30-أبريل-2019

تمثال لـ سارتر في ليتوانيا (Getty)

"إن وجود شيء من التنوع بين المجتمعات البشرية أمر جوهريّ لتوفير حافز ومادة لأوديسيا الروح البشرية. إن الأمم الأخرى ذات العادات المغايرة ليست أعداء، بل هبات من الله. فالناس يتطلبون في جيرانهم قرابة تكفي للفهم، واختلافًا يكفي لإثارة الانتباه، وجلالًا يكفي ليبعث الإعجاب".

إنّ الأمم الأخرى ذات العادات المغايرة ليست أعداء، بل هبات من الله

ترد هذه الكلمات في كتاب "العلم والعالم الحديث" لألفريد نورث وايتهيد، الصادر عام 1929. ولن يكون لهذه المقالة صلة بوايتهيد، كما أني لم أبدأ حديثي بمقتطف إلا على سبيل التذكرة بحيوية الأفكار، إذ إن عادة النشاط الفكري قد وصلت إلى ما هو عليه بواسطة التطور الطبيعي البطيء لمحاولات الإقناع التي تمت ضمن نطاق الحياة الاجتماعية في كل جماعة بشرية، وكذلك بين جماعة وأخرى. حين تطورت الفلسفة والرياضيات وبعض العلوم، لم تكن هناك ابتكارات فكرية واضحة، بل كانت هناك تحسينات يتم إدخالها تأتي من مجموعة من التغيرات المتراكمة التي تحدث تدريجيًا. ويعد توضيح المدى الذي يتدخل فيه العامل التطوري في تكوين الفكر الإنساني من الأمور المتصلة ببعضها.

اقرأ/ي أيضًا: لماذا لا يجب أن تموت الفلسفة؟

حقيقة، قراءة طاليس لعبارة هوميروس، بأن أقيانوس هو المصدر الأول للأشياء، هي التي دعمت فكرة أن الماء هو المادة الأولى والجوهر الأوحد الذي تتكون منه الأشياء. إلا أن هذه الحقيقة ذاتها توجهنا إلى تفسير آخر ندرك فيه قيمة التطور التاريخي للافكار. كانت أفكار الطبيعيين الأولين من الفلاسفة تتم عن طريق الآخرين. حدّدت الأساطير البابلية والمصرية والإغريقية، فلسفة الطبيعيين الأولين، ووجهتهم إلى نظريتهم في العالم. حيث أصبحت المفاهيم السائدة في الأساطير القديمة مبادئ يفسر بها الفيلسوف الأشياء والعالم.

تعد مسألة تأكيد كل من أفلاطون وأرسطو كل بطريقته وأفلوطين وماركوس أريليوس والقديس توما الأكويني، وإسبينوزا وهيجل على أن دراسة المفاهيم تعود بنا إلى قراءة وملاحظة الآراء التي كتبت للحصول على المعرفة في ذلك الوقت، ولا يمكن أن يكتب الفيلسوف حين يسعى إلى المعرفة أن رأيه يمثل أفضل الطرق للوصول إليها. لا يمكن أن يقنع بأن فلسفته من الممكن أن تحقق له معرفة صفات الموضوع الذي يدرسه أو يحدده له. ولا يتوقع إطلاقًا أن تفكيره وحده قادرًا على كشف المفهوم. باختصار، لم يتم النظر للمتابعة الفلسفية على أنها خطيئة أو عائق أو انهيار للفيلسوف أو علامة على نقصه وعدم كماله. لم تكن الفلسفة تبحث عن الصورة الثابتة أو الماهية الثابتة وراء كل مفهوم فلسفي يحدث.

لا يزال المثقفون، لسوء الحظ، خاصة الفلاسفة منهم، يؤمنون بمفهوم التعميم والمعرفة الكاملة والمنعزلة بذاتها، والذي يعبر عن رؤية متعاطفة. على الرغم أنهم اعتمدوا على الأداة التفسيرية والتأويلية لمساعدتهم على تحسين البنيات والسلوكيات الفلسفية. أعتقد أن المعرفة الجمالية هي التي تسيطر على الفيلسوف، في هذا الحال. إذ يكون الفرق بين الإدراك الجمالي والإدراك الفلسفي فرقًا جذريًا، فهذا الأخير بصفته مساعدًا لنا حين نفعل فعلًا، يقوم بعزل ما يهمنا عن مجموع الحقيقة، فهو يقسّمها ويصنّفها مقدمًا إلى ماهيتها. والمعرفة الجمالية، تقدّم لنا نموذج المعرفة الكلية وشكلها الأول. وحقيقة، افتراض وايتهيد: "أن الفلسفة الغربية ما هي إلا هوامش على محاورات أفلاطون". فهي لا يمكن إلا أن تكون شكلًا من أشكال الإدراك الجمالي لأنه يقف موقف الإتفاق من الإدراك الحسي النفعي، ويرتبط بالأشياء من أجلها هي، والتي يجري التوافق بيننا وبين العاطفة المعبر عنها، والوصول بنا هكذا إلى حالة من الليونة الكاملة التي تحقق فيها القيمة الجمالية التي تُقترح علينا.

كثيرة هي الأدلة التي تؤكد أنّ محاورات أفلاطون أسهمت في خطّ تعاليم الفكر الأوروبي أكثر من أي كتاب آخر من بين الأعمال الكلاسيكية التي رسمت الحضارة الغربية. غير أن هذه النزعة لجعل المحاورات كتب مقدسة. ما هي إلا توضيح لسلطة المعرفة الجمالية. لماذا ختار  آلن باديو أفلاطون كمشروع له والذي يكاد يرقى للهوس به، كما يقول؟ الإجابة هي بكل بساطة لأن أفلاطون أصبح مصدر وحي كبيرًا جدًا إلى درجة أن معظم الفلاسفة اعتبروه مقدسًا. إن الشيء الذي يسمى "إلهامًا" لا يمكن أن يكون غير هذه المشاعر الحركية التي تتولد عنها الأفكار. أي شي يمكن أن يكون أفلاطون، أي شيء يمكن أن يكون أكثر مهارة من نيتشه، غير أن العاطفة التي كان العقل المفكر بها هي التي تركت الرؤية العقلية تسير كما هي الآن، وقد تركزت هذه الرؤية في افلاطون، النموذج الأول.

عندما سُئل هايدغر مرة، في حوار له، لماذا لا تذكر فرويد ولا مرة في نصوصك، رغم أنك قارئ نهم لفرويد؟ ولماذا لا تذكر ماركس إلا لمامًا، في حين أنك كتبت كتابًا ضخمًا من جزئين حول نيتشه؟ كان جوابه: "لأن كل ما يمكن أن يعلمني إياه فرويد أو ماركس مَوجود عند نيتشه".

هذه الكلمات يستطيع أن يوافق عليها كثيرون ممن يتناولون المعرفة الجمالية، بافتراضات أشد قطعية من افتراضات وايتهيد أو هايدغر. مع ذلك فقد كانت الأهمية الباقية للفلسفة، إن لم نقل العقيدة القطعية أيضًا، أمرًا ثابتًا في نظرهم.

إنَّ الفيلسوف الذي يتوقف عن العناية بالموروث الفلسفي، يغدو أديبًا، والفلسفة التي تتوقف عن إنتاج المعرفة الجمالية، تتوقف عن الحركة، فكرًا وحساسية.

عندما سُئل هايدغر لماذا لا تذكر فرويد وماركس، أجاب: "لأن كل ما يمكن أن يعلمني إياه فرويد أو ماركس مَوجود عند نيتشه"

فلسفة أي فيلسوف تُستمد من طبيعة كلام الناس، حيث تمنحها الحياة. أحيانًا عندما أقرأ أمثال ما كتبه هايدغر ووايتهيد، أتذكر الحالة التي أكون بها أنا أو ما لاحظته عند غيري عندما نُدهش بشيء ما. فما من أحد يعرف حقيقة الفلسفة، إلا ويوافق على أنهم لم يقصدوا المعنى الحرفي لأقوالهم. نيتشه فيلسوف كبير ويمكّن تناوله من جديد من طرف فلسفة تنتمي إلى المستقبل لا من خلال قراءة موجزة لبعض من أفكار الفلاسفة. وأيضًا، إذا اخترنا النظر لفترة معينة من حياة الإنسان، نلاحظ أنه يعيش في مرحلة النمو، ولا تعتبر أفكار أفلاطون عملية تجهيز لشيء مستقبلي، وإنما عبارة عن عملية تحقيق "النمو" في اللحظة الراهنة.

اقرأ/ي أيضًا: الفلسفة والتاريخ: العروي يتأمَّل نفسه

ليست هناك حاجة للتأكيد على أن عملية "التعميم" مقيدة وقابلة للخطأ. ويؤكد أرسطو على ضرورة النظر إليها كمجرد قاعدة لا تتصف بالكلية أو بالضرورة أو أن ينظر إليها باعتبارها مبدأً أساسيًا. ولا تكمن الصعوبة في التعميم الذي من الممكن أن يصحح. وإنما تكمن أن التعميم ذاته يكون ناقصًا وبالتالي لا يمكن تجنب الخطأ أو علاج هذا النقص. لذلك التعميم لا يمكن تحقيقه والوصول إليه إلا فيما يفوق العقل.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الفلسفة والأدب.. سردية حب معلن

الوجه وأنطولوجيا الغيرية عند إيمانويل ليفيناس