22-سبتمبر-2020

صورة لـ توبي ميلفيل (رويترز)

هذه ترجمة بتصرّف لمقال الكاتب الأمريكي نيك ريباترازون في الأتلانتيك، عن الجري والكتابة وعن تلك العلاقة الوثيقة لبعض الروائيين والشعراء بالجري والرياضة.


هنالك وفرة في الأعمال الأدبية التي أتت على ذكر الجري والعدّائين، من إلياذة هوميروس وصولًا إلى ألفريد إدوارد هاوسمان وقصيدته عن الرياضيّ العداء الذي وافته المنيّة في شبابه، أو ويستن هيو أودن حين قال في إحدى قصائده: "انطلّق/ حرّك أطرافك/كما يفعل العدّاء". ولن تعدم في عالم الأدب قصصًا عن كتاب تركوا أقلامهم وأوراقهم (أو حواسيبهم)، وانطلقوا في الطرقات أو مضامير الجري أو الغابات ليمارسوا هذه الرياضة. جوناثان سويفت، كان يركض كيلومترًا واحدًا كل ساعتين وهو في العشرينات من العمر، ولويسا ماي ألكوت لم تنقطع عن رياضة الجري طوال شبابها، وتقول في مذكراتها: "لطالما تخيلت أنني كنت غزالة أو فرسًا في حالة سابقة، لأن السعادة تغمرني وأنا أركض". البعض في المقابل يرى أن النقص فادح في الأعمال الأدبية التي تصف الجري وممارسيه، باستثناءات نادرة ذكرتها كاثرين شولز في مقال لها في مجلة نيويوركر، من بينها مجموعة مقالات لتوماس غاردنر مجموعة في كتاب بعنوان "Poverty Creek Journal"، والتي اعتبرتها الاستثناء الأفضل في هذا الصدد.

جويس كارول أوتس: "وجدت أن الجري يتيح لي، في الحالة المثالية، مساحة أفسح من الوعي يسعني فيها أن أتصوّر ما أكتبه وكأنه مقطع من فيلم أو مشهد من حلم"

الجري ممارسة توفّر للكتّاب مهربًا لا يخلو من الفائدة، يختبر فيها الحرية والوعي والطبيعة. جويس كارول أوتس كلما علقت بمشكلة "بنيوية" في كتابتها، نتيجة "صباحات ثقيلة متطاولة ومحبطة" كما تقول، تهرب إلى الجري للتخلص من حبسات الكتابة. الجري لدى أوتس والعديد من الكتاب غيرها هو سيرورة في ذاته، وله فائدة عظيمة، ولاسيما إزاء ذلك القدر المضني من العمل المعقّد الذي يقومون به. كما أن الجري من عدّة جوانب يكاد يكون امتدادًا طبيعيًا لفعل الكتابة؛ فذلك التراكم الثابت من الأميال المقطوعة في الجري يحدث بالتوازي مع تراكم الصفحات في عملية الكتابة، وكلا الأمرين المتسّمين بالصرامة والالتزام، وفي كلتا الحالتين يؤول الجهد إلى شعور بالتمام بعد طول عناء وما يتبع ذلك من رضا وسعادة. فبالجري يتمكن الكاتب من تعزيز قدرته على التركيز في مهمّة بعينها، وأن يلج حين يشاء في حالة ذهنية جديدة كليّة، كلمة وراء كلمة، وميلًا بعد ميل.

جويس كارول أوتس (ذا نيويوركر)

اقرأ/ي أيضًا: عندما تفوّق هاروكي موراكامي عليّ في الجري!

أثناء إجازتها للتفرغ الأكاديمي عام 1972، بدأت كارول أوتس، بعد أن نازعها حنين لبيتها، بالجري "فاقدة الشعور بالقدرة على الامتناع عن ذلك. لم يكن الجري راحة من الكتابة بقدر ما صار جزءًا منها". في الوقت ذاته، شرعت أوتس في تدوين يومياتها، والتي ستتجاوز لاحقًا 4000 صفحة مطبوعة بتباعد مفرد بين السطر والآخر. تقول أوتس: "وجدت أن الجري يتيح لي، في الحالة المثالية، مساحة أفسح من الوعي يسعني فيها أن أتصوّر ما أكتبه وكأنه مقطع من فيلم أو مشهد من حلم". وما تزال أوتس حتى اليوم تخرج للجري في طريق يأخذها صعودًا نحو تلة صغيرة، حيث تشعر "أن ثمة أفكارًا تنتظر وصولي إليها.. وهي أفكار مختلفة عمّا قد يخطر لي لو جلست في غرفة مغلقة". هنالك أيضًا دون ديليلو، الذي راقه ذلك الأثر "التحويلي" للجري، بعد جلسة الكتابة الصباحية، ويقول: "بالجري أنفضّ من عالم وألج في عالم آخر، عالم مليء بالشجر والطيور وطلّ المطر. في الجري فسحتي، ويا لها من فسحة جميلة".

وسواء كانت المقاربة عملية أو روحية، فإن العديد من الكتاب يركضون بتفانٍ وجداني. القاصّ الأمريكي أندريه دوبوس، اعتاد على الجري لما وجد فيه من متعة وتطهير روحي. لكنه أيضًا، وكما هي الحال لدى أوتس وديليلو، كان يجري بتوقيت محدّد وترتيب مقصود، ووفق جدول يدوّن فيه تفاصيل تمارينه اليومية والمسافة التي سيقطعها، دون أن ينسى تدوين مجموع عدد الكلمات التي كتبها في ذلك اليوم. تلك المنهجية التي اتبعها مستوحاة من تفسير لإحدى عادات إرنست همنغواي، والذي كان يوقف الكتابة حتّى قبل أن إتمام جملته، ويتجه لأداء تمرين رياضي، ثم يعود لإتمام قصته من منتصف تلك الجملة في اليوم التالي.

هاروكي موراكامي 

لكن ما الذي يجعل الكتّاب يحبّون الجري فعلًا؟ لعل الجري يمنحهم حريّة امتلاك المسافات، مع الحفاظ على ذلك النزوع الأدبي للعزلة. ثمّة إيقاع تأملي لتهدّج الأنفاس ووقع الخطوات على الأرض أثناء الجري، وسرعان ما يدرك الكاتب العدّاء أن بين الفنّ والرياضة علاقة تحقّق النفع المشترك على كلا الصعيدين. هاروكي موراكامي، الروائي الياباني الشهير، ومدير مطعم سابق في طوكيو، كان يدخّن 60 سيجارة في اليوم، ثم بدأ رياضة الجري ليحسّن صحّته ويخفّف من وزنه، ونشر عددًا من الروايات مذاك الحين، ولكنه لم يشعر بوجوده الحقيقي ككاتب جادّ إلا "في اليوم الذي شرعت فيه بالجري"، والذي منحه الالتزام به نوعًا من اليقين بأنه قادر دومًا على مواصلة أي عمل حتى نهايته.

ثمّة إيقاع تأملي لتهدّج الأنفاس ووقع الخطوات على الأرض أثناء الجري، وسرعان ما يدرك الكاتب العدّاء أن بين الفنّ والرياضة علاقة تحقّق النفع المشترك على كلا الصعيدين

أحبّت أوتس الجري في شبابها لما فيه من سراح ذهني و"خلوة خاصّة"، فتركض بين البساتين، وتدور في رأسها "خشخشة عرانيس الذرة مع حركة الريح في الحقل" وترى في طريقها المزارعين على السهول والمنحدرات.. وكلها مشاهد ذات علاقة وثيقة بالكتابة القصصية، إذ لا تعدم فيها ذاتًا "شبحية" أو "خيالية"، وهو ما جعل أوتس ترى أن أي شكل من أشكال الفنّ ينضوي على القدرة على الاستكشاف والتجاوز، وأن الجهد البدني يطلق العنان لآخرَ متخيّل وإبداعي، كما رأت أن الكاتب الذي يجري أقدر على التطواف حرًا بلا قيود.

اقرأ/ي أيضًا: بورخيس.. أبو الهول الأرجنتيني

لقد قالها رينولدز برايس مرّة: "أكثر الكتّاب حظًا هو ذلك الذي يكتسب شيئًا فشيئًا شعورًا بأنه لا يكتب بدافع آخر يتجاوز الكتابة نفسها، فيصبح أشبه ما يكون بعدّاء مسافات طويلة يظلّ يعدو في وحدته، وليس ثمّة جائزة في انتظاره أكبر من إدراكه بأنه قادر على أن يعدو". لقد أصاب برايس حين لاحظ بأن ذلك أمر يحصل "شيئًا فشيئًا"، مع مرور الوقت، كما قالت الشاعرة كاي رايان، واصفة تلك الكومة المعقّدة من المشاعر لدى الكاتب والعدّاء: "أحبّ أن أجري/بالحقيقة، أنا لا أحب ذلك/ولكني أجري منذ الأزل".

 

اقرأ/ي أيضًا:

عتيق رحيمي في رواية "حبّ في المنفى".. حالة اغتراب جمعي

كتاب "جوزف أنطون".. الحياة السريّة لمؤلّف "آيات شيطانيّة"