23-ديسمبر-2018

تعم موجة من الاحتجاجات دولًا كثير في العالم (Getty)

ألترا صوت - فريق التحرير

أصبح واضحًا في الفترة الأخيرة، أن موجة عارمة من الاحتجاجات المطلبية والمعيشية، تعم دولًا كثيرة في العالم، ليس في الوطن العربي وحده، فإلى جانب العراق والسودان والأردن وغيرها، فإن دولًا أوروبية لم تكن نائية عن هذه الظاهرة، على غرار فرنسا، والانتشار السريع لظاهرة السترات الصفراء، عطفًا على الاحتجاجات هذه الأيام في هنغاريا، ضد واحد من الرؤساء الأكثر شعبوية ويمينة وعنصرية في العالم، فيكتور أوربان،  إضافة إلى تركيا ودول أخرى عديدة من بينها إسرائيل، ليس من باب الصدفة، بقدر ما أنها تتوسط واحدة من أوضح حالات التحول النيوليبرالي اقتصاديا خلال الـ30 سنة الأخيرة. لكن هل من المستغرب أن تتزامن هذه الاحتجاجات معًا؟ بل الأجدى السؤال هل كان أثر الضخ المالي الذي تبع انهيار الأسواق وكساد 2008 الذي انطلق من وال ستريت مدمرًا إلى هذه الدرجة وواسعًا إلى هذا الحد؟!

ترتبط الاحتجاجات في دول عدة بنوع من الأسباب المحلية، سياسيًا ومعيشيًا، لكنها ترتبط أيضًا، كما يبين انتشارها العابر للقارات، بنوع من السياسات العالمية

ترتبط هذه الاحتجاجات بالتأكيد بنوع من الأسباب المحلية، سياسيًا ومعيشيًا، لكنها ترتبط أيضًا، كما يبين انتشارها العابر للقارات، بنوع من السياسات العالمية، وبظواهر خارجة عن الحدود، على غرار الشعبوية والعنصرية، التي يحظى رواجها بكثير من الأسئلة أيضًا.

خلال هذا الأسبوع، سقط أكثر من عشرين قتيلًا في السودان، خلال الاحتجاجات الحازمة ضد نظام الرئيس السوداني، عمر البشير، بعد رفع الدعم عن عدد من السلع وبدء مرحلة من التقشف. وأثار قرار حكومي برفع سعر رغيف الخبز من جنيه سوداني إلى ثلاثة غضبًا عارمًا في  مختلف أنحاء البلاد، بدءًا من يوم الأربعاء. اندلعت الاحتجاجات لأول مرة في مدينة عطبرة الشرقية قبل أن تنتشر إلى القضارف، شرق السودان، ثم إلى العاصمة الخرطوم وأم درمان ومناطق أخرى، ثم تحولت الشعارات والمطالب التي حملها المتظاهرون، بسرعة فائقة، إلى خطاب شامل ضد النظام، يطالب بإسقاط إدارة الرئيس عمر البشير.

اقرأ/ي أيضًا: لماذا كل هذا الحقد الإعلامي على "السترات الصفراء" عربيًا؟

بعد ذلك بثلاثة أيام، أي يوم السبت، خرج آلاف المتظاهرين إلى شوارع اسطنبول للاحتجاج ضد ارتفاع تكاليف المعيشة والتضخم في تركيا. وحسب وكالة فرانس برس، فقد حمل المتظاهرون لافتات طُبع عليها شعارات وصور لحركة "السترات الصفراء". كما رفع المشاركون في الاحتجاجات التي استقطبت شرائح واسعة من الأتراك من مدن مختفة، شعارات "العمل، الخبز، الحرية"، وأخرى مكتوب عليها "حزيران"، في إشارة إلى تاريخ الاحتجاجات ضد نظام الرئيس رجب طيب أردوغان في عام 2013.

وفي بودابست، حيث تحكم إدارة أحد أكثر الشعبويات تطرفًا في الغرب، استلهم المتظاهرون السترات الصفراء، وكانت الاحتجاجات متعلقة بتغيير تشريعات العمل، والزيادة القسرية على عدد الساعات الإضافية التي يمكن لرب العمل طلبها من الموظفين والعمل، بالإضافة إلى مسائل الحريات والقمع والتضييق على مساحات الرأي. وفي اليومين الأخيرين فقط، انضم الآلاف من الناس إلى احتجاجات جديدة ضد ما يسمى "قانون العبيد" الجديد.

يحدث ذلك، بينما تعيش مدن عراقية بشكل مستمر منذ أشهر، حركة لا تقل تنظيمًا في وجه سلطة المحاصصة التوافقية والطائفية، أمام شح غير مسبوق في الخدمات، وبطالة وانعدام أمان. ليس بعيدًا عن العراق، في الأردن تحديدًا، فإن رفع الدعم كان عاملًا أساسيًا وراء خروج آلاف المواطنين، هاتفين ضد القفزات غير المعقولة في الأسعار، بعد أن أصبحت مدينة مثل عمّان، واحدة من أغلى المدن في الشرق الأوسط.

 أما في فرنسا، فقد شكلت حركة السترات الصفراء، علامة فارقة في الأسابيع الماضية. حيث كونت ردعًا عازلًا أمام السياسيات النيوليبرالية للرئيس، إيمانويل ماكرون، الذي لا ينفك يخيب آمال من عولوا عليه باعتباره حلًا بديلًا في وجه اليمين المتطرف، وحركة مارين لوبان. كانت الأسعار والواقع المعيشي أيضًا محركًا لهذه الاحتجاجات.

تكمن المفارقة في أن مجمل ما ترفضه الاحتجاجات العفوية في الفترة الأخيرة، قائم على فهم يومي للعلاقة، التي تتجنب النخب والإعلام المهيمن الإشارة لها، بين السياسات المالية النيوليبرالية والشعبوية

 تتشارك هذه الاحتجاجات لا في الوقت فقط، ولا في الاستلهام المتبادل بينها، على صعيد الرموز والشعارات، ولكن والأهم، في أسبابها والشرائح الاجتماعية القائمة عليها.

اقرأ/ي أيضًا: تظاهرات البصرة تتوسع في العراق.. سخط الجنوب يوحد الشارع

ففي حين تنشغل النخبة المهيمنة والأوساط التقليدية في الغرب، بتقديم تحليلات نظرية لصعود الشعبوية المخيف في السنوات الأخيرة، فإن الواقع يبدو وكأنه يقدم خلال الأشهر الأخيرة تفسيرًا عمليًا أكثر. تواجه هذه الاحتجاجات بالتحديد نوعين من السياسات، فبالإضافة إلى القمع والاستبداد، فإنها تواجه السياسات الاقتصادية المعولمة، التي تفرض من خلالها النخب المالية - سواء في صندوق النقد الدولي أو مجموعات التكنوقراط غير المنتخبة في البنوك المركزية داخل الدول نفسها – شروطًا قاسية، تؤول في النهاية إلى برامج تقشف صارمة، ورفع أسعار، وإنهاء الدعم عن السلع.

تكمن المفارقة في أن مجمل ما ترفضه هذه الاحتجاجات العفوية، قائم على فهم يومي للعلاقة، التي تتجنب نخب مهيمنة الإشارة لها في الغرب، أي تلك العلاقة بين السياسات المالية النيوليبرالية، وصعود الشعبوية. وهو ما يبدو أن هذه المعالجات، تفضل التعامي عنه، وتقديم طروح وتفسيرات سطحية له، مرتبطة بتغير "ثقافة العوام"، أو تصاعد موجات اللاجئين، أو حتى عوامل أخرى.

تعطي هذه الاحتجاجات المتزامنة ضد الأنظمة الشعبوية والقمعية، وضد السياسات المالية المعولمة، انطباعًا عن ضرورة فهم النزعات الشعبوية، من الواقع المعيشي للناس أنفسهم، أي من هذا الحقد المشروع، على النخب المالية التي يتضررون منها، وهو الحقد الذي تستغله حركات وأحزاب يمينية لسوء الحظ وتوظفه ضد ضحاياه، ليحرموا من الخبز مرة ومن صوت حقيقي يمثلهم سياسيًا مرة إضافية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

 الثورات العربية وثقافة اللاعنف.. حدود الرفض

"السترات الصفراء".. مستمرة في فرنسا مستعدة في أوروبا