14-ديسمبر-2015

الأزهر الشريف (Getty)

لا يتوقف وزير الأوقاف المصري الحالي محمد مختار جمعة عن أن يحدثنا كل يوم في الصحف عن ضرورة تجديد الخطاب الديني تجديدًا رأينا تجلياته في خطب الجمعة الموحّدة الأخيرة، التي تؤصل لطاعة السلطة الحاكمة والانصياع التام للنظام والتحذير من مغبة التجاوب مع تيارات الإسلام السياسي المصرية المناوئة للحكومة.

بالنسبة للنظام المصري، تجديد الخطاب الديني خطة أمنية وليس خطة فكرية

وقصة تجديد الخطاب الديني في عصر السيسي لها أصول.. فسبق أن دعا إليها السيسي نفسه، لئلا يشكل المسلمون خطرًا على الدنيا كلها بالأفكار المتطرفة كما يرى، وقد استجاب بعض الصحفيين والكتاب والمثقفين العلمانيين المصريين لهذه الدعوة، فرأينا من يقول إن السيسي كلفه أو كلفها بتجديد الخطاب الديني في مناسبات عدة. وكان من ضمن هذه الموجة أيضا ما كان يقدمه الصحفي إسلام البحيري في برنامجه الموقوف على إحدى القنوات الفضائية، وقد سبق أن أعلنت رأيي مما كان يقدمه البحيري في مسألة "تنقيح التراث" وتجديد الخطاب الديني، ورأيت أن هذه العملية تفتقر إلى المنهج، وتنطوي على منطق مراوغ ينتظر من البحث الديني أن يُفضي إلى نتائج محددة سابقة التجهيز، أو يتم رفضه.

لكن الدولة لم توقف إسلام البحيري وتحاكمه بتهمة ازدراء الأديان لأسباب منهجية، إنما تم إيقاف إسلام البحيري لأسباب تتصل أساسًا بجوهر المطلوب من عملية "تجديد الخطاب الديني"، وهو زيادة نفوذ المؤسسات الدينية المحسوبة على الدولة، والتي كان البحيري قد بدأ يضمها إلى قائمة خصومه الذين يهاجمهم. إن تجديد الخطاب الديني بهذا المفهوم يصبح خطة أمنية وليس خطة فكرية، وهي خطة أمنية لا تمت إلى التحديث وأفكاره بصلة، بل إنها على العكس تمامًا في القلب من عملية استغلال الدين في المجال السياسي، وليست مناوئة له كما يزعم البعض.

ودعني أذهب أيضا إلى أبعد من ذلك فأقول لك إنني كرافض للأصولية الدينية رافض أيضًا لمشاريع التحديث الاجتماعي والسياسي ذات الطابع الديني بشكل عام، لأن تجديد الخطاب الديني عادةً يؤصل لدوغمائية دينية أشد من الدوغمائية التي يعارضها في البداية، لأنه يبدأ وكأنه اتجاه تحرري.. لكنه في الحقيقة اتجاه سلطوي، لا يؤول إلى تفكيك هيمنة الدين على المجال السياسي، ولكن يؤول إلى تثبيتها، حيث يصبح الخطاب الديني نفسه بعد التجديد والإصلاح والتزويق أكثر قوة ومصداقية ونفوذًا من ذي قبل، وهنا يصبح نقده أو الدعوة إلى تقليص نفوذه السياسي والاجتماعي خروجًا على "ثوابت" تجديد الخطاب الديني الوسطي القويم..!

تجديد الخطاب الديني هو أكذوبة كبيرة، الغرض منها تعزيز دور المؤسسات الدينية الرسمية ورجال الدين التابعين للدولة كمشاركين في الحكم والهيمنة على المجال السياسي العام، من خلال توسيع المسافات بين الخطاب الديني الرسمي والخطاب الديني المعارض، بحيث يصعب على المعارضة ذات التوجه الإسلامي أن تتسلل إلى السلطة أو إلى المجتمع من خلال الخطاب الرسمي أو ما يوازيه، وفي المقابل يسهل على المؤسسات الدينية الرسمية أن تسيطر على المجتمع وتساهم في ترويضه، وحدها لصالح السلطة التي تمثل هذه المؤسسات ضلعًا أصيلًا فيها بالمناسبة.

في مصر، نعيش في دولة قروسطية حقيقية تتخذ مظهرًا تجميليًا من المؤسسات المدنية الحديثة

إنني أعتبر موضوع تجديد الخطاب الديني لعبة كبيرة لا يجب تشجيعها أو التماهي معها.. فلتظل المؤسسات الدينية تقول ما تريد أن تقوله دون تدخل أو استغلال من الدولة، ولكن يجب أن تظل هناك حدود واضحة تمنع رجال الدين بمختلف أطيافهم من الهيمنة على المجال السياسي سواء بالممارسة أو بالخطاب، وسواء كان هذا الخطاب أصوليًا أو تحديثيًا، فهذه مسألة مبدأ يجب أن تكون واضحة للجميع.. جدد الدين للدين أو اترك الدين في حاله.. لكن في كل الحالات لن يكون مقبولًا أن نظل محكومين بدولة دينية ذات قشرة مدنية سطحية.

يجب أن يلاحظ الجميع ويشهد بوضوح على أن مصر الآن ليست دولة قومية حديثة حقيقية، فيها فصل جاد بين السلطات ومؤسسات دينية لا تمارس لعبة السياسة، على العكس تمامًا.. نحن دولة فيها نوعان متناقضان من مؤسسات التشريع: مؤسسات التشريع المدنية ممثلةً في البرلمان، وهي المؤسسة الأضعف، ومؤسسات التشريع الدينية ممثلةً في دار الإفتاء ومجمع البحوث الإسلامية وهيئة كبار العلماء وما يوازي ذلك عند المسيحيين، وهي المؤسسات الأقوى التي إن حدث واختلفت مع البرلمان في شيء فسوف ينتصر لها المجتمع والسلطة التنفيذية ولن ينتصروا للبرلمان بالسليقة.. هذا بفرض أن البرلمان يجرؤ أصلًا على مثل هذا الخلاف أو بفرض أن لدينا برلمانًا حقيقيا مثلًا..!

إن هذه المؤسسات التشريعية الدينية في مصر مهيمنة أيضًا على القضاء والنيابة العامة، والمحكمة الدستورية العليا بقوة الدستور والشرعية المجتمعية، وهذه الحقائق كلها تضع أيادينا على حقيقة أننا نعيش في دولة قروسطية حقيقية تتخذ مظهرًا تجميليًا من المؤسسات المدنية الحديثة، وهذه الدولة القروسطية حريصة حرصًا تامًا على أن يظل رجال الدين التابعون للسلطة بكامل هيبتهم وقوتهم ونفوذهم في المجالين الرسمي والشعبي رغم الصراع مع جماعات الإسلام السياسي، وهذا هو الجوهر الحقيقي وراء أكذوبة تجديد الخطاب الديني.

الشارع المصري لا يشعر أصلًا بأي احتياج إلى تجديد الخطاب الديني ولا يهمه الموضوع، لكن أجهزة الأمن والجهات السيادية هي المهتمة.. أنا شخصيًا إذا نمت في يوم واستيقظت لأجد أن الأزهر الشريف بأكمله قد اختفى من الوجود في ظروف غامضة، أو أخذته كائنات فضائية إلى كوكب آخر.. صدقني لن أشعر بأي مشكلة في ذلك، لكن ضباط الأمن والقوى الرجعية في الدولة والمجتمع ستكون أمام مشكلة كبيرة..!

اقرأ/ي أيضًا:

يا عزيزي كلنا "نصوص"!

هل توجد اليوم ديمقراطيات حقيقية؟