10-سبتمبر-2020

عتيق رحيمي

لا يقف عتيق رحيمي (1962) في روايته الجديدة "حبّ في المنفى" (دار الساقي 2020، ترجمة أنطوان سركيس) خارج حدود "الأسئلة الصعبة" التي أسّسها واقع غير طبيعيّ، بل شاذ أيضًا، إنّما يُعاود الدخول إليها ونقلها إلى حكايات وفضاءات جديدة، تأخذ عندها وبالضرورة شكلًا جديدًا يتّسق مع القصّة وأبطالها، ويختلف تمامًا عمّا جاء في أعماله السابقة التي قدّمت هذه الأسئلة بصفتها "غيتو" يعيش فيه الفرد الأفغانيّ منذ الغزو السوفييتيّ وصولًا إلى قيام إمارة طالبان وما تمخّض عنها من تحوّلات حادّة فجّرت هذه الأسئلة المُتنقّلة بين روايات الكاتب الأفغانيّ بأشكالٍ جديدة ومُختلفة في كلّ مرّة.

تدور رواية "حبّ في المنفى" لعتيق رحيمي حول الهويّة وأزماتها الناتجة عن حالة اغترابٍ اجتماعيّ فرديّة وبنيويّة

بينما تمحورت هذه الأسئلة في "أرض ورماد" حول سؤال واحد فقط متعلّق بالبحث عن طريقة ينقلُ عبرها رجلٌ عجوز لابنه خبر إبادة القوّات السوفييتيّة لقريتهم بعد مذبحةٍ راحت ضحيّتها العائلة بأكملها باستثنائه هو وحفيده، ودارت في "حجر الصبر" حول أوضاع المرأة الأفغانيّة التي عبّرت عنها بطلة العمل التي قصّت على مسامع زوجها المشلول اعترافاتٍ جريئة وضعتهُ في مواجهة حقيقة أنّه غير قادر على الإنجاب وأنّ بناتهما ثمرة علاقة مُحرَّمة أقامتها زوجتهُ مع رجالٍ آخرين، واختُزلت في "ألف منزل للحلم والرعب" في سؤال الذات/ الأنا عن موقعها الشاذّ بين حاضرٍ مشوّش وماضٍ شديد القسوة، فإنّها في "حبّ في المنفى" دارت حول الهويّة وأزماتها الناتجة عن حالة اغترابٍ اجتماعيّ فرديّة وبنيويّة.

اقرأ/ي أيضًا: "حجر الصبر".. حين أجهزت شهرزاد على شهريار

يُتيح رحيمي تتبّع مسارات هذا الاغتراب وتحديد مصدره الذي يأخذ شكلين مُختلفين بفعل اختلاف المكان الذي تدور فيه أحداث الرواية وحكايتها التي شكّلتها حكايتين مُنفصلتين ومُتّصلتين في وقتٍ واحد: حكاية "تميم" الذي غادر أفغانستان باتّجاه فرنسا التي حصل على جنسيتها باسمه الجديد "توم" الذي جعل منه نقطة انطلاق للقطيعة مع ماضيه وهويّته الأولى؛ وحكاية "يوسف" الذي يعمل سقّاءً في أحياء كابول شديدة البرودة والمُعتمة في وضح النهار.

وإذا كان اختلاف المكان والشخصيّات هو ما يفصل بين هاتين الحكايتين، فإنّ المصير المُشترك الذي ينتهي إليه توم ويوسف، بالإضافة إلى اغترابهما، هو ما يجعلهما أساسًا حكايتين مُتّصلتين، أو تفريعتين لحكاية واحدة تشغلها مسألة الهويّة الفرديّة وأزماتها وموضوعة الاغتراب الذي يُمكن تحديد مصادره بسخط الشخصيّات الرئيسيّة من واقعها؛ سخط يوسف من طبيعة حياته المبنيّة على اعتباره "خصيّ"، بالإضافة إلى جهله بنفسه وتردّده الذي سيحول بينه وبين شيرين، زوجة أخيه المُسافر، وشرف العائلة وناموسها الذي عليه حمايته بعد غياب أخيه، ولكنّها، قبل ذلك، المرأة الوحيدة التي أشعلت رغباته ونفت عنه تلك الصفة أيضًا.

 

على الطرف الآخر، يضعنا مؤلّف "ملعون دوستويفسكي" في مواجهة سخط توم من شخصيّته التي يتنازعها مكانين واسمين وهويّتين أيضًا: هويّته الأفغانيّة المُتجذِّرة والمُتأصِّلة التي يُحاول الخلاص منها بامتناعه عن الحديث بلغته الأم، ولكنّ لغته الفرنسيّة لا تزال "تحتفظ بآثار بلاغيّة من أصولك"، وهويّته الفرنسيّة الهشّة التي فشل في التماهي معها في ظلّ وجود ما يُعيده إلى هويّته الأولى، لا سيما زوجته الأفغانيّة رينا، والنتيجة حالة من التيه والاغتراب حدَّدها رحيمي بقوله: "أنت ضائعٌ على الدوام بين الاثنين، سواء أأدركت ذلك أم لا. تمامًا كمثل هذه الليلة التي تحلم فيها بثقافتك الأصليّة وتتحدّث بمفردات الفرنسيّة ومفاهيمها. أخطاؤك البالغة الغرابة والالتباس هي على صورة حياتك كمنبوذ".

لعلّ الصفة الأخيرة هي الأكثر تعبيرًا عن الحياة التي يعيشها توم مُحاصرًا بقلقه واغترابه الذي أفرز مساحة رحبة تتصادم فيها الهويّات التي تتنازعه، لا سيما بعد قراره بهجر عائلته، أو زوجته تحديدًا باعتبارها إشارة مُستمرِّة إلى هويّته الأولى، بل إنّها، كما أخبرته والدته، منفاه وهويّته في آنٍ معًا، ولا يُمكن التعامل هنا مع كلام والدته إلّا باعتباره إنذارًا له بأنّ وفّر عليك مُحاولات التنكّر لهويّتك الأولى لأنّ رينا ستظلّ تُذكِّرك بها، وطالما أنّها تفعل ذلك، فهي تؤكّد لك أيضًا بأنّ هويّتك الجديدة ليست إلّا منفاك، وهو ما يُفسِّر رغبته في الابتعاد عنها للعيش مع عشيقته التي ستختفي فجأة دون أن تترك خلفها أي أثر، باستثناء جنسيتها التي أخفتها عنه: الأفغانيّة.

وإذا كان اختلاف المكان هو ما يفصل بين حكايتَي رواية "حب في المنفى"، فإنّ المصير المُشترك للبطلين يجعل منهما تفريعتين لحكاية واحدة

إنّ المكان الذي وصل إليه توم حينما اكتشف جنسيّة عشيقته هو المكان الذي حاول مُقاطعته من خلالها، الأمر الذي جعل من صدام الهويّات الذي يعيشهُ محسومًا تمامًا لصالحة هويّته الأفغانيّة، بل ويُمكن القول أيضًا إنّ نتيجته كانت محسومة منذ البداية، ولكنّه كان رافضًا لها، ويسعى إلى الالتفاف عليها كلّما أعاده الآخرون إليها، لا سيما زوجته ووالدته وشقيقته التي وضعته، ساخرةً من وضعه، أمام حقيقته بقولها: "لست إذًا سوى أفغانيّ محشوٍّ بالقش"، حينما أخبرها أنّ كلمة "Naturaliser" التي تعني اكتساب مواطن من بلدٍ جنسية بلدٍ آخر، لها معنىً ثاني هو إكساب حيوان ميّت مظهر الحيّ عبر تحنيطه أو حشوّه بالقشّ!

اقرأ/ي أيضًا: 6 تجارب روائية.. الهامش والتاريخ والفرد وهمومه الصغيرة

لا يبدو حال يوسف أفضل من حال توم، بل إنّ اغترابه عن نفسه ومُحيطه يبدو أشدّ من اغتراب الأخير الذي تُعيده زوجته باستمرار إلى هويّته الأفغانيّة، بينما تُعيد شيرين يوسف إلى حالته النفسيّة الناتجة عن جهله بنفسه، تدفعهُ إليها كلّما ازدادت رغبته بها وفشل في الوصول إليها، الأمر الذي يجعل منها انعكاسًا لشخصيه، إذ إنّ جهله بها لا يعدو كونهُ انعكاسًا لجهله بنفسه، وفشله في الوصول إليها، رغم أنّها لن تردّه لاعتباراتٍ عديدة، ليس إلّا تعبيرًا عن فشله في الوصول إلى نفسه أيضًا، والنتيجة أنّ اغترابه هذا يدفعهُ لتحديد مشكلته بعدم فهم الآخرين لهُ، وهذه المشكلة تحديدًا تُعيده إلى نقطة البداية كلّما ابتعد عنها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

إريك ماريا ريمارك: خذ عشرين سنة من حياتي أيها الزميل وقم

رواية "استسلام".. جورج أورويل إسبانيًّا