03-فبراير-2017

من كتاب "ذاكرة القاهرة الفوتوغرافية"

"كان الدهش أول باعث للتفلسف بمعنى حب الحكمة وحب المعرفة" (أين الخطأ، عبد الله العلايلي) وأصل الموهبة في الانسان. أما الدهشة وراء هذا المقال فهي غزو الفتاوى والمفتين لمواقع التواصل الاجتماعي وشاشات الفضائيات. 

في البداية، لا بدَّ من مدخل تعريفي. اتفقَّ الرأي قديمًا -ولا يزال صالحًا حاليًا- أنه يشترط في المفتين التمتع بملكة الاستحصال لا الاستحضار فليس المفتي أو الداعية من يحفظ " قال وقيل"، بل من يستخرج ويستنبط من "القيل والقال". فبداهة إذًا أن يصبح وصف الأولين بالقوّالين. 

تصبح الفتوى بلاهة صافية جراء تكاثف حيرة العقل الماضوي أمام تحديات الحداثة

والحال أن فتاوى القوالين تتصدر المشهد وإنتاجهم سيل من فتاوى دينية، تحاول التوفيق بين المخزون التراثي الجامد والتغير الواقعي المستمر، بحيث تستحيل الفتوى بلاهة صافية جراء تكاثف حيرة العقل الماضوي أمام تحديات الحداثة. هذه الظاهرة لا تخص القوالين في مجتمع المسلمين وحدهم، بل تتعداها الى نظم وأديان وايديولوجيات متعددة، مثال على ذلك تحريم بابا الكنيسة الكاثوليكية لوسائل منع الحمل والوقاية من الأمراض الجنسية. وإذا كانت النتيجة هنا كارثية بحتة فأنها لا تخلو من الفكاهة في المقلب الاسلامي، بدئًا بفتوى عدم دوران الأرض لابن باز إلى إباحة دماء ميكي ماوس، والفئران عامة، إلى تحريم خلع الملابس أثناء ممارسة العلاقات الزوجية، لأنها تبطل عقد الزواج، وصولًا إلى تحريم لعبة البوكيمون.

اقرأ/ي أيضًا: لعبة الدين في العالم العربي

التعريف الاصطلاحي للفتوى بما هي: الإخبار عن حكم الشرع لا على وجه الإلزام، لا يتضمن أي سلطة للفتوى بذاتها. أما التعريف التاريخي للمفتي فهو" القائم في الأمة مقام النبي صلى الله عليه وسلم" (الموافقات، الإمام الشاطبي)، وذهب ابن القيم في تعريفه إلى القول بأنه "موقع عن رب العالمين" (إعلام الموقعين عن رب العالمين)، وبما أن واقع الحال اليوم لا يحفظ هذه المكانة للمفتين، نرى الصراع يشتد بين المفتين الموزعين على المؤسسات الرسمية، الأحزاب السياسية، والفضائيات التجارية.

مفتو المؤسسات الرسمية 

تحتفظ الذاكرة العربية الجمعية لزمن ما قبل الثورات، بدور نافع شبه وحيد للمؤسسات الرسمية الدينية وهو التثبت من هلال شهر رمضان. عدا ذلك توالت فتاوى من نوع إرضاع الكبير، وتحريم المحادثات الإلكترونية بين الجنسين، وتحريم رياضة اليوغا... لتشعرنا كم أن رجال الدين في حالة من الاسترخاء الذهني والرفاهية الحياتية، حتى تفرغوا لمناقشة مسائل هامشية للغاية، وتحويلها إلى عناوين اجتماعية ملحّة، في حين أنّ المجتمعات العربية، قبل بدء حركات التغيير العربي، كانت بحاجة إلى دور نهضوي للدين، من حيث التحريض على التمرد ضد السلطات الحاكمة، وليس التحالف معها بالتواطؤ على حقوق الناس (كما الحال في مؤسسة الأزهر أو المؤسسة الدينية السورية الرسميَّة…). 

من نافل القول إن طمس الدور التثويري للدين هو جوهر هذا الحلف المقدس بين السلطة والمؤسسة الدينية، لأن الدين يختزن محركًا لتنشيط المجال العمومي، وقدرة هائلة على الحشد في ميادين التعبير والاحتجاج، والعكس صحيح. تجدر الإشارة سريعًا إلى تجربة مجموعة "ائتلاف شباب الأزهر" ومجموعة "أزهريون بلا حدود" التي شاركت في ثورة "25 يناير"، بناءً على أصول فقهية، وإلى أمين عام الفتوى في "دار الإفتاء المصرية" الشيخ عماد عفت، الذي استشهد في أيلول/ديسمبر 2011. وبالرغم من هذه الإستثناءات وغيرها، إلا أنه لم يحدث اختراق فعلي في مؤسسة الأزهر، وبقي التحالف المقدس مع السلطة الحاكمة صامدًا.

الشراكة القائمة بين المؤسسات الدينية والسلطات، حوّلت المجمعات العلمية إلى سيرك

هذه الشراكة القائمة بين المؤسسات الدينية والسلطات، حوّلت المجمعات العلمية إلى سيرك، يعمل على تقديم أفكار أقرب ما تكون إلى ألعاب الأكروبات، وتحويل جلّ همومها إلى الإمعان في تعطيل حركة التفكير، وتخريج فقه يتناسب مع سياسيات السيطرة والاستحواذ السياسية والاقتصادية، التي تقوم بها الدولة الأمنية لصالح الطبقة الحاكمة. من الجيد هنا تذكر فتاوى جواز الصلح بين مصر وإسرائيل (1979)، والاستعانة بقوات أجنبية خلال حرب الخليج الثانية (1990)، وإباحة فوائد البنوك (2003)، وبناء جدار فولاذي مع قطاع غزة (2010).

اقرأ/ي أيضًا: محمد أبو رمان.. سيرة مختصرة للسلفية الأردنية

الغريب في الأمر أن رجال الدين يظنون أنهم قادرون على ضبط إيقاع الحياة وواقع الناس عبر "الفتوى"، مدفوعين بتكليف سماوي، ومن خلال نص الهي مطلق، رغم ما يحتويه النص الديني من اشتراطات عقلية تستلزم القراءة والتحليل في ظل الظروف التاريخية التي أنتجتها، ولعل ما يرشح من المؤسسة الدينية في العالم العربي من فتاوى، من هذه الفصيلة التي نتحدّث عنها، إنّما يدل على جهل مركّب، جهل في العقل الانساني وقوانينه، وجهل في النص الديني واشتراطاته أيضًا، كفتاوى من قبيل: تحريم الاستفادة من لحوم الأضاحي في التصنيع والتعليب، والقيام بطمرها لأسباب صحية. 

وإذا كان اكتشاف النفط ووصول الكهرباء والبرادات إلى السعودية، قد تكفل بحل المشكلة، فهنالك فتاوى تجاوزها الزمن دون أن يقوم أي أحد بمراجعتها أو التراجع عنها، مثل فتاوى تحريم التعاملات المصرفية والهاتف والتلغراف والصور الفوتوغرافية والتلفاز والسينما. فإنشاء المصارف الإسلامية لم يمس جوهر العمل المصرفي، ولم يبعد شبهة الربا المزعومة، بمقدار ما زاد المعاملات تعقيدًا. كذلك موضوع الهاتف، فجلّ مريدي مدرسة تحريمه لا يتجولون اليوم بدون هواتفهم المحمولة، لكن هيهات أن يفوتهم ركب التهافت، فقد انتقل النقاش إلى جواز الشهادة على الهاتف، ولاحقًا إلى بينية الطلاق على الـ"واتساب".  

هذه الوقائع مزدوجة التأثير فهي تسحب ذرائع المنسحبين من الشأن العام، بدعوى طغيان التهافت، لكنها في الوقت نفسه لا تعفي المؤسسة الدينية من مسؤوليتها التاريخية، وستبدو هذه المسؤولية جسيمة وكبيرة بعد عصر انفجار مجتمعاتنا العربية، لكون انشغالات مؤسسة الفقه ظلت قاصرة عن متطلبات المجتمع، بالإضافة إلى توفيرها بيئة فكرية متخلفة وقاصرة تناسب تمرير سياسيات النهب والتوريث وغياب التنمية.

مفتو الأحزاب السياسية

لا يمكن قراءة الفتوى الدينية كدلالة على تدين المجتمعات العربية، دون أن نعرج على الإسلام السياسي وعمله ونظرته إليها، بل وعمله ونظرته إلى الدين نفسه، فمن جهة تلعب الفتاوى دور المؤشّر على نفوذه (أي الإسلام السياسي) داخل المجتعات العربية، وتمتين قوته وتكريس مشروعه، في مؤسساته الحزبية و"الاجتماعية". ومن جهة أخرى، يسعى إلى تهميش التيارات الفكرية الدينية التنويرية، والمدارس الدينية الإسلامية الأخرى.

وصلت الفتاوى في الجانب السياسي إلى حد الخروج على النص المؤسّس

وصلت الفتاوى في الجانب السياسي إلى حد الخروج على النص المؤسّس، وذلك من أجل المصالح السياسية المباشرة، حين أفتى من أفتى بـ"عدم الخروج عن طاعة الحاكم"، وهو ما يتناقض بشكل كبير مع قاعدة فقهية تقول: "لا طاعة لمخلوق فوق الخالق"، أو الفتاوى الخاصة بالسلفية الجهاديَّة التي تتحدث عن "القتل والذبح"، والتي تتعارض مع الرؤية الدينية الإنسانية "من قتل نفسًا بغير حقّ كأنما قتل الناس جميعًا"، وقاعدة "دفع الحدود بالشبهات"، أضف إلى ذلك الدور التفتيتي الذي تقوم به الفتوى حين يتم استجلابها إلى حلبات الصراع بين الفرق الإسلامية.

اقرأ/ي أيضًا: الأزهر التاريخيّ في دورانه

نرى الاستعمال السياسي الفاضح لسلطة الدين واسم الله والنبي والقرآن حينما يأتي من ينادي بـ"تحريم التصويت للتيارات الليبرالية أو اليسارية"، ذلك أن صوت الفرد الانتخابي، في أدبيات المؤسسة الإسلامية، مسؤولية وأمانة يسأل عنها الفرد يوم القيامة. ويجتمع رأي القوالين في السياسة أن سبب هوان الأمة وذلها هو فراغ المساجد من المصلين وابتعاد الناس عن شرع الله، لكن ما الذي سيحدث لو اجتمع الناس على حديث الرسول: "الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار"، وطالبوا بحقهم في أسباب الحياة من مياه وغذاء وطاقة، ألن يتوجه مفتو الأحزاب السياسية إلى الناس بأحاديث الصبر على البلاء والابتلاء وطاعة أولي الأمر. 

مفتو الفضائيات التجارية

برامج الفتاوى التي تملأ المحطات الفضائية، تشير إلى تراجع الاتجاهات الفكرية التنويرية للأسباب المعروفة لدى الجميع، وتدل أيضًا على حجم جمهور هذه البرامج، فالقاعدة الذهبية في الفضائيات هي نسب المشاهدة المرتبطة طرديًا بأسعار الإعلانات وحجمها. لكن وصولها إلى هذه الدرجة من الانتشار يتوافق بشكل كبير مع انتشار أنماط الاستهلاك المعولمة، بما تتضمنه من منتجات جاهزه تحت الطلب، بالإضافة إلى التوصيل وخدمة العملاء.

من جانب آخر، ساهمت المؤسسة الدينية في ابتعاد الناس عنها كونها تلعب دور "فقيه السلطان"، وهذا ما لا تنكره المؤسسة نفسها. أما صعود ظاهرة الدعاة/ المفتين "النجوم"، بالترافق مع تنميط الحساسيات العامة تجاه الشكل الخارجي والملبس وطريقة الكلام، فقد سهّل انتشار الفتاوى، ضمن إطار الموضة، واستجابة إلى شروط العرض والطلب. الخطير في موضوع تقديم الفتاوى كسلعة هو تسليع الروح الإنسانية واستهلاكها وتحويلها إلى عامل تخلّف اجتماعي وإنساني، والأهم عائق أمام انفتاح المسلم على الفضاء الكوني العام.

ما يقوم به مفتي الفضائيات ليس إلا عمليَّة "مكياج" سطحيَّة تحمي المنجز الديني من عملية نقديَّة حقيقيَّة، وتخفف المسؤولية عن كاهل المؤسسة الدينية التي لا تتوانى عن الاشتباك معه، بحجة قلة علمه، دفاعًا عن الدين ظاهرًا وعن مكانتها ضمنًا. الملفت أيضًا في المحطات الفضائية، حيث راجت ظاهرة الدعاة والإيمان التلفزيوني، عبر "البث المباشر"، هو العمل على تطويب ظواهر العري والفيديو كليب الصاخب والجريء، في ثنائية لا تتجاوز الأبيض والأسود، وعبر خطاب بسيط وسطحي، بهدف واحد وحيد هو جعل السلطة في منأى من أيّ تفكّر بأحوالها أمام فساد هذه "الدنيا".

شكلت مواقع التواصل الإجتماعي في الأونة الأخيرة سوقًا مفتوحًا للمفتين والدعاة

في الجانب الثقافي، لم تسلم الثقافة، مكانةً ودورًا، من عمليات الاغتيال المنظمة التي تعرض لها العقل العربي والتي تقودها مؤسسات الفتوى. ذلك الاغتيال الذي طال نماذج إسلامية تنويرية كبرى مثل ابن رشد وابن خلدون، بالإضافة إلى اغتيال رموز اليسار العربي في لبنان سابقًا، واغتيال شكري بلعيد القيادي اليساري في تونس، أو التهديد باغتيال آخرين وتكفيرهم مثال ذلك: نوال سعداوي ونصر حامد أبو زيد (حيث صدرت فتوى دينية بحقه من البرلمان الكويتي، طُرد على إثرها من المطار)، بالإضافة إلى الفتوى الخاصة باغتيال الباحث التاريخي فرج فودة، وهدر دم نجيب محفوظ، وجواز جلد الصحفيين.. والقائمة تطول.

اقرأ/ي أيضًا: فتوى تحريم الاحتجاجات العشوائية تثير جدلًا في تونس

يبقى أن ننظر إلى إقبال البسطاء على الفتاوى والاهتمام الدائم ببضاعتها الجديدة، على أنه استجابة طبيعية لآليات الهيمنة الثقافية التي صبّت، الأنظمة السياسية والقوى المالية، كل جهودها في سبيلها.

مفتو السوشال ميديا

شكلت مواقع التواصل الإجتماعي في الأونة الأخيرة سوقًا مفتوحًا للمفتين والدعاة على أنواعهم، وتحولت منابرها إلى بسطات لبضاعتهم. وهم إذ يدركون أهمية الإعلام التقليدي والحديث (انظر دعوة العريفي) يخرجون دائمًا بدعوات أخلاقوية وسطية لا تسمن ولا تغني، بما أن الخوض في الأمور الجدية مؤجل وممنوع. بحيث تسقط كل ادعاءتهم في محاربة التطرف والإرهاب، طالما زخرت مكتباتهم بكتب من قبيل "إقامة الحجة الباهرة على هدم كنائس مصر والقاهرة" للشيخ الدمنهوري (1689-1778). 

لكن رغم كل القتامة، تبدو اللحظة الراهنة لحظةً للمراجعة الجذرية لكل هذه التراكمات، وللاشتباك الفكري والثقافي في الميادين المتاحة، وهو ما سيضع كل هذا التاريخ من الغبش على الملأ، وسيفتح العيون على عملية نقدية حقيقية أمام الاصطدام بقضايا الهوية والحرية والعدالة الاجتماعية.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

لا لتجديد الخطاب الديني!

المقرئ النصاب.. موسم سقوط نجوم العمائم