06-يونيو-2021

(Getty) أسرى مصريون في حرب 1967

لم أكن أريد أن أضع نفسي في هذا الموقف، فلا أحد يحب أن يكون من يخبركم بذلك، ولكن لا مفر، يجب أن تعرفوا عاجلًا أو آجلًا. 

آسف جدًا، أعرف قسوتها، لذلك سأفعلها دفعة واحدة: في الحقيقة إذا "بلغ الفطام لنا صبيٌ" فلن يخرّ له أحد.

كتب المثقفون العرب مئات الكتب في تشريح الهزيمة وتحليلها وتجاوزها، ومئات آخرون حاولوا أن يكونوا نجوم الظهر التي تجعلنا نعرف شدّة الصفعة حين تلقيناها

وسيكون مجرد طفل يحتاج لتعويضه عن حليب أمه بكميات من البروتين والكربوهيدرات والألياف، وسيحتاج عمّا قريب لمدرسة يتعلم فيها، ثم لفرصة عمل يعيش منها، وبلد يعيش فيه، وإيمانًا يعيش لأجله. وهذه مواصفات وحاجات لا تثير اهتمام الجبابرة ولا تعطيهم أي سبب للسجود. 

اقرأ/ي أيضًا: النكسة.. هزيمتنا الممتدة فينا

طالما تقبلتم الأمر، فيجب أن تعرفوا أيضًا هذه الحقائق: لسنا "المانعين لما أردنا، ولا النازلين بحيث شينا" ولسنا "التاركين إذا سخطنا، ولا الآخذين إذا رضينا" وقبل كل ذلك لسنا "العاصمين إذا أُطعنا، ولا العازمين إذا عُصينا".

اضطررت لقولها بهذا الشكل المباشر والواضح، لأن أربعة وخمسين عامًا تمّت اليوم على أول مرة أخبركم أحد بذلك، وصَمَمْتم آذانكم عن صراحته ووضوحه. 

قالها الخامس من حزيران/يونيو بكل الفجاجة التي يحتاجها عقل عاش في أوهامه المننتفخة لقرون، فلم يمرّ على هذا الشرق أعمق من ذاك اليوم، وكان له أن يكون الصفعة التي توقظنا من غيبة القرون. لكن مرور كل هذا الوقت دون ظهور أي نتائج ملموسة، دليلٌ على أننا خسرنا الفرصة أيضًا وليس الحرب فقط. 

فنحن ما زلنا منذ خمسة عقود ونصف في لحظة الاختلال التي تلي الصفعة، ما زلنا نسمع طنينًا، ونرى نقاطًا تلمع كنجوم الظهيرة، فالفرصة إذًا لم تَضِع بعد، وما زال بإمكان هذا اليوم العظيم أن يفعل ما عليه، ويوقظ الانتباه فينا. يحتاج فقط أن يتحرر من أولئك الذين يستثمرون فيه دون توقف، أولئك الذين غافلونا فيما كنّا نلتف حول أنفسنا محاولين استيعاب ما جرى، فقفزوا ليمتطوا أكتافنا، أوطاننا، مستقبلنا، ثم فعلوا كل ما في وسعهم لنبقى في لحظة الهزيمة. 

إحدى وسائلهم لإبقائنا في الدوي الذي يعقب الصفعة، كان منعنا من سماع صوت العقل الذي حاولت الثقافة بعد الهزيمة أن تجعله مسموعًا. فكي لا نبالغ في جلد أنفسنا (مع أننا نستحق ذلك في الحقيقة) فالثقافة العربية انشغلت بهذا اليوم، ولم تقصّر في تشريحه وقراءة مستوياته العديدة، ولكنّها لم تجد آذانًا من أي مستوى، ولم يسمعها أحد. 

أرادت الأنظمة قميصًا ملوثًا بالدماء لترفعه وتعقر جملًا، وتؤلّب القوم، وقد أهدتها السماء هذا اليوم، فهل هي حمقاء لتفرّط به، وتتركه لمشبوهين من أمثال عبد الرحمن منيف ونجيب محفوظ وإميل حبيبي ومحمود درويش ليصدّعوا رؤوسنا بثقافتهم المبهمة؟ 

كتب المثقفون العرب مئات الكتب في تشريح الهزيمة، وتحليلها، وتجاوزها، فكتب يوسف القعيد "أخبار عزبة المنسي"، وحليم بركات "عودة الطائر إلى البحر"، وعبد السلام العجيلي "فارس مدينة القنطرة"، وعبد النبي حجازي "قارب الزمن الثقيل"، وسعد الله ونوس "حفلة سمر من أجل 5 حزيران"، والسيد الشوربجي "أطول يوم في تاريخ مصر"، وتوفيق عواد "طواحين بيروت"، ونزار قباني "هوامش على دفتر النكسة"، وصادق جلال العظم "النقد الذاتي بعد الهزيمة"، وصلاح جاهين "الرباعيات"، ومئات آخرون حاولوا أن يكونوا نجوم الظهر التي تجعلنا نعرف شدّة الصفعة حين تلقيناها. 

الخام من حزيران/يونيو لن يكون الصفعة التي كنّا نحتاجها، ولا شيء قادر على إيقاظنا، والنوم الأبدي نومان لا واحد: الموت ونحن

ولكن دون جدوى، فما زلنا معلّقين عند تلك اللحظة الواهمة، لحظة التفاخر بأمجاد غير موجودة، والأرجح أنها لم تكن موجودة يومًا، إلا على مستوى مجموعة أشقياء ينتصرون على مجموعة أشقياء من حيّ آخر في مشاجرة عنجهيات، فيظنون أن لا عيب فيهم "غير أنّ سيوفهم بهنّ فلولٌ من قراع الكتائب"، خصوصًا أنهم حين نووا القراع وخرجوا يبحثون عن كتائب "أتوا يجرّون الحديد" حتى ليبدو للناظر من بعيد أنهم "سروا بجياد ما لهنّ قوائم". 

اقرأ/ي أيضًا: كتاب "في تشريح الهزيمة".. نكسة 1967 كمحصلة لسلسلة من الهزائم

بعد نشر هذا المقال، إذا سألني شاب عشريني، كما هو متوقع: وماذا جرى في الخامس من حزيران/يونيو؟ أعدكم أنني سأتوقف تمامًا عن نقل الأخبار السيئة، وسأستسلم أنا الآخر، وأقر صاغرًا باكتمال الهزيمة، وبضياع الفرصة إلى الأبد، وبأن هذا اليوم لن يكون الصفعة التي كنّا نحتاجها، وبأن لا شيء قادر على إيقاظنا، وبأن النوم الأبدي نومان لا واحد: الموت ونحن. 

 

اقرأ/ي أيضًا:

من ذاكرة الهزيمة

كتاب "حرب حزيران".. من أجل جمع خيوط الرواية العربية للحرب