا: "إيما، أنتِ تكرهين الأطفال!". لتسأل إيما: "ماذا عن طبيبة؟" فترد ميلا: "إيما، أنتِ تكرهين الدم!" وينتهي الفيديو بإيما وهي تحتضن وجه ميلا وتقول: "سنتجاوز ذلك، حبيبتي". منذ ذلك الحين، حصلت التوأمان اللتان أصبحتا الآن في الثامنة من العمر، على عقود عمل مربحة مع علامات تجارية مثل أمازون ووولمارت، مما سمح لأمهما كاتي ستوفر أن تنشئ شبكة ضخمة من المتابعين على الإنترنت والاستغناء عن وظيفتها في مجال العقارات.

والأسوأ من ذلك أنّ هناك تركيزًا ملحوظًا على الفتيات الصغيرات اللواتي يحاكين أجواء مسابقات الجمال، ويدرن للكاميرا وهن مرتديات فساتين مزركشة ويتناولن الحلوى بطريقة مبتذلة ويرمشن ليستعرضن الماكياج على عيونهن. يظهر مقطع فيديو لهالستون، ابنة ماديسون فيشر، البالغة من العمر ثلاث سنوات بوجه يغطيه الماكياج على حسابها الخاص على إنستغرام (الذي يصل عدد متابعيه إلى 570 ألفًا)، بينما تقول للكاميرا: "أنا جيدة جدًا في وضع أحمر الشفاه". إنّها بالفعل جيدة، إذ  يبدو مكياجها احترافيًا وخاليًا من أية ملامح طفولية، في تناقض صارخ مع عينيها الواسعتين وصوتها الطفولي. ربما ترى الأم أن ابنتها بهذا الشكل تبدو لطيفة، لكن مع ذلك فإن هذا الفيديو يظهر جهلًا غير مكترث بالاعتداءات المحتملة. إذ تقول بايلي  من مؤسسة بي إس إم للإعلام: "عندما تضع الأمهات صورًا لفتيات صغيرات وتجعلنها أساس المنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي، أشعر بالانزعاج ... لأننا سننظر إلى المتابعين وستكون هناك نسبة كبيرة من المتابعين الذكور."

وفي حين أن أعداد الأطفال الذين يمثلون علامات تجارية آخذ بالازدياد، لا ينحصر موطن الجدل في ذلك، إذ إننا نشعر بالغضب المبرر إن علمنا أن رداء ما قد حيك بأيدي فتاة في الثامنة في أحد المعامل في بنغلادش، لكننا لا يرف لنا جفن إن سوق هذا الفستان نفسه من قبل طفلة ضعيفة لا تتلقى أجرًا في الولايات المتحدة. لا يُبعد أطفال المؤثرين عن المدرسة، وهم لا يعيشون في فقر مدقع ولا يخشون فقدان عضو من أعضائهم في حال حدوث عطل ما في الآلة؛ ولكنّ هذا لا يعني أنّ  انكشافهم على العالم يمر دون أن يؤثر عليهم نفسيًا، إذ إن عرض طفولتك لجمهور عالمي خارجي غير مرئي من البالغين يمكن أن يتسبب بأضرار كبيرة على صحتك النفسية، ولك أن تسأل ماكولاي كولكين عن ذلك.  

رغم ذلك، فقد وصلت صناعة المؤثرين إلى النخبة من المشاهير، إذ نادرًا ما تجد نجومًا اليوم يتمكنون من تجنب مشاركة تفاصيل حياتهم الشخصية مع العلن لكي يبقوا على مقربة من جمهورهم، وهذا يشمل في كثير من الأحيان مشاركة صور لأطفالهم. بل إن صناعة التأثير حازت على إقرار ملكي مع مواصلة الأمير هاري وميغان ميركل نشر تفاصيل حياتهما، إذ عادة ما يبدو أنهما يروجان لشيء ما، لكتبهما وأفلامهما الوثائقية وأسلوب حياتهما الكاليفورني المترف، وهما يستخدمان أطفالهما عندما يحلو لهما الأمر، وذلك حتى وهما يشتكيان من اختراق خصوصيتهما من قبل الإعلام. يسعى هاري جاهدًا للإشارة إلى أنّه في حين أن صحف الفضائح لم تطلب الإذن مطلقًا لإمطار صفحاتها الرئيسية بصور مسروقة التقطت خلسة له وهو طفل، فإنه يوافق الآن على استخدام لقطات حميمة لأطفاله في فيلم هاري وميغان (2022) الذي كان الوثائقي الأكثر مشاهدة على نتفلكس، فيقول: "أعتقد أن الموافقة هي مربط الفرس. فإن كان لديك أطفال، فإن ما ينشر يجب أن يكون رهنًا لموافقتك."

لكن مع ذلك يظل موضوع الموافقة أمرًا ثانويًا إلى حد ما، إذ تكمن المشكلة في الأثر، ولا يزال القانون متخلفًا عن معالجة ذلك.

من الناحية القانونية، لدى الآباء والأمهات مطلق الحرية بخصوص ما يشاركونه من أمور تتعلق بأطفالهم في العلن، طالما لم يكن هنالك سوء معاملة صريح، ولا يملك أطفالهم أية سيطرة كما لا يمكنهم تقديم الموافقة المعتبرة للاستخدام العلني لصورهم، ناهيك عن فهم عواقب ذلك على المدى البعيد. وعندما يدخل المال إلى المعادلة ينتج عن ذلك تضارب في المصالح، إذ إن الآباء والأمهات الذين يعتبرون أكبر المنتفعين من استخدام الأطفال هم أيضًا من يعهد إليهم بوضع ضوابط لحمايتهم.

أدركت بعض الحكومات حجم الكارثة، لكنها تمثل حالات نادرة. فقد قامت فرنسا في عام 2020 بتقديم قانون جديد لحماية المؤثرين الأطفال، وهو ينظم ساعات العمل التي يمكن للأطفال العمل خلالها، ويحدد أنّه يجب حفظ جزء من أرباحهم جانبًا وتخصيصه لهم، كما يؤكد على "الحق في النسيان"، أي بحق الطفل في حذف المحتوى الرقمي الخاص به عن الشبكة لو رغب في ذلك. وفي بعض الولايات الأمريكية ومن ضمنها كاليفورنيا، يتمتع الممثلون الصغار الذين يظهرون في البرامج التلفزيونية والأفلام بحقوق مماثلة بموجب "قانون كوجان": إذ يجب على الآباء التقدم بطلب للحصول على تصريح عمل، ووضع 15% من أرباح أطفالهم في صناديق ائتمان، ولكن مع ذلك لا يزال الأطفال الذين يظهرون على وسائل التواصل الاجتماعي وفي الإعلانات الترويجية غير متمتعين بأية حماية قانونية.

تقول ليا بلانكيت، الأستاذة في كلية الحقوق بجامعة هارفارد ومؤلفة كتاب "التربية التشاركية: لماذا يجب علينا التفكير قبل التحدث عن أطفالنا على الإنترنت" (2020): "لا توجد أية صناعة أخرى تعتمد لهذه الدرجة على عمالة الأطفال، وهي في الوقت ذاته غير منظمة". فنجد أنّ المؤثرين يديرون أعمالا عائلية تكره الحكومة التدخل فيها. ولكن كما تقول بلانكيت لي: "إن عمل طفل في مخبز لعائلته في عطلة نهاية الأسبوع يختلف تمامًا عن أن يخضع للتصوير وهو ينام ويلعب ويدرس، وأن تشاهده جماهير عالمية غير محدودة في الحاضر والمستقبل".

لا توجد أية صناعة أخرى تعتمد لهذه الدرجة على عمالة الأطفال، وهي في الوقت ذاته غير منظمة.

من أجل الاستمرار في جذب المعجبين، يجب على المؤثرين أن يرفعوا السقف باستمرار، ففي مقطع فيديو شهد انتقادات واسعة، تخبر نجمة اليوتيوب سافانا لابرانت، من كاليفورنيا، ابنتها إيفيرلي روز بأنّهم سيتخلون عن كلب العائلة الأليف، وفقط عندما تصبح الفتاة الصغيرة محبطة جدًا لدرجة لا تعود معها قادرة على الكلام، وتبدأ بتغطية وجهها عن الكاميرا، تكشف الأم عن أنّ ذلك مجرد مقلب بمناسبة كذبة نسيان. كما تنشئ عائلة فيشر في يوتاه سيناريوهات لخلق التوتر والمشاحنات بين أطفال العائلة. وفي التدوينة المرئية 'تيتوم مقابل أوكلي: لعبة واحدة' (2019)، تجري ماديسون 'تجربة' على توأميها متذرعة بأنها تريد تعليمهن كيفية المشاركة، فتعطي لعبة جديدة على شكل حصان لإحداهما، وغصنًا من الحديقة للثانية، ثم تبدل الهدايا، فتعطي الفتاة التي حصلت في المرة الأولى على غصن، الحصان، في حين تعطي الفتاة التي حصلت في المرة الأولى على الحصان، مربعًا برتقالي اللون. تدخل الأخيرة بنوبة غضب، إذ ترمي هديتها على الطاولة، ثم تأتي المفاجأة: إذ تقدم لعبة جديدة على شكل حصان لكل من الفتاتين فتبدوان سعيدتين! حقق هذا الفيديو 1.7 مليون مشاهدة، وعلت أصوات المجاملات (‘أحب ملابسهن بالمناسبة!! ويا للطافتهن!!')، ولكن كانت هناك انتقادات من قبيل  "تحصلين على لعبة جديدة لرميك الأشياء والدخول في نوبة غضب... يا لها من تجربة تعليمية عظيمة!"

 

يتدخل القضاء فقط عندما يتعلق الأمر بسوء المعاملة السافر من قبل المؤثرين، ففي عام 2019، اعتقلت ميشيل هوبسون في ولاية أريزونا بعد أن أجبرت أطفالها السبعة على التمثيل على اليوتيوب عن طريق ضربهم واستخدام رذاذ الفلفل. ولكن هناك حالات أخرى أقل وضوحًا، فعندما تبنى كل من مايكا وجيمس ستوفر (ولا تربطهما مع كايتي ستوفر أي علاقة) طفلًا من الصين مصابًا بالتوحد لينضم إلى أطفالهم الأربعة في ولاية أوهايو، أصبح جزءًا من علامة عائلة ستوفر التجارية. أعادت العائلة تسميته، فأطلقت عليه اسم هاكسلي، ثم في عام 2018 صُور للطفل، الذي كان يبلغ من العمر حينها ثلاث سنوات، مقطع فيديو يروج فيه لأحد أنواع مساحيق الغسيل المضادة للحساسية. في الفيديو، تقول مايكا برقة: "أحد الأشياء التي فعلتها لتقوية علاقتنا كان القرار باستخدام مسحوق غسيل ‘دريفت‘ للأطفال." ثم تنشر على إنستغرام صورة لها وهي جالسة على ملاءات مغسولة ونظيفة وتلاعب هاكسلي، مع عبارة: "لا أبدله بأي شيء آخر!". لكن من الواضح أن مايكا استبدلت صورته، من أجل المال. وبعد عامين، استبدلته عائلة ستوفر بالفعل عندما تنازلت عنه بهدوء لعائلة أخرى. ولا يمكننا هنا منع أنفسنا من التساؤل عما إذا كان تبني الطفل جزءًا من دفعة إنسانوية إلى الأمام تهدف إلى مساعدة العائلة على عرض عالمها الوردي للجماهير.

في الأوضاع التي يسري فيها القانون، يعد استغلال طفل ضعيف مصاب بالتوحد من أجل بيع مسحوق للغسيل، أمرًا محظورًا بالنسبة للمعلنين التقليديين، ولكن المؤثرين يعملون في عالمٍ أشبه بالنسخة الرقمية من الغرب المتوحش. وبالطبع فإن هنالك درجات من الاستغلال، فراجاكوفسكي تستخدم طفلها بمثابة قطعة من الإكسسوارات، فهو نجمة تزين بدرًا، في حين أن أطفال عائلة فيشر يعملون في التمثيل، وهناك آلاف الأطفال الذين يعملون بمستويات متباينة ما بين النموذجين، ومعظمهم لا يكسبون ملايين الألعاب البلاستيكية للترويج لها وفتحها أمام الجمهور، كما أن كثيرًا منهم ربما لا يتعرضون لاعتداءات سادية، فهم يعملون في وظائف مثل وظائف الآخرين، أي أنهم فقط يشعرون بالملل على الأغلب.  

فهم يعملون بالفعل، وإن كنت تعتقد أن إجبار طفل على الوقوف بهدوء والابتسام للكاميرا وقول "تشييز!"، ليس بالأمر الصعب، مع الالتزام في الوقت ذاته بتلبية متطلبات العلامة التجارية الممولة، فإنك على الأرجح لم تمضِ وقتًا طويلًا مع الأطفال. تنصح واحدة من الأمهات بجعل الطفل يرتدي نظارات شمسية لإخفاء عينيه اللتين لا تنظران مباشرةً إلى الكاميرا. وتنصح أخرى قائلة: استخدمي الرشوة! كما اعترفت آبي هيربرت، وهي إحدى المؤثرات المهمات في بنسلفانيا، أثناء جلسة تصوير مع زوجها وطفلتها قائلةً: "نعم، هذه قطعة بسكويت في يدها، ونعم، لقد لجأنا لها للحصول على بعض اللقطات الإضافية".

الأمهات المؤثرات

يواجه المؤثرون ضغوطًا حقيقيةً، إذ يديرون إمبراطوريات إعلامية مصغرة، فهم ينتجون ما يماثل مجلة يومية. الصحفية جو بياتزا، التي تعمل على بودكاست بعنوان "تحت التأثير" وهو يناقش ظاهرة الأمهات المؤثرات بعمق، تقول: "إنهم تحت ضغط كبير، فهم يديرون قسم الإعلانات الخاص بهم، ويديرون قسم التحرير الإبداعي الخاص بهم أيضًا... كل قرار تتخذه هو قرار تسويقي، فحياتك كلها تسويق، وهو أمر مرهق على المستويين النفسي والبدني."

رغم أننا نعرف أن المراهقات، خاصة الفتيات اللواتي يستخدمن وسائل التواصل الاجتماعي بكثرة، أكثر عرضة للإصابة بضعف الثقة بالنفس والاكتئاب والقلق، فإننا لا نعلم بعد كيف سيتأثر الأطفال الذين ينشأون على المواقع العامة، فكيف سيشعرون عندما يصبحون في مرحلة المراهقة ولا يعودون قادرين على تسويق المنتجات باستخدام لطافتهم؟ وكيف يمكن أن يتأثروا بحقيقة نشأتهم في نظام نرجسي يسعى بوضوح إلى إرضاء الآخرين؟ إن نظرنا إلى طبيعة صناعة المؤثرين الحالية فيجب أن نتوقع الأسوأ في ظل عدم توفر دراسات أكاديمية حول الآثار المتوقعة على الأطفال.

في سلسلة من مقاطع الفيديو المنشورة على تيك توك عام 2021، تتحدث لو نومنغتون، التي كانت تبلغ من العمر حينها 26 عامًا، بالتفصيل عن تبعات ظهورها عندما كان طفلة على مدونة والدتها المعنونة بـ "مامي". نومنغتون، التي تظهر في الفيديو مجدولة الشعر ومتمسكة بدمية على شكل دب كوالا، تصف كيف أنها كانت دائمًا ما تشعر بالتأهب "حتى داخل البيت الذي يتمتع بالخصوصية، عليك أن تتوقع دائمًا أن تجد الكاميرا بالقرب، وأي حوار كنت تجريه، مهما كان محرجًا أو حميمًا أو خاصًا سينتهي على المدونة." نومنغتون، التي تصف نفسها بـ "هم"، تشعر بالتوتر الدائم حيال نظرة الغرباء لها. وفي مقابلة مع اليوتيوبر الدكتور ريان عام 2021، تبدو نومنغتون غاضبة بالذات لأن جمهور والدتها كان "يطلق الأحكام علي خلال نشأتي في كل مرحلة عمرية من حياتي."

تخبرني كارين نورث، المختصة في الإعلام الرقمي وعلم النفس في جامعة كاليفورنيا الجنوبية، أنها لم تفاجأ، "فنحن نرى أن مشاكل الأطفال الممثلين تتضخم لأن عروضهم متاحة حسب الطلب، ولأنهم ليسوا أطفالًا يمثلون شخصية ما، إنما هم يعيشون حياة كاملة بهذه الطريقة التي تفضح فيها جميع نقاط ضعفهم من أجل متعة الآخرين، إذ لا يمكن أبدًا التعامل مع الأمور بخصوصية لأن مشاكلهم الآن متاحة ليطلع عليها العامة."

من المستفيد؟ المؤثرون؟ نعم. الأطفال؟ ربما. شركات التكنولوجيا الكبيرة؟ بالتأكيد. فالشركات مثل "ميتا"، التي تمتلك كلًا من فيسبوك وإنستغرام، تسعى إلى تحقيق أقصى قدر من التفاعل من خلال إبقاء المستخدمين على هواتفهم لأطول فترة ممكنة باستخدام حيل نفسية مختلفة ليتمكنوا بعدها من تتبع البيانات ونشر الإعلانات بين المشاهدين، فقد تكون ماديسون فيشر مليونيرة، لكن مارك زوكربيرغ ملياردير.

قبل أن ننتقد هؤلاء الأمهات، لنفكر في مدى صعوبة مهمة الأمومة الحديثة. إن تكلفة تربية طفل في الولايات المتحدة اليوم تتراوح بين حوالي 16 إلى 17 ألف دولار سنوياً! إذ "لا يوجد نظام لرعاية الأطفال، واليوم المدرسي لا يعكس أيام العمل بعد الدراسة، ولا توجد خدمات لرعاية المسنين" كما تقول جيسيكا جروس مؤلفة كتاب "صراخ من الداخل: عدم قدرة الأمومة الأمريكية على الاستمرار" (2022). بالإضافة إلى ذلك، فإن الأمهات العاملات لا يزلن يؤدين معظم الأعمال المنزلية، لذلك تبدو وظائف إنستغرام وكأنها تعد بشيء جيد وحقيقي يتمثل بمنفذ للخروج من دائرة الاقتصاد اللانهائية وأنت في منزلك وبين أطفالك.

في الواقع، الأطفال يأتون و"تأتي معهم رزقتهم"، لكن البعض يأخذ ذلك إلى مستوى بعيد. فبحسب كريس ماكارتي مؤسس موقع كويك كليكنغ كيدز، والبالغ من العمر 18 عامًا، "تحصل العديد من الصفحات الإلكترونية على موجات جديدة من المتابعين عندما ينجبون طفلًا جديدًا، إذ ترتفع نسبة مشاهداتهم وتصنيفاتهم. وعادةً ما تستغل هذه الصفحات كل تفاصيل فترة الحمل والولادة وتسمية المولود"، فتبدأ باستحداث مناسبات من قبيل نشر أول صورة للرضيع أو حدوث أول تواصل باللمس مع الرضيع للترويج لعلامات تجارية.

هل من السيئ العمل في مهنة تكافئ الأمهات على إنجابهن أطفالًا بدلًا من معاقبتهن على ذلك؟ مهنة تحسّن مستوى معيشة الأطفال، ويتمتع أطفال المؤثرين فيها بوصول أكبر إلى المهارات الرقمية، ناهيك عن مهارات تسويق أنفسهم؟ تحول ظهور كل من كيندل وكايلي أثناء طفولتهن في برنامج الواقع "كيبنغ أب وذ ذا كارداشيانز" الذي بث في الأعوام بين 2007 و2021، تحول إلى شهرة وثروة، فكندل جينر الآن عارضة أزياء، وكايلي جينر تاجرة تجزئة كبيرة. ومسيرتهما إلى الثراء ألهمت، وقوضت أيضًا، قرارات لكثير من الأمهات المؤثرات، وأيضًا بنفس القدر كانت المشاهد التي ظهرت فيها أختهن كيم كارداشيان في مجلة بريك ذا إنترنت سيئة السمعة بمثابة هبة للنشطاء الداعين إلى تقبل الجسد كما هو.

الأمهات المؤثرات

تحب الأمهات المؤثرات أطفالهن كأي أم أخرى بالطبع، ولكن هذا لا يعني أن عملهن سليم من التلاعب وربما الخبث، فمعظم الأمهات المؤثرات لسن من الطبقة العاملة الكادحة التي تعيش في مساكن عامة وتقتات على المساعدات الغذائية، بل ينتمين للطبقة المتوسطة ويعشن أصلًا براحة من الناحية المادية، ثم يدعوننا لنستهلك ونستهلك ونستهلك. فالأم في أوهايو، التي يروج ابنها لآخر نسخة من دمية باربي، تروج أيضًا عبر أكثر الأدوات براءة، وهي أداة "بهجة الطفولة"، تروج عن دراية لنظام أصبحت فيه النزعة المادية الطاغية علامة مشوهة على النجاح الأخلاقي والرفاه الشخصي. إن الأمهات المؤثرات لا يعرضن ما يزعمن أنهن يقدمنه، وهو العائلة المثالية المتاحة للجميع، بل هن يصورن حياتهن زيفًا بطريقة تجعلها متناسبة مع المثل الاستهلاكية العليا، ويتعكزن على أطفالهن لبيع السلع المادية والحصول عليها.

مع ذلك فإن الرغبة بالحصول على المال يمكن أن تشتتنا عن نقطة غاية في الأهمية لم تطرح مباشرة، وهي السعي وراء القبول والحاجة الملحة للبشر للحصول على الانتباه، فإن استخدم الأطفال يومًا ما بدافع تجنيبهم الكسل، وهو دافع مشكوك فيه، فإنهم يستخدمون اليوم ليكونوا أدوات تعزز غرور والديهم، فمن لا يريد أن يقال له إن طفله ذكي أو ماهر في الموسيقى أو جميل؟ كلما ضغط أحدهم على زر الإعجاب على صورة ما أو ترك تعليقًا فإن مراكز المكافأة في أدمغتنا تنشط. لكن المؤثرين يحصلون على جرعة مضاعفة من الدوبامين تتأتى من تفاعل الناس والنقود التي يجنونها، و"هذا كل ما يلزم للوصول إلى الإدمان الشديد"، كما تقول عالمة النفس ميتش برنستين، مؤلفة كتاب "مشهور: قوة الإعجاب في عالم مهووس بالمناصب" الذي نشر عام 2017. وتضيف أن "الناس سيفعلون أي شيء للحصول على ذلك الرد حتى لو انطوى ذلك على خيارات مشكوك فيها."

من ناحيتها، تعتقد خبيرة الإعلام الرقمي كارين نورث، أنّ الأمهات المؤثرات أتين بديلًا للمسلسلات العائلية التي راجت في السابق، ففي يوتوبيا دافئة ومفعمة بالألوان لا يحصل فيها أي أمر سيء، نرى آباء وأمهات يربون الأطفال، وأطفالًا ينمون، واحتفالات بين الفينة والأخرى، مما يوفر لنا معيارًا لتقييم أفعالنا وقيمتنا. ورغم كل ذلك، يظل هناك ما يكدر العلاقة بين المؤثر ومعجبيه، وذلك يتمثل في معرفة أن حياة المعجبين منقوصة، فعائلاتهم أقل جاذبية للتصوير، وعشاءهم أقل صحة، وعطلاتهم أقل سحرًا. المؤثرون يعدون بأنّ ما لديهم وما هم عليه يمكن تحقيقه بالنسبة لك، فقط إن نقرت على رابط المنتج واتبعت أسلوبهم. يجب عليكِ أن تتذكري دائمًا أنّ هذا كله تمثيل، إذ لا يمكنكِ شراء شيء ما لنفسك لتصبحي أمًا جيدة، ولا يمكنكِ شراء عائلة مثالية، وحتى المؤثرون يذهبون إلى المنزل ليجدوا أطفالهم يصرخون.

المؤثرون يعدون بأنّ ما لديهم وما هم عليه يمكن تحقيقه بالنسبة لك، فقط إن نقرت على رابط المنتج واتبعت أسلوبهم، ويجب عليكِ أن تتذكري دائمًا أنّ هذا كله تمثيل!

لدي وزوجي ألبوم صور مشترك للأصدقاء والعائلة نتشارك فيه صورًا لطفلتنا التي تبلغ الثانية من العمر، لكننا لم ننشر قط صورة لها بالعلن، فنحن نريد أن تلعب بعيدًا عن العيون الشرهة، وأن تقدر قيمة خصوصيتها لتعرف أنها لا تقدر بثمن، وأن تعرف أنه لا بأس بأن نخطئ لأن الحياة فوضوية. واقعها اليومي بعيد كل البعد عن الصور البراقة للأطفال الذين تنشر صورهم على مواقع التواصل الاجتماعي، وكل صباح تركض إلي بطيش لتحصل على قبلة سريعة وحضن. ترمي وجباتها على الأرض، وتفرغ قوارير المياه في الحمام، وتغضب عندما لا تستطيع ارتداء حذائها.

أما بالنسبة لي، عندما أتصفح إنستغرام، أتخيل أنني أنظر إلى برج مليء بالنوافذ. مئات الأشخاص يتنافسون على انتباهي، مثل دمى مربوطة بخيوط وتتحرك داخل صناديق صغيرة مع بقع صغيرة من الأضواء مسلطة عليها. لقد قررت أنني لا أحتاج إلى منتجاتهم أو إلهامهم، ولا أحتاج إلى رؤية حياتهم لأعرف كيف يجب عليّ أن أعيش حياتي، ولا أحتاج إلى أن توقعني تقنيات حديثة أو أسماء تجارية فاخرة في شراكها لكي أستمر باستهلاك المزيد. فليتبختروا ويرقصوا لغيري، لأنني سأغلق ستارتي.