08-يناير-2020

غلاف كتاب "في تشريح الهزيمة"

بعد مُضي أكثر من نصف قرن على نكسة حزيران/يونيو 1967، لا تزال تفاصيل الهزيمة واضحة لا شية فيها بالنسبة لشعوب المنطقة العربية. 

يأتي كتاب "في تشريح الهزيمة" للتنقيب ليس فقط في أسباب نكسة 1967، وإنما في كافة الجوانب التي مهدت وصاحبت وتبعت الهزيمة

ووسط كثير من الجدل والقيل والقال عن النكسة وحولها، خرج كتاب "في تشريح الهزيمة" لستة من الكتاب والباحثين والمؤرخين، للتنقيب، ليس فقط في أسباب الهزيمة، وإنما أيضًا في كافة الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية التي مهدت وصاحبت وتبعت هذه الهزيمة، في محاولة لفهم واستيعاب عميق لنقطة سوداء، ولود، في تاريخ المنطقة.

اقرأ/ي أيضًا: النكسة.. هزيمتنا الممتدة فينا

نكسة 1967.. في تشريح الهزيمة

يبدأ الفصل الأول بقلم مُحرر الكتاب، الصحفي والباحث والمسؤول الأممي السابق، خالد منصور، تحت عنوان "الهزيمة المحتومة.. سياق ووقائع حرب الأيام الستة". 

ويتناول هذا الفصل، عن قرب، الظروف والأسباب المباشرة التي أدت إلى تلك الضربة القاصمة للجيش والدولة المصرية، رغم الدعاية الضخمة التي صنعها النظام عن قدرات الجيش والقيادة العسكرية والسياسية التي تستعد وتتأهب لتلك المواجهة لسنوات، قبل أن يتم القضاء عليها في ساعات.

كتاب في تشريح الهزيمة

من عشرات المصادر والوثائق الروسية والأمريكية وغيرها، وكذا أحاديث ومذكرات كبار قادة الجيش آنذاك، يستخلص منصور عوامل الهزيمة التي كانت واضحة قبل إقلاع الطائرات الإسرائيلية لدك القوات المصرية، فالتوغل الشديد للقوات المسلحة وقياداتها في الشأن السياسي الداخلي، ألهى المؤسسة العسكرية عن دورها الحقيقي، وأضفى حالة من الخمول والتراخي وتدني الكفاءة في صفوفها، لكنها كانت مغلفة ببروباغندا شعبوية. 

ذلك الخمول والفساد الذي ضرب صلب العمل الاستخباراتي العسكري المصري في مقتل، أدى إلى معطيات ودلائل كاذبة أو غير دقيقة عن قدرات العدو واستعداداته، كان أوضحها المبرر الرئيسي في عزم الدولة المصرية على شن الحرب، وهي التقارير الخاصة بحشد القوات الإسرائيلية على الحدود السورية، والتي اتضح تدني مصداقيتها ودقتها.

كذلك يرصد الكاتب ملامح الفوضى الشديدة في صفوف القوات المسلحة المصرية حينها، سواء في مرحلة التعبئة والحشد أو التقدم للصفوف الأمامية في مواجهة العدو. تلك الفوضى المصحوبة بالضحالة العسكرية لقيادة الجيش، ألقت ببطولات وشجاعة بعض الضباط والجنود في عرض البحر، ولم تُثمر سوى عن مأساة كاملة، توجت بقرارات متضاربة وعشوائية، دفعت بأرواح آلاف الجنود إلى قبضة العدو.

وفي سياق تناوله للحظات الأخيرة قبل الكارثة، يرصد الباحث بشكل دقيق، مسؤولية تخبط القيادة عن تلك الهزيمة، وتضارب الرؤى بين الرئيس المصري جمال عبد الناصر ووزير الدفاع عبد الحكيم عامر، بين الرؤية السياسية للعمل العسكري والرؤية العسكرية للعمل السياسي، وخسارة النظام عشرات الفرص لتفادي تلك الهزيمة القاصمة أو تقليل وقعها أو حتى الاستفادة دوليًا من نقط القوة السياسية والقانونية في المعركة، بدلًا من التعبئة الشعبية المحضة. 

تمثل ذلك في السبب الرئيسي للحرب، بإغلاق المضايق وطرد قوات الطوارئ الدولية. ويرصد الفصل الأول من الكتاب، الموقف القانوني لمصر من تلك النقطة، موضحًا أنه بحسب اتفاق الهدنة الموقع عام 1949،  كان يتعين على القوات الدولية أن تتمركز على جانبي الحدود، لكن إسرائيل رفضت السماح لها بالانتشار داخل حدود الأراضي المحتلة، فانتشرت على الجانب المصري فقط.

بهذا امتلكت مصر حجة قانونية تدعم موقفها، بالإضافة إلى الحجية التاريخية التي تعزز السردية المصرية باعتبار مياه المضايق مصرية، فمنذ عام 1949 تسيطر مصر على الجانب الغربي من خليج العقبة، وعلى جزيرتي تيران وصنافير. لكن مع ذلك، لم تستغل القيادة السياسية هذه الحجج على الصعيد الدولي بما يكفي، وفي المقابل استعملتها للحشد والتعبة محليًا.

الناصرية والهزيمة

بعنوان "الناصرية والهزيمة.. انتكاسة أم انهيار للمشروع العربي؟"، يأتي الفصل الثاني من الكتاب، بقلم مدير منتدى البدائل للدراسات، والباحث السياسي محمد العجاتي.

يخرجنا هذا الفصل من عمق التفاصيل العسكرية والسياسية المصرية، إلى محيط أوسع، حيث تأثير النكسة على أفق وطموح القضايا العربية الكبرى، فالنكسة لم تكن هزيمة جيوش واحتلال أرض فقط، وإنما انهيار لمشروع كبير ضم الملايين من الشعوب العربية، لصالح مشروع آخر صاعد، وهو مشروع الإسلام السياسي. وتحولت البوصلة داخل دول المواجهة بعد الهزيمة من عقيدة "استعادة فلسطين"، إلى "تحرير الأراضي المُحتلة".

يُشير العجاتي إلى حقيقةً غابت عن أجيال كثيرة حول الناصرية والقومية العربية، ففكرة القومية العربية التي سبقت عبد الناصر بكثير، وجدت فيه تمثيلًا لذلك الحلم، رغم شعبويته. وكذلك وجد هو فيها نفسه ومشروعه. 

ويحلل الفصل الثاني من الكتاب الأسس والمرتكزات التي قامت عليها ما عرفت فيما بعد بـ"الناصرية"، والتي هي مجموع التكوين الفكري لعبد الناصر والضباط الأحرار.

كتاب في تشريح الهزيمة
من ندوة لمؤلفي كتاب "في تشريح الهزيمة"

ويشير العجاتي إلى السياق الزمني باعتباره من عوامل تأسيس الناصرية. وكان السياق الزمني متمثلًا في دول راضخة تحت الاستعمار، فكان المرتكز التحرري هو أقوى توجهات فكر عبد الناصر الذي تأثر أيضًا بتجارب استقلالية سابقة وحول العالم، بالإضافة إلى المرتكز الحداثي والطبقي.

لكن تجربة الناصرية ومشروع القومية العربية، هُزم بنكسة 1967، ولا تزال آثار هذه الهزيمة ممتدة حتى اليوم على الشعوب العربية، حتى وإن حضر المشروع كظاهرة صوتية واحتجاجية في بعض المواقف.

فشل الدولة التنموية

ومن السياسة والحرب، ينقلنا فصل الباحث سامح نجيب، إلى الاقتصاد والتنمية، تحت عنوان "هزيمة 1967 وفشل الدولة التنموية الناصرية".

ويبقى جوهر الأزمة الناصرية في تلك المجالات أيضًا، هو الخطط والطموح الكبير الذي يصاحبه فساد وعشوائية وتخبط وتضارب في القرارات وصراع بين مراكز اتخاذها. 

وبكثير من الموضوعية والتدقيق، يرصد الباحث وقائع تلك التجربة، فاصلًا بين الانتقادات اليمينية والنيوليبرالية للتجربة، التي ترى في التوجه الاقتصادي الناصري (اشتراكية رأسمالية الدولة) سببًا في الخراب والهزيمة، وبين التطبيق الفاسد لها الذي أدى إلى فشلها.

كما يوضح الباحث التخبط الشديد بين شعارات الدولة الناصرية حول الاستقلال وعدم الانحياز بين طرفي الحرب الباردة، وبين المعاملات الواقعية للنظام المصري والتي كانت تتسم بالتبعية للطرفين بشكل كبير، عسكريًا للمعسكر الشرقي الذي اعتمدت عليه بشكل كامل، وغذائيًا للمعسكر الغربي. 

هذه التبعية ربما كانت ضرورية مع بداية مساعي النهضة التنموية. لكن استدامة هذا الوضع لأكثر من عقد ونصف دون العمل بجدية على تغييره، مع تراكم الديون الضخمة والتي لم تُستغل حتى في تحسين بنية الاقتصاد على غرار تجارب أخرى مشابهة.. استدامة هذا الوضع كانت هزيمة من نوع آخر.

هذه الهزيمة التنموية والتي لا تنفصل عن الهزيمة العسكرية، كانت إحدى أهم عوامل فشل الدولة في الاستعداد والتحضير للحرب. لقد كانت هزيمة تنموية، تقف وراءها عوامل كل الهزائم التي منيت بها الناصرية.

الإسلام السياسي في زمن الهزيمة

ومن الدولة الناصرية إلى خصمها الداخلي الأبرز، المتمثل في جماعة الإخوان المسلمين، يصحبنا الباحث مصطفى عبد الظاهر في قراءة لفكر ورد فعل هذا الخصم (الإخوان المسلمين) على الهزيمة، في فصل "الحركات الإسلامية في زمن الهزيمة".

قسم عبد الظاهر الفكر الإخواني إلى قسمين: الأول متمثل في تيار العنف الذي دشنه سيد قطب، والثاني متمثل في تيار إصلاحي مبهم، مخلص لحسن البنا، موضحًا مدى تخبط وضبابية هذا التيار "الإصلاحي"، الذي اتسم فكره بالعمومية الشديدة والتخبط في نظرته لـ"الإصلاح" ولدور الدولة.

وهو تخبط كائن بين الخوف الدائم من الدولة والخوف من اللا دولة ودولة "الخلافة" المتخيلة. وقد كانت لنكسة 1967 بالغ الأثر في اشتداد حالة الانفصال والخلاف بين قسمي الفكر الإخواني.

ناصر والشعب.. الأب والابن في الهزيمة وما بعدها

أما الكاتب والباحث بلال علاء، فيتناول في فصله بعدًا جديدًا، ليس للهزيمة وحدها، وإنما كذلك للحظة الزمنية التي سبقتها واللحظة الزمنية التي لحقتها، وبكثير من التأمل في هوية الشعب المصري بتمثله "ابنًا" في عين عبد الناصر بتمثله "أبًا".

وكذا بالتأمل في الدور الذي لعبته الناصرية في جموع الشعوب العربية، في لحظة كانت تنتظر فيه الدور الذي حاولت أن تلعبه الناصرية. لتأتي الهزيمة وتنهي هذه الحالة بما وصفه بلال علاء بـ"تيه القافلة".

عبد الناصر وعبد الحكيم عامر
تضارب النفوذ بين عبد الناصر وعبد الحكيم عامر ساهم بشكل كبير من النكسة

نفس هذا التيه كان طوق النجاة للمصريين شعبًا ونظامًا (نظام ما بعد عبد الناصر)، للانتصار على الهزيمة في حرب 1973، التي يرى علاء أنها اليد التي التقفت الدولة من حالة الانكسار والهزيمة التي أنهت مسيرة القافلة (وهي رؤية النظام الناصري للشعب)، لتبدأ عهدًا جديدًا بتأسيس جديد. عهد غارق في المحلية، يصوب نظره للداخل، عكس سابقه.

الصراع بين عبد الناصر وعبد الحكيم عامر

في الفصل الأخير يتناول المؤرخ والأستاذ الجامعي خالد فهمي، فصول الصراع بين ناصر وعامر وتضارب الآراء والنفوذ بينهما، وتجاهل عامر لناصر بشكل كبير، لدرجة الإعداد لخطة هجومية دون علم رئيس الجمهورية بها مسبقًا. 

وقد علم عبد الناصر بالخطة التي سميت بـ"فجر"، بطريقة معقدة وطويلة، بدأت، بشكل مؤسف، من خلال جاسوس داخل قيادة القوات الجوية، أطلع إسرائيل على موعد وتفاصيل هذه الخطة التي كانت تهدف إلى عزل منطقة النقب الجنوبي وإيلات. ومن إسرائيل إلى الولايات المتحدة الأمريكية ثم إلى موسكو التي أبلغت عبد الناصر بالخطة!

تضارب الآراء والنفوذ بين عبد الناصر وعبد الحكيم عامر جعل للقيادة رأسين يفكران بشكل مختلف ما أدى بطبيعة الحال إلى هزيمة ساحقة في 1967

كما تجاهل عبد الحكيم عامر، توجيهات وتعليمات عبد الناصر، وعمم منشورات داخل الجيش مضادة تمامًا لما وجّه به عبد الناصر، الأمر الذي جعل القيادة برأسين يفكران بشكل مختلف، ما أدى بطبيعة الحال إلى هزيمة ساحقة، ونكسة متوالدة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

نكسة حزيران.. بدء حكم الطغاة وهزيمة الإنسان

من ذاكرة الهزيمة