05-يونيو-2017

أسرى مصريون في حرب 1967 (تيري فينشر/Getty)

ما فعلته بنا الهزيمة/ النكسة التي تحلّ ذكراها اليوم، أقوى من الأيام نفسها، لأننا وجدنا أنفسنا فجأة حزانى، يقيم فينا الحزن رغم النصر في 1973. كانت الأناشيد الصادقة لافتات المصانع والمدارس، وكان السلاح "صاحي.. صاحي"، وكان هناك –رغم كل شيء- بناء ووطن ووظائف وعلم وتماثيل وأوبرا.

كان الحزن قبل الهزيمة خلّاقًا، وصار بعدها مدمرًا. أحببنا حزن صلاح عبد الصبور السهل والشفاف، وتعلّقنا بحزن صلاح جاهين الصوفي، وخرجنا على أنغام بليغ حمدي نعدّ الندوب. جلسنا إلى حزن أمل دنقل الغشيم، وصدّقنا جنون يوسف إدريس وأحمد بهاء الدين الذي أماتهما، وظلّ حزن نجيب محفوظ قديمًا ومحفورًا في مكان ما.

قبل 1967 كان الحزن جميلًا، كحزن صلاح عبد الصبور السهل والشفاف وحزن صلاح جاهين الصوفي، لكنه بعد النكسة أصبح حزنًا مدمرًا

لم يخرج الفلاحون المصريون من بلادهم طوال التاريخ إلا بعد هزيمة 1967، خرجوا حزانى وعادوا أشد حزنًا، وكذلك المعلمون والمثقفون والأطباء والمهندسون والعمال ، كلهم عادوا بلافتات جديدة ولكنة غريبة. أصبحت البلاد ملكًا لآخرين، يبيعون الأرض من تحت أقدامنا. حرّر شهداؤنا سيناء، ليبيعها آخرون لأعدائنا، حرّر شهداؤنا أرواحنا ليأتي آخرون بـ"المَلَكية" مرة أخرى! 

اقرأ/ي أيضًا: عزمي بشارة في الذكرة الخمسين للنكسة.. مقاربة جديدة لهزيمة 1967

لم يصمد الحزن الاستعراضي أمام الصمت الذي يلفّ الآباء في البيوت المغلقة، وصارت بلادنا ضيقة لا شواطئ فيها إلا ليتدرّب الناس على الموت، لا حدائق يتمرّن فيها الأطفال على الركض، لا مدارس تنبت الأشجار فيها لا مصحات ولا مسارح ولا أغنيات، فقط تجار أراض وحديد وهواتف نقالة وفياجرا وسيراميك وإعلانات.

لم يعد العمل فضيلة، ولم تعد الوطنية فضيلة، كل ما عليك أن تبتسم في وجه الرجل الكبير وتشيد بإنجازات "اللي واكلينها والعة"، أو تنحاز إلى لصوص التاريخ ممن يملكون المال والنفوذ، أو تدافع عن "إرهاب الزمن الجميل"، أو تلقي بنفسك في ثقب زمني يغمرك بالنوستالجيا الجبانة، أو تجلس إلى كتب التاريخ لتفهم شيئًا مما يجري، دون جدوى.

اكتمال الآية في لبنان

بعد 15 عامًا من الهزيمة وفي السادس من حزيران/يونيو على وجه التحديد، اجتاحت إسرائيل لبنان ووصلت إلى العاصمة بيروت لتقتلع المقاومة الفلسطينية من هناك، ولتنتقل منظمة التحرير إلى تونس.

بعد النكسة حقق العرب تطورًا هامًا، فلم تعد هناك حاجة لاعتداءات إسرائيلية، فالعرب كفيلون بقتال بعضهم

ورغم قسوة دخول القوات الإسرائيلية لعاصمة عربية، وخروج قيادات المنظمة من لبنان واحتلال مساحة كبيرة من الجنوب اللبناني؛ فإن حزيران/ يونيو 1982 كان مختلفًا عن حزيران/يونيو 1967، يومها قاوم اللبنانيون والفلسطينيون العدوان مقاومة شعبية شرسة، وتفجرت حركات التضامن والمناصرة للشعبين اللبناني والفلسطيني بطول العالم العربي وعرضه، ونجحت المقاومة الللبنانية التي تفجرت بقيادة اليسار اللبناني في إجبار إسرائيل على الانسحاب إلى الجنوب، كما أسقطت المعاهدة التي وقعها الرئيس اللبناني بشير الجميل وقتها مع إسرائيل. يومها ملكت الشعوب العربية جزءًا من مقدراتها بيدها.

بعد ذلك بنحو ربع قرن، وفي أربعين النكسة، تبدّل الحال وحقق العرب تطورًا مذهلًا وصلت فيه "المقاومة الفلسطينية" إلى الاكتفاء الذاتي، فلم تعد إسرائيل في حاجة لأن تعتدي على الفلسطينيين، ولم تعد في حاجة إلى تتبع قادة الكتائب واغتيالهم، ولم تعد في حاجة إلى تقسيم الكيان الصغير للشعب الفلسطيني إلى كيانين، واحد في غزة والآخر في الضفة. فقد قام الأخوة الأعداء بالمطلوب، وقتلوا وجرحوا المئات منهم في أقل من أسبوع، وتولوا بأنفسهم تصفية بعضهم البعض. قسّموا بقية "الوطن" الباقية، قبل أن يصبح وطنًا، مرة باسم القضية ومرة باسم الوطن، ومرات باسم الشرعية، التي ادعى كل واحد منهم أنه صاحبها.

إذا كانت نكسة 1967 أضاعت إلى الآن بقية فلسطين والجولان، إلا أنّ الهزيمة الأكبر هي التي نعيشها الآن

والآن، هل هناك أي معنى لاستمرار الحديث عن اليوبيل الذهبي للنكسة ونحن عشنا ونعيش هذه الأيام هزائم أكبر وأعمق وأشدّ إيلامًا للنفس؟ إذا كانت هزيمة 67 قد أضاعت بقية فلسطين وأراضي مصرية وسورية ولبنانية وأردنية، وما زال بعضها ضائعًا إلى الآن، فإن الهزيمة الأكبر نعيشها الآن على أيدي عصابات تتقاسم فيما بينها الوطن وتحاول فرض منطقها وحده على الجميع.

اقرأ/ي أيضًا: الجولان المحتل.. 50 عامًا من الوهم

في فلسطين، يبدو الأمر وقد استقر على ما هو فيه من انقسام بين التيارين الأكثر تنظيمًا تتوسطهما أغلبية شعبية ساخطة على الوضع القائم، وفي سوريا التي تتمدّد فيها آلة القتل وتستقطب لأذرعها الكثيرة عناصر جديدة يوميًا، أضحى الحديث عن "وطن" مسألة محزنة للغاية، وفي العراق لم يكفهم القتل على الهوية فقرروا اغتيال الموتى في مراقدهم، وفي اليمن ذهب آل سعود لتدمير ما يمكن تدميره في سعيهم لإثبات زعامة متوهمة، وفي ليبيا تقاتَل الجميع بعدما انصرف المجنون الأكبر وصارت دولة يُضرب بها المثل في الفشل السياسي. 

هزائم سوف تضيّع ما بقى من عقل الشعوب العربية وروحها، إذا كان هناك بقية منها أصلًا بعد كل ما فعلته النخب الحاكمة من أجل تجفيف منابع الحرية والتغيير.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الجيوش العربية وانتصاراتها الإعلامية

نكسة حزيران.. بدء حكم الطغاة وهزيمة الإنسان