28-أكتوبر-2016

في عصر الليبرالية الجديدة حتى مرضك عزيزتي المرأة يُستغل(بابلو كوادرا/WireImage)

كان لحملة التوعية بسرطان الثدي وضرورة الفحص المبكر لهذا العام ضجيجًا يكاد لا يطاق على كافة وسائل الإعلام بما فيها مواقع التواصل الاجتماعي بكافة صورها، فغطى اللون الوردي الذي تميزت به هذه الحملة، التي تكون في شهر تشرين الأول/أكتوبر من كل عام، العديد من الحفلات والمناسبات والمحال حتى ملابس أغلب النساء، وتسابق عدد كبير من الوكالات العالمية المختلفة، سواء الخاصة بالأزياء أو المجوهرات أو المكياج، لتكون الأكثر وردية في ترويجها لبضائعها، وتساءلت هل نحن أمام "فالنتاين" أخر وردي؟، هل تدرك النساء أننا نساق نحو الاستهلاك والاستغلال وبحجة التوعية من مرض؟.

في عصر الليبرالية الجديدة حتى مرض المرأة يُستغل، ويصبح التسويق لحملات التوعية ضد مرض ما تحت رعاية الشركات الكبرى

في عصر الليبرالية الجديدة حتى مرضك عزيزتي المرأة يُستغل، ويجب أن تقلقي عندما يصبح حجم التسويق لمثل هذه الحملات بهذه الضخامة وتحت رعاية الشركات الكبرى، التي لا يهمها سوى ضم المزيد من النساء لعالم الاستهلاك الذي لا يرحم. والأنكى من ذلك هو استخدام الأثرياء من المشاهير العرب الإناث هذا العام للتسويق للحملة أو تضامنهن معها سواء شكلاً أو مضموناً ببذخ، فمن تابع على سبيل المثال حساب لجين عمران، الإعلامية الإماراتية المشهورة، على "سناب شات" أو في أخبار المشاهير على قناة MBC، رأى احتفال عيد ميلادها الذي لوِّن بالورود الوردية الفاخرة والسجاد الوردي و"البوفيه" المزيّن بغبار الذهب وماء الذهب تضامناً مع الحملة، فما الرسالة التي يرغب أمثالها في توجهيها للجمهور عند تزيين الحفلات تضامناً، مع كل هذا البذخ تجاه نساء بالكاد يستطعن علاج أنفسهن أو إطعام أطفالهن؟

اقرأ/ي أيضًا: تونسية شابة تقدم أملًا جديدًا لمرضى الزهايمر

تعددت الألوان والسبب واحد!

إن الألوان التي تباع لنا مرة بسبب عيد الحب ومرة لأننا إناث ومرة لأننا مريضات تندرج ضمن عمل مرفوض تماماً، الألوان ملك لنا جميعاً وليست حكراً على مناسبة أو لجنس معين، سيدتي كوني على يقين أن الألوان التي تباع لنا ليست سوى أسلوب تسويقي بحت، يهدف لجذب المستهلك لمزيد من الاستهلاك لأسباب واهية تزيد من أرباح الشركات الكبرى، وسؤالي لهم" "كيف تلوّنون مرضاً خطيراً بأفضل ألواني؟!

الليبرالية الجديدة والحملة الوردية

عرَّف المنظر الاجتماعي والجغرافي الماركسي ديفيد هارفي الليبرالية الجديدة بأنها "بدايةً نظرية في ممارسات الاقتصاد السياسي، التي تفترض أن أفضل وسيلة لتعزيز سعادة الإنسان ورخائه تكمن في إطلاق حريات الفرد ومهاراته في القيام بمشاريعه وأعماله ضمن إطار مؤسساتي يتصف بحقوق قوية للملكية الخاصة والأسواق الحرة والتجارة الحرة". إذًا تقوم الليبرالية الجديدة على إيديولوجيا إطلاق الحريات الفردية، لكن في الحقيقة الحرية الفردية التي تنشأ في ظل الليبرالية الجديدة هي حرية مقيّدة بقواعد السوق وقوانينه التي يضعها أصحاب القوة في السوق، وهم طبقة النخب الرأسمالية الكبرى التي أصبحت تتحكم في العالم اقتصادياً وسياسياً وثقافياً أيضاً.

تقوم الليبرالية الجديدة على إيديولوجيا إطلاق الحريات الفردية، لكنها حريات مقيّدة بقواعد السوق وقوانينه

وقد ازداد الاهتمام بسرطان الثدي مع تطور الليبرالية الجديدة، وكانت حملة التوعية ضده في مضمونها انعكاسًا للأيديولوجيا الفردية التي تقوم عليها الليبرالية الجديدة، وتحويل المسؤولية اتجاه هذا المرض إلى مسؤولية فردية لاسيما بعد الاعتماد على السوق وخصخصة الأبحاث والتقدم الطبي في مجال محاربة مثل هذه الأمراض الخطيرة، وبهذا انضمت ثقافة محاربة مرض سرطان الثدي إلى ثقافة الاستهلاك التي تروج لها الليبرالية الجديدة.

أُقيم أول نشاط للتوعية بمرض سرطان الثدي عام 1936 عندما أنشئت الجمعية الأمريكية لمكافحة السرطان "الجيش الميداني للمرأة" والذي يسمى بـ (Women’s Field Army) لنشر التوعية بمرض سرطان الثدي وأهمية الكشف المبكر عنه، وكانت معظم السيدات من ذوات البشرة البيضاء ومن الطبقة الوسطى، وقد استخدمن المحاضرات والحملات الإعلامية لنشر ثقافة الفحص المبكر والتوعية من مخاطر مرض سرطان الثدي، وكانت رسالتهم: Save lives, drawing attention to the early warning signs of disease, softening their fears of treatment, brightening their prospects of survival

بمعنى (أنقذوا الأرواح، إن لفت الانتباه إلى ضرورة الكشف المبكر عن المرض سيساعد في العلاج والحد من مخاوف النساء من العلاج ومنح فرصة أكبر للنجاة من المرض).

ما بين العام 1950 حتى العام 1980، اكتسبت حركة مكافحة سرطان الثدي زخماً واسعاً في الولايات المتحدة، ودعت النساء بشكل كبير للمطالبة بدعم البحوث حكومياً لمواجهة المرض، وتوفير التصوير الميموغرافي لجميع النساء، وحقهن في الوصول للمعلومات الخاصة بسبل العلاج والجراحة.

مع بداية حقبة التسعينيات، بدأت ثقافة مكافحة سرطان الثدي في التحول وهي الثقافة المنتشرة حتى أيامنا هذه، والتي تميزت بتخصيص يوم عالمي لنشر التوعية بمرض سرطان الثدي، بدعم من مؤسسة كومن Komen، التي ساهمت في وضع استراتيجيات التسويق المتعلقة بالشريط الوردي. ومنذ ذلك الحين أصبح شهر تشرين الأول/أكتوبر شهر جمع المال من أجل دعم البحوث الخاصة بمرض سرطان الثدي ودعم السبل العلاجية من المرض، بالإضافة إلى نشر التوعية عن أهمية الكشف المبكر، والذي ساهم في عدد كبير من الشركات عن طريق بيع منتجات تحتوي على الشريط الوردي أو اللون الوردي، لجمع المال للمؤسسات غير الربحية.

رغم الفاعلية التي تظهر لحملة التوعية بسرطان الثدي إلا أن الفاعلية الحقيقية تكمن في زيادة ربح الشركات المساهمة في هذه الحملات

رغم الفاعلية التي تظهر لحملة التوعية العالمية بمرض سرطان الثدي إلا أن الفاعلية الحقيقية تكمن في زيادة ربح الشركات المساهمة في مثل هذه الحملات، حيث يختبىء خلف مثل هذه الحملات الخيرية شراكات مع القطاع الخاص لدعم أعماله وتوفير مظلة وسمعة جيدة لجني المزيد من الربح، وهذا كان سبب التحول في حملة مكافحة سرطان الثدي في الولايات المتحدة التي ارتبطت بالتحول الليبرالي الجديد، الذي جاء به ريغان في الثمانينات، والذي يقوم على تحويل المسؤولية المالية في الرعاية الاجتماعية من الحكومة إلى القطاع الخاص.

قامت حكومة ريغان في الولايات المتحدة بدعم الأعمال الخيرية مثل تخفيض الضرائب إلى جانب دعم السياسات النيوليبرالية، وبسبب هذه السياسات ازدادت الشراكات بين المؤسسات غير الربحية والمؤسسات الربحية لاسيما بعد تحول عدد كبير من المؤسسات إلى الشركات لتلقي التمويل. هذا وجذبت فكرة أو سياسة التسويق لسبب أو ما يسمى بـ"cause-marketing target"  القطاع الخاص في الولايات المتحدة، وأُعتبر سرطان الثدي من أنجح الأسباب للتسويق خاصة وأن دعم الفكرة لن يجد أي معيقات حكومية أو اجتماعية، بالإضافة إلى السهولة التي ساهم فيها خلق الشريط الوردي كرمز معبِّر للحملة في ربط علامات الشركات التجارية بالقضية.

اقرأ/ي أيضًا: "مهند"..الشاب الذي واجه السجن واللوكيميا"

وبالفعل نجحت هذه الشراكة وأصبح هناك ما يسمى بثقافة التوعية من مرض سرطان الثدي. وقد عززت حملة مكافحة سرطان الثدي بتبنيها أيديولوجيا الليبرالية الجديدة على نشر المفاهيم الاستهلاكية، التسليع، الفردية، تشجيع الشراكات بين القطاع العام والخاص، من خلال استهلاك منتجات الشريط الوردي مع التأكيد على المسؤولية الفردية في إدارة المخاطر.

الإشكالية لا تقف عند هذا الحد، ولكن بيع المنتجات باللون الوردي، الذي يعود بالربح المالي والاجتماعي للشركات لن يوقف مرض السرطان أو يقضي عليه، بل على العكس تماماً فإن أغلب هذه المنتجات تحتوي على مواد مسرطنة سواء معروفة أو غير معروفة، بالإضافة إلى أن مساهمة الشركات الكبرى في دعم الحملة الوردية يخفي أو يظلل على الأعمال الأخرى، التي يقومون بها في التصنيع من خلال المواد المستخدمة أو تلويث البيئة والتي تزيد من نسب السرطان لا العكس.  

على الصعيد النفسي والذي أعتبره الأهم فإن حملة مكافحة سرطان الثدي عادة ما تحبط المرأة المصابة بالمرض أو التي شفيت منه، لاسيما وأن أغلب الإعلانات ضمن هذه الحملة توجه نحو شكل المرأة وجاذبيتها، فقدان شعرها وضرورة قص الشعر لدعم شكلها، والتركيز على ضرورة الخضوع لعمليات التجميل لتعويض فقدان ثديها بدل التركيز على دعم صحتها وحياتها، ناهيك عن تذكيرها طوال هذا الشهر بالمرض الخطير الذي أصابها وزيادة القلق النفسي لديها حتى وإن كانت غير مصابة بالمرض.

الإشكاليات التي تنتج عن حملة التوعية بمرض سرطان الثدي تكاد لا تعد ولا تحصى وقد ذكرت أهمها على سبيل المثال، وأختم بإشكالية هامة أخيرة تطرحها هذه الحملة كتركيزها، من خلال التوعية التي تبثها عبر وسائل الإعلام المختلفة، على أن أحد أهم أسباب الإصابة بالمرض ترجع لعوامل وراثية، معمقة بتلك الدعاية فكرة أن الإصابة بالمرض حتمية بالذات لدى النساء ذوات التاريخ العائلي في هكذا إصابة، وأن طرق الوقاية في هذه الحالة تصبح خارج السيطرة.

ومن جهة أخرى تنشر ثقافة نظام الحياة الصحي الخاص بكل فرد، كاتباع حميات غذائية معينة ودوره في الوقاية من المرض مع التركيز على المسؤولية الفردية في مواجهته، متجاهلة الأسباب السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الدولة والمسيطرة على كافة الأفراد في المجتمع، والتي بسببها لا يملك أغلب المواطنين بالأخص في الدول النامية تكاليف العلاج أو حتى الفحص، بالإضافة إلى تجاهل أثر الظروف البيئية والأغذية الفاسدة المنتشرة في الأسواق دون رقابة، في زيادة نسب الإصابة بالمرض، لذلك لابد من دراسة ما يدور خلف هذه الحملات والإشكاليات الخطيرة التي تُحدثها في ثقافة المجتمع وفي تقليل فرص نجاته الحقيقية من مثل هذه الأمراض، التي تزداد عاماً بعد عام في العالم ونشر الوعي في المجتمعات حولها.

اقرأ/ي أيضًا:

من جنوب الجزائر إلى شماله.. سفر في أحضان المرض

غياب العلاج التلطيفي.. ألم المغاربة الصامت