22-نوفمبر-2019

تشهد الديمقراطية في أمريكا اللاتينية أزمة عامة (Getty)

تقف تشيلي وحيدًة بين دول الأمريكيتين بتقديمها نموذجًا مختلفًا للتعاطي مع الاحتجاجات الشعبية، بعد موافقتها على إجراء استفتاء شعبي للتصويت على كتابة دستور جديد للبلاد، على عكس باقي الدول التي تشهد احتجاجات مماثلة لم يستطع فيها المحتجون تحقيق الحد الأدنى من مطالبهم. ففي بوليفيا استقال الزعيم الاشتراكي إيفو موراليس بعد رسالة موجهة من الجيش، على عكس فنزويلا التي يقف فيها الجيش إلى جانب الرئيس الاشتراكي نيوكولاس مادورو الذي يرفض التنحي عن السلطة.

ثمة تناقض رئيسي تقوم عليه الديمقراطية في الأمريكيتين، نظرًا لعدم الرضا عن الأوضاع الاقتصادية والسياسية السائدة مع الأحزاب الحاكمة حاليًا، إضافة لعدم استقرار في تسلسلية الهرم السياسي

نهاية حقبة من تاريخ تشيلي السياسي

بدأت الاحتجاجات في تشيلي بمطالب اقتصادية قبل أن تصل إلى أعلى مستوى سياسي في البلاد، بعد أن دعا المحتجون لإعادة صياغة الدستور المنتمي لحقبة الديكتاتور أوغستو بينوشيه في سبعينات القرن الماضي، عندما أطاح في انقلاب عسكري بالرئيس الشيوعي سلفادور الليندي، أول رئيس منتخب ديمقراطيًا من قبل الشعب، قبل أن يقوم بينوشيه الذي كان قائدًا للجيش بالانقلاب مدفوعًا بذلك من واشنطن.

أقرأ/ي أيضًا: دول الأمريكيتين تنتفض.. الاحتجاجات الشعبية تتوسع من تشيلي إلى هايتي

وبعد موجة من الاحتجاجات التي استمرت لأكثر من شهر، خلفت قرابة 20 قتيلًا برفقة أعمال شغب وحرق للمرافق الحكومية، رضخ البرلمان التشيلي لمطالب المحتجين بموافقته على إجراء استفتاء لكتابة دستور جديد للبلاد في نيسان/أبريل القادم، مؤذنًا بذلك نهاية حقبة من تاريخ البلاد السياسي، اتسمت بحملات تطهير قادها بينوشيه ضد الشيوعيين خلال فترة حكمه.

مطالب التشيليين التي كانت بدايتها الضغط على الحكومة لإلغاء زيادة أسعار تذاكر المترو، تحولت بشكل سريع بعد رضوخ الحكومة لهذا المطلب، وشملت في مراحل متقدمة المطالبة بخدمات اجتماعية أفضل، وإلغاء التفاوت الاقتصادي بين شرائح المجتمع. وسيجعل هذا التحول في المطالب العام القادم حاسمًا على الصعيد السياسي، وستبدأ سانتياغو بكتابة تاريخ سياسي جديد للبلاد، إذ إن التشيليين بعد استفتاء نيسان/أبريل، سيكونون بانتظار التصويت على اختيار الأعضاء المشاركين في كتابة دستور البلاد الجديد في تشرين الأول/أكتوبر القادم.

ومع وصول البلاد لمرحلة جديدة من تاريخها السياسي، أقر الرئيس سبستيان بينييرا باستخدام قوات مكافحة الشغب العنف المفرط في قمعها للاحتجاجات الشعبية، وبالمقارنة مع الاحتجاجات التي تعم الأمريكيتين فإن إقرار بينييرا بذلك، وتشديده على عدم إفلات الجميع من العقاب، سواءً من قوات مكافحة الشغب أو المحتجين، فإن البلد اللاتيني يسجل سابقة في تعاطيه مع الاحتجاجات الشعبية، على عكس الدول الأخرى التي وقف فيها الجيش إلى جانب الرؤساء، طبعًا باستثناء بوليفيا.

المعارضة تتسلم تسيير شؤون البلاد  

الاستثناء البوليفي يأتي في مجموعة من السياقات المردود مسببها الأول لسياسة الولايات المتحدة في البلد الذي كان محكومًا من الرئيس إيفو موراليس منذ عام 2005، بالتزامن مع صعود اليسار اللاتيني في غرب الكرة الأرضية؛ وقدم الزعيم الاشتراكي استقالته الأسبوع الماضي تحت ضغط الاحتجاجات الشعبية ما دفع بقائد الجيش وليامز كاليمان لمطالبته بتقديم استقالته، تتالت بعدها الاستقالات من المسؤولين الموالين لموراليس، ما أفضى بتسيير شؤون البلاد للسياسية البوليفية المعارضة جانين أغنيس، النائب الثاني لرئيس مجلس الشيوخ.

تعيش لاباز في الوقت الراهن احتجاجات شعبية يقودها الجمهور الموالي للرئيس موراليس، الذي لجأ مع مجموعة من المسؤولين إلى المكسيك، بعد تصريحات خرجت عبر وسائل الإعلام تشير إلى وجود مذكرة اعتقال بحقه لدى قائد الشرطة. وبعد فترة استقرار سياسي لأكثر من 14 عامًا، يستعيد البلد اللاتيني موجات العنف التي رافقت ولاية الرئيس السابق جونزالو سانشير دي لوزادا، قبل هروبه إلى الولايات المتحدة عقب احتجاجات عام 2003.

كان موراليس أقدم على إعلان استقالته تحت وطأة تصاعد الاحتجاجات التي قادتها المعارضة، وسط مزاعم بتزوير نتائج الانتخابات الرئاسية التي أجريت في 20 تشرين الأول/أكتوبر، وبعد لجؤئه إلى المكسيك بدأ أنصاره بمحاصرة العاصمة لاباز مطالبين أغنيس بالاستقالة، وتنظيم انتخابات رئاسية مبكرة، بينما أعلن موراليس عدم رغبته الترشح لفترة رئاسية جديدة،

في تعاطي الجيش البوليفي مع الأزمة الراهنة، نلمس اختلافًا واضحًا. في الاحتجاجات التي خرجت ضد موراليس التزم الجيش الحياد على الرغم من موجات العنف التي طالت مسؤولين في حركة من أجل الاشتراكية، الحزب الحاكم في البلاد، لكنه في تعامله مع الاحتجاجات التي يقودها أنصار موراليس بعد حصارهم للعاصمة لاباز، استخدم المدرعات والحوامات العسكرية لإخمادها، وتشير التقارير إلى سقوط ثلاثة قتلى، وإصابة أكثر من 20 آخرين.

شعبية غايدو تتراجع تحت ضغوط مادورو

 لا تزال المعارضة الفنزويلية بقيادة الزعيم السياسي الشاب خوان غوايدو، المدعوم من واشنطن، تصارع منذ أشهر للإطاحة بالرئيس الاشتراكي نيكولاس مادورو، الحليف الأبرز للرئيس الكوبي ميغيل دياز كانيل بيرموديز، والزعيمين الأخيرين هما من أبرز داعمي موراليس فعليًا. اتحد اليسار اللاتيني للوقوف إلى جانب الزعيم البوليفي، في سياق يدل على حجم الانقسام السياسي في التعاطي مع الديمقراطية في دول الأمريكيتيين.

تلقى غوايدو دفعًة طفيفة بعد إطاحة المعارضة البوليفية بموراليس، وعاد مجددًا لحشد أنصاره في الشارع لزيادة الضغط على مادورو المتمسك بالسلطة، والمدعوم من المؤسسة العسكرية، فيما تراجع زخم الاحتجاجات الشعبية التي كانت في ذروتها في شباط/فبراير الماضي، عندما أعلنت المعارضة غايدو رئيسًا مؤقتًا للبلاد، وحظي باعتراف أكثر من 50 دولة على مستوى العالم بينها واشنطن، لكن شعبيته الآن انخفضت إلى 60 بالمائة وفقًا لأحدث استطلاع الرأي.

ووجدت المعارضة الفنزويلية نفسها محاصرة بعد عدم مساندتها من المؤسسة العسكرية والمحكمة العليا في البلاد، التي كانت تأمل بالانضمام إليها للإطاحة بمادورو، وسحبت الحكومة الفنزويلية الحصانة من عشرة نواب معارضين، حيثُ غادر معظمهم فنزويلا، بينما يختبئ آخرون في منازل آمنة، في الوقت الذي يسعى مادورو للالتفاف على العقوبات الأمريكية التي حدت من صادرات النفط، وتأتي مساعي مادورو بدخوله في مفاوضات مع مجموعات منشقة من المعارضة، والتي يراها محللون أنها استراتيجية لإعطاء إدارته المزيد من الشرعية للاستمرار في الحكم.

اليسار اللاتيني المأزوم

تبرز مسألة هامة في مقارنة تعاطي واشنطن مع الاحتجاجات الشعبية في أرجاء دول الأمريكيتين، وتقدم لنا احتجاجات الدول الثلاث آنفة الذكر، صورًة عن ازدواجية واشنطن في هذا التعاطي، وتدل على أنها لم تتجاوز مرحلة الحرب الباردة خلال القرن الماضي، التي قسمت الخارطة السياسية للعالم إلى معسكرين أساسين، سوفييتي وأمريكي.

قدمت واشنطن دعمها للمعارضة البوليفية، وأثنت على المؤسسة العسكرية التي كانت وراء استقالة موراليس من منصبه، قبل شهرين من انتهاء ولايته الثالثة بشكل رسمي، وفي فنزويلا تدعم الزعيم الشاب غايدو على أمل الإطاحة بالرئيس الاشتراكي مادورو، لكنها في تشيلي لم تعمل على إصدار أي تصريح يدين أو يدعم الاحتجاجات الشعبية، والتزمت الصمت إزاء ما يحصل.

وتتصدر البرازيل قائمة الدول الدعامة للسياسة الأمريكية في الأمريكتين، ما يحولها في نظر البعض لتكون ما يشبه الحديقة الخلفية لسياسة واشنطن، التي تعطي مثالًا واضحًا على ماذا تريد أمريكا من الأمريكيتين. فقد تصدّرت قائمة الدول الداعمة للمعارض الفينزولي جايدو، وتستضيف في العاصمة برازيليا مبعوثة غايدو الشخصية إليها ماريا تيريزا بيلاندريا بصفة سفير، وذلك مردوده لسياسة الرئيس جايير بولسونارو المتوافقة مع سياسة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.

ويبدو أن الأيام القادمة قد تشهد سجالًا دبلوماسيًا حادًا بين كاركاس وبرازيليا، على خلفية محاولة السيطرة من قبل مجموعة مناصرة لغايدو على مقر السفارة الفنزويلية في العاصمة البرازيلية، الأربعاء الماضي، لمدة 12 ساعًة، انفضت بعد تدخل الأمن، واتهمت الخارجية الفنزويلية أن رد الحكومة البرازيلية على الاقتحام كان "سلبيًا".

تمثل البرازيل نموذجًا حيًا لأسباب خسارة اليسار الانتخابات الرئاسية التي أوصلت بولسونارو إلى السلطة. صُدم البرازيليون مرتين على التوالي من الرؤساء اليساريين،  رئيس حزب العمال اليساري لويس لولا دا سيلفا، الذي أطيح به بعد اتهامه بالفساد، وخليفته ديلما روسيف التي عزلت بسبب فضائح اقتصادية، وتهم فساد، ووجدوا أنفسهم في مواجهة طبقة يسارية فاسدة تدير دفة  البلاد، وفقدوا الثقة بعد حادثتين متواليتين في أقل من خمسة أعوام. وترى آراء عديدة أن هذا بالفعل ما ساعد الرئيس الحالي على الفوز بالانتخابات.

من الملاحظ أنه منذ إضفاء الطابع الديمقراطي على الحياة السياسية في الأمريكيتيين في ثمانينات القرن الماضي، كانت الانقلابات العسكرية نادرة، إلا أنها استعادت حضورها مؤخرًا، وتحولت أداة قوية بيد اليسار، وفي مثال على ذلك نسوق حالة الرئيس الفنزويلي مادورو دائم الكلام عن محاولات استهدافه، مع الإشارة لفوزه بولاية جديدة بعد تزوير الانتخابات، وعلى الجانب الآخر الرئيسة البرازيلية روسيف رغم أن إجراءات عزلها اتبعت صرامًة دستورية، لكنها تقول بشكل مستمر إنه تم الإطاحة بها عبر "انقلاب".

وحتى الرئيس موراليس عندما استلم السلطة، شن حملة ملاحقة ضد معارضيه، وحاول لأكثر من مرة تعديل الدستور حتى يستطيع البقاء في السلطة أكبر وقت ممكن، وتراجعت شعبيته بين البوليفيين، لكن كل ذلك لا ينفي أنه لم يستطع إكمال ولايته الثالثة تحت ضغط الجيش، لذا فإن مشكلة اليسار اللاتيني أنه لا يريد تقديم وجوه سياسية جديدة للانتخابات بدلًا من الوجوه التقليدية، وهو ما يجعل الشعوب اللاتينية تعيش حالة تململ من تكرار نفس الوجوه، وأصبحت تحتاج لتغييرات جديدة على الاقتصاد، والحياة السياسية.

اقرأ/ي أيضًا: احتجاجات عالمية على شروط معولمة.. السترات الصفراء أطلقت الشرارة

ومن هنا يمكننا ملاحظة وجود تناقض رئيسي تقوم عليه الديمقراطية في الأمريكيتين، نظرًا لعدم الرضا عن الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية السائدة مع الأحزاب الحاكمة حاليًا، وتشير لعدم استقرار في تسلسلية الهرم السياسي بين السلطات الثلاث. فقد أظهر استطلاع للرأي ليس على مستوى الأمريكيتيين، بل حتى على مستوى العالم، أن الحياة السياسية الديمقراطية التي شهدت تطورًا منذ عام 1980 بدأت منذ سنوات قليلة بالتراجع.

تتصدر البرازيل قائمة الدول الدعامة للسياسة الأمريكية في الأمريكتين، ما يحولها في نظر البعض لتكون ما يشبه الحديقة الخلفية لسياسة واشنطن

بينما تشير بعض الأوراق البحثية لاتفاق بين المحللين على أن الديمقراطيات المعاصرة بدأت تميل للتآكل تدريجيًا تحت ستار قانوني، مشبهًة هذه الفترة بحقبة الثلاثينات التي أوصلت للحكم الديماغوجيين المناهضين للديمقراطية.

 

أقرأ/ي أيضًا:

 هونغ كونغ تنتفض في وجه الصين: ماذا يحدث في أكثر الدول حرية اقتصادية في العالم؟

شعوب أسقطت انقلابات.. تشيلي