10-أغسطس-2018

هايدغر في عمل رقمي

ما الذي يؤدّي إلى "موت الفلسفة"؟ هناك من أراد للفلسفة أن تدخل إلى المتاحف، وهؤلاء لا يجدون حاجة إليها، طالما أنّ العلم كفيل بالإجابة عن أسئلة الإنسان.

من بين الفلاسفة الغربيين الذين ناقشوا موضوع موت الفلسفة، الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر (1889 - 1976). فالنهاية تعني الاكتمال، أي اكتمال الميتافيزيقا. وقد بدأت بوادرها منذ الفلسفة اليونانية، حيث ظهر توجه دعا إلى بناء رؤية علمية عن الطبيعة.

إنّ بناء العلم، كما فسّره هايدغر، هو دعوة إلى التحرّر من الفلسفة، أو هو بتعبير آخر تحويل الفلسفة إلى علم تجريبي عن الإنسان. العلم والتقنية هما ذروة تطور الفلسفة، وهذا ما يفسره في قوله: "تظهر نهاية الفلسفة على أنّها نجاح التنظيم الموجه للعلمي – التقني" (مارتن هايدغر، نهاية الفلسفة ومهمة التفكير).

بناء العلم، كما فسّره هايدغر، هو دعوة إلى التحرّر من الفلسفة، أو هو بتعبير آخر تحويل الفلسفة إلى علم تجريبي عن الإنسان

لكن، هل العلم يُفكّر؟ ماذا يفعل العلم تحديدًا؟ إنّه يفسّر الظواهر، أو بالأحرى يريد فهم قوانينها التي تتحكّم في الطبيعة، ومع هذا، فإنّ التحليل أو التّنظير يختلفان عن التفكير؛ لهذا السبب يذهب البعض إلى أنّ الفلسفة هي وحدها من يفكّر، وتطرح أسئلة الماهيات.

اقرأ/ي أيضًا: شبح ميشيل فوكو في 2018.. رباعية ختام لـ"تاريخ الجنسانية"

ليس هذا فحسب، بل أنّ وظيفة الفيلسوف هي في جوهرها وظيفة نقدية. قال جيل دولوز بنبرة تحذيرية: "إذا لم تتم استعادة عمل الفلسفة النقدي بصورة فاعلة في كل عصر، تموت الفلسفة وتموت معها صورة الفيلسوف وصورة الإنسان الحر".

إذا تأمّلنا جيّدًا في هذا النص الدولوزي، وقرأنا ما يروم إليه، سندرك أنّه كان يشير إلى طبيعة الحضارة المعاصرة التي أصبحت تميل كفتها لصالح الثقافة الجماهيرية، ذات الجوهر الاستهلاكي، خاصة وأنّ هذه الثقافة تروج لها أنظمة إعلامية هائلة، تخاطب الغرائز والعواطف، وتشتغل في القوى اللاشعورية للجماهير المُوجَّهة. هذا الواقع الذي فرضته منظومة اقتصادية ليبرالية ومعولمة، تهدف إلى صناعة إنسان ذي البعد الواحد، بتعبير هاربرت ماركيوز. إنّ السبيل إلى انتشال الإنسان من حالة الاستلاب الذي تمارسه القوى الاقتصادية والسياسية والإعلامية هو استعادة الفلسفة لروحها النقدية.

وإذا عدنا إلى موقف هايدغر، يجب أن نقرأه ضمن سياقه التاريخي، وهو سياق الحرب العالمية الثانية، وصعود الأنظمة الفاشية التي حوّلت العقل إلى أداة خطيرة لصناعة الموت. هذه الأنظمة آمنت بسلطة العلم والتقنية، وحاربت التفكير الفلسفي النقدي لأنّ الفلسفة وحدها من يملك أدوات التفكير في انحرافات العقل، وتجاوزاته.

ليس من السهل ممارسة التفكير النقدي، خاصة في مجتمعات مسيجة بأنظمة دوغمائية. إنّ التفكير في ظل هذه المجتمعات جريمة يُعاقب عليها القانون. وقصة سقراط مع الفلسفة هي أكبر نموذج تاريخي يجسد هذه العلاقة الصدامية بين الفلسفة والمجتمع؛ فقد اتهم الأثينيون سقراط بإفساد عقول الشباب، وإهانة آلهتهم المبجّلة.

ما يهم في هذه القصة هو طبيعة التفلسف السقراطي، لأنّ سبب الاتهام ليس هو ممارسة الفلسفة في حدّ ذاتها، بل في أسلوب سقراط في التفلسف، حيث أخرج الفلسفة إلى الشارع، وجعلها قريبة من الناس البسطاء، بل كان يحاور المجانين فيستخلص منهم حكما ثمينة. إنّ الدور النقدي للفلسفة هو أيضًا من خلال إنزالها إلى الشوارع لتلامس أسئلة الإنسان البسيط، من هنا فإنّ سؤال: لماذا لا يبتسم نادل المقهى في وجهك صباحًا؟ لا يقلّ أهمية وخطورة عن سؤال: ما هي الأخلاق؟ فالسؤال الأول حيوي، والثاني نظري وتجريدي.

قال دايفيد هيوم إنّ وظيفة الفيلسوف هو أن يتحوّل إلى عامل نظافة، ويخلّص العقل من مخلفات الفلسفة. هل بلغ الأمر إلى هذا الحد الذي يوصف الفيلسوف بعامل الزبالة؟

في مُجتمعاتنا العربية، مازالت الفلسفة تعاني من لعنة أبي حامد الغزالي صاحب المقولة الشهيرة "من تمنطق فقد تزندق". فالفلسفة في مخيالنا الاجتماعي، هي أقرب طريق إلى الخروج عن الملّة، وبذلك فإنّ تكفير الفيلسوف هو في أفقنا العربي إعلان عن موت الفلسفة.

لقد تعرّضت الفلسفة، في تاريخها العربي الإسلامي، إلى حصار مزدوج، أولًا من قبل الفقهاء الذين يشيعون ثقافة التبعية، والتفكير ضمن أفق الشريعة، وثانيًا من قبل السلطان. إنّ الفلسفة تهدّد دائمًا هذا العقد الأبدي بين رجل الدين ورجل السلطة، وإذا نطقت الفلسفة أحدثت تصدعات في جدار الحقيقة. ويمكن أن نتحدث، على سبيل المثال، عن تجربة نصر حامد أبو زيد.

محنة التفكير في زمن التكفير

 تساءل نصر حامد أبو زيد: "هل من حق أحد تكفير أحد آخر، لمجرد الاختلاف معه في الفكر أو الرأي أو السياسة؟ هل يجوز لأحد – في مجال البحث العلمي – التفتيش في عقيدة الباحث ومحاكمة ضميره وشق صدره لردع اجتهاده العلمي، أو إطلاق الرصاص؟".

ما يبدو سؤالًا صعبًا هو: كيف تحولت الجامعة اليوم إلى مفرخة لتفقيس الفكر التكفيري؟ تجربة نصر حامد أبو زيد تكشف بوضوح هذه التحولات الخطيرة، فبعد أن أصدر كتابه "نقد الخطاب الديني"، وجد نفسه على مرمى النيران الحاقدة للتكفيريين، وكان على رأسهم أستاذ جامعي يدعى عبد الصبور شاهين، كان من المفروض أن يناقش الكتاب، لا أن يصادره بالدعوة إلى تكفير صاحب الكتاب. معضلة الجامعة اليوم، أنها لم تعد تنتج الوعي، بل أصبحت محكمة لمصادرة الفكر وللعقلانية...إلخ. إنها لا تطلق الأفكار بل تطلق الرصاص. لا تكوّن أصحاب الوعي، بل تجرد أجيالًا من هذا الوعي، لتتحول إلى قطعان من المغفلين الذين يسهل جرّهم نحو مسالخ الرداءة والتخلف.

يصعب إيجاد الحاسة النقدية في وعي التكفيريين، فهم أصلًا، يعانون من عقد متجذرة تجاه النقد، بل أن النقد بالنسبة لهم هو باب من أبواب الردة. أن تفكّر بالنسبة لهم يعني أن تخالف الشرع. ذلك أن العقل مرادف للمروق و للتمرد، وبدقيق العبارة التفكير طريق إلى الكفر، لهذا لابد من أن يقتصر التفكير على أولي العلم من مشايخ الجوامع الذين يملكون لوحدهم حق التحدث نيابة عن المؤمنين الآخرين.

إنهم الصوت المطلق الذي يمثل صوت الله على الأرض. كيف يمكن في هذه الحالة مجادلة هذا النمط من البشر؟ إن البحث عن حاسة نقدية فيهم لهو أشبه بالبحث عن قطة سوداء في غرفة مظلمة. لم يكن نصر حامد أبو زيد يشكك في جوهر الدين، بل كان شديد لحرص على التذكير بأنّ ما يكتبه ما هو إلا مناقشة ما يدور حول التفسير البشري للنص الديني، ولا يعدو نقده أن يكون نقدا موجهها للتدين ولأشكال التفسير والتأويل البشريين للدين.

إنّ وعيًا مغفلًا ومتسرعًا هو الذي لا يفصل بين الدين وبين التدين، أي بين النص وبين الفهم البشري لهذا النص، أضف إلى أنّ منهج نصر حامد أبو زيد ينطلق من وضع النص الديني وتفسيره ضمن سياقه التاريخي المتحوّل.

إنّ وعيًا مغفلًا ومتسرعًا هو الذي لا يفصل بين الدين وبين التدين، أي بين النص وبين الفهم البشري لهذا النص

إنّ بيئة مشبعة بثقافة العماء المطلق، لهي بيئة لا يمكن لها أن تنتج وعيًا نقديًا قادرًا على المساءلة، وأي مساءلة في هذا السياق هي نوع من مصادرة الحقيقة المطلقة، وأي مصادرة لها مفعول ايقاظ الفتن، وتهديد الطمأنينة التي تغشى المؤمنين.

اقرأ/ي أيضًا: التاريخ الدموي للسعادة.. الأوتوبيا الأقسى

المؤمن في منظور أصحاب الرؤى الكليانية هو الشخص السعيد، المنسجم مع العالم الذي يغلفه بستارة الحقيقة المطلقة، إنه يملك الحقيقة، والذي يملك الحقيقة لا يمكن أن يسأل، بل هو الذي يستغني عن أي ممارسة تفكيرية. أن تؤمن في هذا العصر هو أن تخلع العقل من مكانه، وتدخل في سبات انطولوجي في انتظار قيام الساعة.

إنّ ما يدفع بحراس المعبد إلى تكفير المفكرين وأصحاب الرؤى النقدية الجذرية هو خوفهم من مواجهة حقيقتهم أمام مرآة الحقيقة؛ لهذا يسعون دائمًا بكل ما أتيح لهم من وسائل إلى كسر تلك المرآة.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

طيب تيزيني.. ناقد الثقافة والاستبداد

فكر علي شريعتي.. أدوار الضعف والقوة