01-مارس-2021

نصب لذكرى انتفاضة تشرين الأول/اكتوبر في بيروت (Getty)

النخبة الأولى التي نعرفها في لبنان هي النخبة الحاكمة. وتسمّى شعبيًا وشعبويًا في أدبيات اللبنانيين وفي جزء كبير من الإعلام التابع والكسول بالطبقة السياسية. وهي قادرة نظريًا على التضييق في عمل القضاء والتدخل في عمل الأجهزة الأمنية وفي وسائل الإعلام والجامعات والفرق الرياضية وهي تاليًا مسؤولة عن كل ما آلت إليه البلاد.

ي جميع الحالات لا يوجد شيء اسمه طبقة سياسية. هناك نخبة سياسية تقليدية ما انفكت تتناسل، وتمثّل حاليًا ارهاصات النظام الطائفي اللبناني

يوجد طبقة وسطى، يشعر المنتمون إليها بالغبن لاستبعادهم من مظاهر الحياة والقيادة، رغم أنهم تلقوا تعليمًا مقبولًا، ويتحدثون الإنجليزية أكثر مما يتحدثون بالعربية، كما يعتقد هؤلاء أنهم لوقت طويل استطاعوا أن يميّزوا أنفسهم عن الآخرين بارتداء ماركات الملابس الجيّدة، ومشاهدة نتفليكس قبل أن يصير عموميًا. وهم يشعرون، بهذا المعنى، أنهم طبقة وسطى، ولا يستحقون هذه المعاملة المجحفة من الشعب، الذين يتوقون لقيادته ضدّ "الفساد". ولا ندري إن كان هؤلاء هم الأسوأ على أي حال، أم النخبة الحاكمة، وإن كنا نتفق جميعًا على أن الأوليغارشية أسوأ من الجميع.

اقرأ/ي أيضًا: تقدير موقف: انتفاضة لبنان.. أسبابها وتداعياتها

لكن في جميع الحالات لا يوجد شيء اسمه طبقة سياسية. هناك نخبة سياسية تقليدية ما انفكت تتناسل، وتمثّل حاليًا ارهاصات النظام الطائفي اللبناني، الذي ما زال قادرًا على تمثيل مجموعة مصالح اقتصادية انتقلت إلى طورها النيوليبرالي مع الحقبة الحريرية الأولى، واستيعاب مصالح جيوسياسية أخرى بأحجام متفاوتة.

لا وجود لاستقطاب سياسي في لبنان، وحتى الشكل الطائفي من الاستقطاب ليس طائفيًا تمامًا. وينسحب هذا على كل التسميات التي تستخدم كأدوات رخيصة للاستقطاب، مثل الوطنية، العقيدة، الأيديولوجيا، وغيرها من المفردات المحببة لهواة النوع، والتي تستخدم وفق تعريفات اكتسبت معاني خاطئة مع الزمن، بعيدة عن معانيها الأساسية في سياقاتها الأولى. ولا يعني هذا أن الزبائنية هي المحدد الأساسي للعلاقة بين اللبنانيين والنخب الحاكمة، لأن اللبنانيين انتفضوا بوقتٍ سابق، وفي أوقات سابقة كثيرة عن 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019، لكن انتفاضاتهم الصغيرة طُمِست، وبطريقةٍ ما، شاركوا بطمسها في نفسهم، وهذا يحدث في جميع الانتفاضات بدرجات متباينة. إلى ذلك، العلاقات بين الجماعات اللبنانية، وبين المنتسبين إلى هذه الجماعات وممثليها، لم تحظ بالدراسات الكافية، ولا يمكن توقع تغيرات هائلة في هذه العلاقات بسهولة. وهناك نخبة سياسية حاكمة خرجت من محنتها متسلحة بالقول النيتشوي الشهير: "ما لا يقتلك يجعلك أقوى"، وفي الحالة اللبنانية، تعتقد هذه النخبة، أنها الآن أقوى بكثير مما كانت عليه قبل عام تمامًا. وقد لا يكون هذا صحيحًا، لأن تصورات هذه النخبة عن نفسها، ليس بالضرورة أن تكون على درجة من الحقيقة. والقصد هنا طبعًا الحقيقة كمعرفة مجردة، لا كخطاب أو كسِجن.

توجب على هذه النخبة أخيرًا أن تتنازل عن امتيازاتها الشكلية لمصلحة النخبة الطبقية الحاكمة فعليًا، وأن تكتفي بدور لاعب الارتكاز (اللاعب الذي يقطع الكرات من الخصم ويمررها إلى بقية زملائه). لا يلغي ذلك أن بإمكان أفراد المجموعة الحاكمة القيام ببعض الاستعراضات من حين إلى آخر، مثل المؤتمرات الصحافية الطويلة، أو مثل الانسحاب من المقابلات التلفزيونية اعتراضًا على الاتهامات بسرقة اللقاحات العائدة لمواطنين آخرين. فبعد أدائها المذهل، في تحويل الاستقطاب السياسي كموقف من العلاقة بين اللبنانيين وبين الأوليغارشية، إلى نقاش تقليدي حول ما يسمى بحقوق الطوائف وما ينتج عن ذلك، يبدو أن الأمور لم تعد ممكنة كما كانت في السابق.

هناك نخبة ثقافية في لبنان ولكنها انكفأت. صارت من الماضي، مثلما فعلت مثيلاتها في كل العالم، بعدما بالغت في استعداء الآخرين، حتى صعد فوقها خطاب شعبوي يتفاقم

يصرّ كثير من اللبنانيين على الاعتقاد بأن أزمة بلادهم سياسية، وهي ليست كذلك للمناسبة. فقد أثبتت التجربة أن المجموعة الحاكمة، على تنويعاتها، قادرة على الاتفاق بسهولة. وما يخشى الجميع الاعتراف به هو أن الأزمة الاقتصادية تجاوزت الشكل السياسي، وإن الصراخ فوق المشكلة، لا يعني انتفاءها. وها هم الجميع، مع التدويل أو ضدّ التدويل، والمصطلحان مزعجان بأية حال، ينتظرون قرضًا من البنك الدولي، ويخشون غضب البنك الدولي، ويعتقدون أن الحلّ الوحيد موجود هناك، عند البنك الدولي. حتى أنهم يخشون البحث أو يعترضون في الأساس على أي بحث، لا يفترض أن الحل "موجود هناك". يا لها من مفارقة أن يكون هذا بالضبط ما يقوله هايدغر عن الوجود، إنه "موجود هناك". هذا الوجود، بالنسبة للخطاب المهيمن في لبنان اليوم، هو البنك الدولي، الحل موجود هناك. لكن الحل ليس موجودًا هناك ولا في أي مكان.

اقرأ/ي أيضًا: انتفاضة لبنان.. والطريق نحو التأسيس لتاريخ "لبناني" نظيف

ليست وظائف النخب بالمعنى الثقافي أن تكون نخبًا، وأن تقترح حلولًا، أو أن تقود تحولًا في المجتمع. صار هذا من الماضي. هناك نخبة ثقافية في لبنان ولكنها انكفأت. صارت من الماضي، مثلما فعلت مثيلاتها في كل العالم، بعدما بالغت في استعداء الآخرين، حتى صعد فوقها خطاب شعبوي يتفاقم. وهكذا يبدو طبيعيًا أن تجد على فيسبوك وتويتر أشخاص طيبون من حملة الشهادات في إدارة الأعمال وهم يتحدثون عن الثقافة باستهزاء، ويضعون وجوهًا ضاحكة لبعضهم البعض، ويعتقدون أن ما يسمّونه "عقائد" أو مشاعر "وطنية"، تتعزز أحيانًا بشعور هائل (ومنفّر) بالنقص سببه الاقصاء الطويل والتهميش، يمكن أن تكون بديلًا عن انتاج ثقافة في مختلف أشكالها. لا داعي لرثاء الثقافة على أي حال، فالمثقف مات في العالم، وليست هذه المشكلة. المشكلة في أن تكون الشعبوية هي الوارث الوحيد.

 

اقرأ/ي أيضًا:

متحرّشون وشعّبويون.. فنّانون ضدّ انتفاضة اللبنانيين

انتفاضة 17 تشرين وذكرى الخيبة الجميلة