03-أغسطس-2016

مزارع يجاهد في أيام الحصاد بمقاطعة انهوى الصينية في يونيو 2015. Photo by Jie Zhao/Corbis via Getty Images

تتفاقم أزمة الغذاء عالميًا يومًا بعد يوم، مُنذرة بكوارث خطيرة في المستقبل القريب. فقد أصبح الغذاء أداة هيمنة بيد رؤوس الأموال، عبر سياسات الليبرالية الجديدة التي سلَّعت الغذاء الذي يعتبر الحق فيه من أهم حقوق الإنسان. يرتبط الغذاء في الليبرالية الجديدة -التي تسود العالم منذ ثلاثة عقود- بعلاقة متشابكة تحمل في طياتها هيمنة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية تُغرق الشعوب في العالم الثالث في مزيد من الفقر والمجاعات وسوء التغذية.

فقد ساهمت الليبرالية الجديدة، مدعومة من قبل الحكومات والمؤسسات الدولية، في نشر سياسات الخصخصة التي جعلت الدول تتخلى عن مسؤوليتها في ضمان الأمن الغذائي لشعوبها، علمًا بأن سياسات الخصخصة هذه عملت على زيادة نسب اللامساواة بين البشر واستغلال الموارد الطبيعية وتغيير أساليب الزراعة. أما الشركات متعددة الجنسيات أو العابرة للحدودة التي انتشرت في زمن الليبرالية الجديدة، فقد عملت على تغيير ثقافة الغذاء عالميًا بما تفرضه من مواد غذائية منتشرة في الأسواق العالمية، واحتكرت الزراعة واستغلت الدول النامية، التي تفتح حكوماتها الحدود أمامها بحجة الاستثمار، ناهيك عن ارتفاع وتيرة الحروب التي تسعى لها الليبرالية الجديدة لإنعاش الاقتصاد القذر والتي يقضي بسببها الملايين ليس فقط قتلًا بل وتجويعًا أيضًا.

ساهمت الليبرالية الجديدة، مدعومة من قبل الحكومات والمؤسسات الدولية، في نشر سياسات الخصخصة التي جعلت الدول تتخلى عن مسؤوليتها في ضمان الأمن الغذائي لشعوبها

الشركات متعددة الجنسيات وأزمة الغذاء

يعتبر النظام الغذائي واحدًا من المفاهيم التي طُورت في ظل الليبرالية الجديدة، فقد عرَّف العالم الاقتصادي الأمريكي فريدمان النظام الغذائي بأنه "شكل القاعدة التي تحكم توزيع واستهلاك الغذاء على نطاق عالمي، ويتم وصف أي نظام غذائي عن طريق السلطة المهيمنة التي تحدد مضمونه". يتميز النظام الغذائي في ظل الليبرالية الجديدة بعدة ميزات، أولًا: مستوى عالٍ من التصنيع والتجزئة في ظل تصاعد قوة الشركات الكبرى، ثانيًا: تزايد التفاوت في السوق بين الصناعات منخفضة الجودة مع ازدياد التقنيات العالية للمنتجات الغنية. ثالثًا: ازدياد الاعتماد على النفط الذي يؤثر في المناخ عالميًا مع تسارع نفاذ الموارد الطبيعية في ظل النظام الغذائي العالمي، وبالتالي التأثير على الإنتاج الزراعي. رابعًا: الاستغناء أكثر وأكثر عن المنتجين المستقلين في سياق الإنتاج الزراعي والغذائي مع التخلص من المزارعين على نطاق صغير وضيق (1)، وهذه العوامل جميعها ساهمت في تعميق أزمة الغذاء العالمية.

اقرأ/ي أيضًا: التقدم التكنولوجي يقتل المنتجات في سن مبكرة

من جهةٍ أخرى يعمل أكثر من مليار شخص في العالم في مجال الإنتاج الزراعي والغذائي ويشكلون ما نسبته ثلثي القوة العاملة في العالم، وفي الوقت الذي تعتبر فيه صناعة الغذاء والزراعة من أهم وأكبر الصناعات في العالم، فإنه يهيمن عليها قلة من الشركات الضخمة العالمية التي عملت على تغيير عدد من التمظهرات الاجتماعية، كتغيير النظام الغذائي للشعوب المختلفة وظروف عملهم والبيئة المحيطة بهم.

ففي تقرير لـ Chris Jochnick، وهو مدير قسم القطاع الخاص في منظمة أوكسفام في الولايات المتحدة، يقول فيه أن ما يقدر بـ10 شركات غذاء عالمية تتحكم في التنوع الغذائي المقدم للمستهلك عالميًا، تقدر ثرواتها وفوائدها السنوية بمليارات الدولارات. ويضيف بأن أحد أهم أسباب نجاح هذه الشركات هو مقدار إنفاقها على الدعاية والإعلان (2)، فعلى سبيل المثال تقدر قيمة إنفاق شركة كوكاكولا على الإعلانات بـ3 مليار دولار في عام 2012 وهي الشركة السادسة عالميًا، بينما تنفق شركة يونيليفر التي تعتبر أيضًا من أهم عشر شركات غذائية بالعالم ما مقداره 7 مليار ونصف تقريبًا سنويًا وتعد الثانية على مستوى العالم في الإنفاق على الدعاية والإعلان. وهذا يبرر كم الإعلانات الكبير الذي يضخ عبر وسائل الإعلام المختلفة والتي تؤثر بشكل كبير على درجة الاستهلاك عالميًا للمواد الغذائية المنتشرة في الإعلانات التجارية، والتي أغلبها يفتقد للمعايير الأساسية التي تضمن سلامة المستهلك.

ما يقدر بـ10 شركات غذاء عالمية تتحكم في التنوع الغذائي المقدم للمستهلك عالميًا، تقدر ثرواتها وفوائدها السنوية بمليارات الدولارات

أما انتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها هذه الشركات فإنها تسجل أرقامًا مخيفةً سواء للإنسان أو للبيئة، فتجارة الصويا في أمريكا اللاتينية على سبيل المثال عملت على استغلال سكان المناطق الخصبة في إنتاج فول الصويا بشكل خطير، عن طريق طردهم من أراضيهم، وتدمير الغابات لزراعة فول الصويا من أجل الحصول على إنتاج أكبر دون أي فوائد تعود على سكان تلك المناطق، فيتم تصدير الإنتاج جميعه للدول الغنية، فأكثر من 80-90% من الإنتاج يتم استخدامه كعلف للحيوانات المنتجة للحوم والألبان. بالإضافة إلى أن سكان هذه الأراضي المغتصبة من قبل الشركات الكبرى يعانون من سوء تغذية بسبب حرمانهم من أسباب رزقهم التقليدية مع استخدام التعديلات الوراثية في الزراعة التي تؤثر على بيئتهم وصحتهم (3).

وهذا غيث من فيض فالأمثلة لا تعد ولا تحصى في انتهاكات حقوق الإنسان التي تقوم بها الشركات متعددة الجنسيات عند نقلها لمصانعها وسبل إنتاجها لدول العالم الثالث، مستغلة العمالة الرخيصة، الأطفال، والنساء، الأراضي الخصبة، والأنظمة والقوانين الداخلية لهذه الدول التي لا تكترث لجودة التصنيع ومعايير الأمان المطلوبة في تصنيع الغذاء.

اقرأ/ي أيضًا: الموت جوعًا في 2016

هذا وساهمت المطاعم العالمية -التي تعتبر من أهم الشركات متعددة الجنسيات- في تغيير نمط الغذاء والحياة لدى ملايين البشر، فمطاعم الوجبات السريعة عملت على نشر ثقافة الأكل سريع التحضير. وبالرغم من سوء التغذية والأمراض التي تسببها هذه الوجبات السريعة من سمنة وغيرها بسبب المواد الدهنية التي تتكون منها والمواد الحافظة والملونة، إلا إنها ما زالت على قائمة أكثر الوجبات استهلاكًا في العالم (4). في مقابل هذا النوع من الوجبات والآثار السلبية التي تحدثها في جسم الإنسان، يزداد الاعتماد تدريجيًا على قطاع التغذية وأطباء التغذية والمراكز الرياضية وغيرها لتقليل من الأضرار التي تتركها هذه الوجبات في جسم الإنسان، حيث انتشر مع ظهور الوجبات السريعة "موضة" الحمية السريعة عن طريق الأدوية وغيرها، وبرزت من خلالها ضرورة الحاجة لمراكز لممارسة الرياضة وهي شركات ربحية كانت في الزمن الماضي لا حاجة لها.

الإنتاج الزراعي والتقنيات العالية

يرتبط الإنتاج الزراعي بشكل كبير وقوي بالإنتاج الغذائي، وكلاهما يتأثر بالآخر ويؤثر به. شهدت الزراعة في عصر النيوليبرالية تطورًا كبيرًا، فكان ظهور الشركات الكبرى الزراعية متعددة الجنسيات أحد أهم عوامل اللبرلة الجديدة، بالإضافة إلى تطور الأبحاث العلمية في مجال الزراعة، وتصنيع الأسمدة والمبيدات الحشرية والتعديلات الوراثية، وهذا أدى إلى رفع أسعار الغذاء عبر احتكار الشركات الكبرى للزراعة في الكثير من البلدان في العالم وارتفاع أسعار المبيدات الحشرية والأسمدة.

اقرأ/ي أيضًا: الحد الأدنى للأجور في الدول العربية

تحقق الشركات الزراعية العملاقة إيرادات وأرباحًا هائلة من أزمة الغذاء العالمية التي تهدد العالم نتيجة ازدياد الطلب على العرض في السنوات العشر الأخيرة، وهذا أدى إلى رفع أسعار عدد من المنتجات الزراعية الأساسية كالقمح والذرة؛ فحسب البنك الدولي أن 100 مليون شخص إضافي أصبحوا يواجهون المجاعة في السنوات الأخيرة، إلا أن بعض أغنى شركات الأغذية في العالم أخذت تحقق أرباحًا قياسية في العام 2008 وبمئات المليارات بالرغم من الأزمات الغذائية التي تواجه العالم، فشركة موزايك إحدى أكبر شركات الأسمدة والمخصبات في العالم ارتفع دخلها في الأشهر الثلاثة المنتهية في 29 شباط/فبراير 2008 إلى أكثر من 12 ضعفًا من مستوى 42، 2 مليون دولار إلى 520، 8 مليون دولار على خلفية النقص المريع في الأسمدة عام 2008 (5).

100 مليون شخص إضافي أصبحوا يواجهون المجاعة في السنوات الأخيرة حول العالم

أما ما يخص التقنيات العالية التي تستخدم في مجال تطوير الزراعة في العالم، فقد سيطرت الشركات الزراعية متعددة الجنسيات عليها، وتبلغ تكلفة كل تطوير تقني ملايين الدولارات في مجالات تحسين الإنتاج الزراعي كمًَّا وكيفًا ونوعًا، وهو أحد أسباب رفع أسعار المنتجات الزراعية عالميًا. أما الزراعة التقليدية فقد تراجعت وأصبحت مكلفة، ودخَلَ في عداد الجوعى والعاطلين عن العمل أعداد هائلة من البشر في العالم نتيجة لصعوبة الزراعة، بسبب تغيير المناخ والحاجة لمواكبة تطور الإنتاج الزراعي المكلف الذي تنافس به الشركات الكبرى، بالإضافة إلى زيادة أسعار المواد الغذائية والبذور والأسمدة والمياه والأراضي. ناهيك عن انتهاكات حقوق الإنسان التي تمارسها الشركات المتعددة الجنسيات الزراعية في اغتصاب الأراضي واستخدام معدلات وراثية ومبيدات كيميائية مضرة في الصحة وتؤثر على حياة الإنسان على المدى البعيد.

إن عصر النيوليبرالية هو من أسوأ العصور التي يعيشها الإنسان في ما يخص الغذاء، فهو عصر الغذاء الفاسد نوعًا والمرتفع ثمنًا بامتياز، ففي الوقت الذي تدفع فيه النيوليبرالية نحو الخصخصة بحجة الحرية والكفاءة، تقوم في الحقيقة على زيادة هيمنة وتبجح رؤوس الأموال والشركات الكبرى. إن أزمات الغذاء في العالم تتفاقم يومًا بعد يوم حتى وصلت لأرقام قياسية، ولابد وأن تصحو الشعوب من غفوتها وتطالب بحقها في الغذاء السليم غير الخاضع لشروط الشركات الكبرى، وتطالب حكوماتها بمسؤولياتها نحو شعوبها بتأمين الغذاء السليم الخالي من الأمراض والعلل التي تزداد عامًا بعد عام بسبب الأغذية الفاسدة التي تسود عالمنا اليوم. ولن ينجح هذا إلا بقيام حركات شعبية عالمية، لأن الحركات الشعبية تعتبر القوة الوحيدة التي تمتلكها الشعوب لتغيير واقع حياتها الذي يزداد سوءًا والذي يقضي بسببه الملايين من الفقراء والضعفاء بالمرض والجوع وسوء التغذية.

اقرأ/ي أيضًا:

مقاومة المرأة الفلسطينية في زمن الليبرالية الجديدة

اقتصاد الشركات يتجاوز اقتصادات الدول

النفط والبطالة: وجهان لدولة آل سعود