21-سبتمبر-2020

بورخيس (دراسة بالحبر - reddit)

خورخي لويس بورخيس نكتبُ الاسم ونصغي إلى جرس الكلمات شبه الأسطوريّ. ثم نتخيّل عجوزًا أعمى في شقّته في بيونس آيرس، بطقمٍ رسميّ وربطة عنقٍ صفراء. بعد ذلك نتردّد، أيّ صفة نضعُ أولًا: أحد كبار كتّاب العالم، أم أحد كبار قرّائه؟ هل يكفي أن يعجبَ إنسان باللغة الألمانية، أن يقرأ نيتشه وهاينه وشوبنهاور، أن يُطلق على والت وايتمان "أستاذي"، أن يترجم "الأمير السعيد" لأوسكار وايلد في التاسعة من عمره، ثم ينقل راشدًا أعمال هنري ميشو وفرانز كافكا وفيرجينيا وولف إلى الإسبانية؟ هل يكفي أن يعلّق حول شباب كيبلينغ، وتعقيد غونغورا، وموسيقى فيرلين الداخلية، وشخصية ستيفنسون السوية... أن يبكي لأفلام الويسترن والملاحم، ويُسحر بكتاب " ألف ليلة وليلة "، أن يبعث المسوخ من عصورها وأماكنها المختلفة لأنها "ضرورية وليست عابرة للوجود"، أن يخترع شخصيّة الكاتب بوستس دوميك الوهمية، أن ينال أرفع الأوسمة العالمية ويتزوّج ماريا كوداما على فراش الموت، أن يحتقر السّياسة ويخاف المرايا والمتاهات ويندم لأنّه لم يولد نمرًا؟

من العبث البحث عن مسألة الأصالة في أدب بورخيس، أي البحث عن حدود فاصلة بين الكاتب والقارئ!

هل يكفي ذلك كله ليصبح خورخي لويس بورخيس؟ بالطبع لا. ليس السرّ في "سخرية الخالق" الّذي وهبه "الكتب والظلام" كما وهب المعرّي قبله، بل تحديدًا في نوعيّة قراءاته، إذ ينقل ألبرتو مانغويل أن محتويات الكتب حين تتلى عليه، كانت تستحيل في ظنّ العجوز الغريب الأطوار كائنات عجيبة تختلق هي مؤلفيها.

اقرأ/ي أبضًا: بورخيس وفلسفة اللغة في "مكتبة بابل"

كان "أبو الهول" الأرجنتيني مقيمًا في فندق "لوتيل" الباريسي الشهير، معقل دعاة التأنّق، صحبة رفيقته وزوجته في ما بعد، ماريا كوداما، حين التقاه الصحافي رامونشاو من "لوموند ديبلوماتيك". يومذاك اقترح على محاوره استخدام بعض تعابير الشكّ في بداية المقابلة، مثل: "من الممكن"، "على الأرجح"، "ليس مستحيلًا أن"... على أن يضعها القارئ حيث يجدها مناسبة في النّص، شارحًا ذلك بأنه عندما يجزم في أمر ما بسبب الخجل، يكون في صدد اقتراح مجرّد احتمال. مجرد الاحتمال هذا يحيلنا على الظن أن من العبث البحث عن مسألة الأصالة في أدب بورخيس، أي البحث عن حدود فاصلة بين الكاتب والقارئ.

هذا ما يثيره بسام حجّار في ترجمته لـ"كتاب المخلوقات الوهمية" من تأليف بورخيس ومرغريتا غيّريو (المركز الثقافي العربي)، معتبرًا أن بورخيس لم يكن يأبه لأي ثابت لمؤلفاته، ويصرّ في المقابل على إثبات ثبت (بالغ الدقة) لقراءاته الموسوعية، ناقلًا عن أمبرتو إيكو وصفه للكاتب بأنه "قارئ قرأ كل شيء، لا بل ما يتعدى الكل شيء، لأنه أتى على ذكر قراءات مستحيلة لمجرّد كونها، قراءات لكتب ومصنّفات ومعاجم غير موجودة أصلًا، غير أنّ انعدام وجودها، الذي هو شرط من شروط وجودها، لا يقلّل من أهميتها البالغة". جدليّة الكاتب والقارئ هذه نجدها أيضًا في "امتزاج" بورخيس مع صديقه بيوي كاسارس، مُنتجَين كاتبًا ثالثًا هو بوستس دوميك، صاحب "ستة ألغاز لإيزيدرو بارودي" الصادر عام 1942، وسواه، والذي يمكن أن يكون كاتبه الحقيقي مونتينيغرو، إحدى شخصياته وواضع مقدّمته، والنتيجة: بورخيس وكاسارس مجرّد قارئين. إنها لمتاهة تلك التي يدخلنا فيها الكاتب الأرجنتيني على الرغم من خوفه الشخصي من المتاهات التي اكتشفها في طفولته المبكرة، من خلال محفورة على النحاس تمثّل عجائب الدنيا السبع: كانت توحي إليه خشيته من "منزل من دون أبواب " وفي وسطه مسخ ينتظره. لكن المسخ لم ينتظره في المنزل، بل والدته الدونا ليونور، التي لازمته طويلًا، وأعدّته منذ الصغر ليصبح كاتبًا، وأصبحت "يده"، بعدما كانت "يد" والده الأعمى أيضًا. كان سلوك هذه الأم هو سلوك المحتضنة والحامية، حتى أنها أخطأت في إحدى المقابلات معها قائلة: "لقد كنت عشيقة زوجي، وها إني عشيقة ابني". وقد نسب إليها بورخيس في سيرته ترجمة أعمال ملفيل، وفرجينيا وولف، وفوكنر، للمرة الأولى إلى الإسبانية، بعدما نُسبت إليه الترجمة خطأً.

تنويعات على الملحمة

على أيّة حال، لعبت هذه الأم دورًا مهمًا في إغناء ثقافة ابنها الأوروبية، منذ ترجمة كتاب "الأمير السعيد" لأوسكار وايلد وهو في التاسعة من عمره، حتى انتقال العائلة في فترات متقطّعة للعيش في أوروبا، من جنيف إلى لوغانو إلى إسبانيا إلى فرنسا وإنجلترا، مما سمح للابن بتعلّم اللغات الألمانية والإنجليزية والفرنسية واللاتينية، إلى جانب الإسبانية، وقراءة كبار كتّاب العالم.

قال إيكو عن بورخيس: "قارئ قرأ كل شيء، لا بل ما يتعدى الكل شيء، لأنه أتى على ذكر قراءات مستحيلة لمجرّد كونها، قراءات لكتب ومصنّفات ومعاجم غير موجودة أصلًا"

بورخيس المولود عام 1899، في منزل جده لأبيه في بيونس آيرس، يتحدّر من عائلة عسكريين. مات جدّه الجنرال بورخيس في 1874، خلال معركة ضد الهنود، بعدما قُضي على قواته وبقي وحده ممتطيًا حصانه الأبيض ومتقدّمًا نحو العدو الذي درزه بالرّصاص. لذلك ربما، آثر الكاتب الملحمة على سواها من الأنواع الأدبية، بالرغم من عدم إيمانه بفكرة النوع، معتبرًا إياها أقدم أشكال الشعر، مُرجعًا الإنتاج الأدبي العالمي كلّه إلى مصادر ثلاثة: الإلياذة، وألف ليلة وليلة (النسخة العربية من الأوديسة)، والأناجيل الأربعة. يرى بورخيس أن هذه القصص الثلاث كانت كافية للبشرية طوال قرون عديدة، واكتفى الناس بالتنويعات الجديدة التي تضاف إليها، أو "التنويعات الحاذقة". ويشير إلى الفرق بين الرواية والملحمة، فالمهم في الملحمة هو البطل: الإنسان - النمط للبشر جميعًا، بينما تستند معظم الروايات، على ما يقول مينكين، إلى إخفاق إنسان، أو إلى انحطاط الشخصية وتردّيها.

اقرأ/ي أبضًا: لم كان بورخيس يكره كرة القدم؟

لذا ابتعد بورخيس في كل إنتاجه الأدبي عن الروايات، عامدًا إلى سرد القصص، لأن "البشر لا يتعبون من سماع القصص، وتردادها"، وإذ أشار في ملاحظة حاذقة إلى عيش البشرية حربين عالميتين من دون أن تنبثق منهما ملحمة، وصف الأخيرة بالحاجة الملحّة للبشر، ملاحظًا أن هوليوود (من بين الأمكنة كلّها، وإن أدى الأمر إلى نوع من الانحدار) أمدّت العلم بأكبر قدر من الملحمية.

بورخيس في منزله في بيونس آيرس عام 1983 (Getty)

هكذا، بكى في ختام أفلام الويسترن والعصابات، ولاسيما فيلم "ملائكة بوجوه قذرة"، ولدى قراءة فقرات بعينها من أعمال الكاتب الأرجنتيني المنسي مانويل بايرو تتحدّث عن الحيّ الذي ولد فيه بورخيس، من دون أن يعني ذلك تمسّكه بوطنيته، فقد قال يومًا: "أن تكون أرجنتينيًا فهذا فعل إيمان"، معتبرًا الوطن مجموعة من الأصدقاء، صحبتهم تجعل هذا المكان أو ذاك وطنًا. وإذا كان بورخيس قد اشتهر كرمز للمقاومة ضد خوان بيرون، فقد عُرف أيضًا بتسامحه مع الخصوم (مصافحته فيديلا وبينوشيه ثم اعتذاره عن ذلك لاحقًا)، معرّفًا السياسة بـ"النشاط الإنساني الأكثر حقارة"، لذلك لم يلتزم سياسيًا، وإن كان انتقد "اختفاء" بعض الناس خلال حقبة حكم العسكريين في بلاده. أخذ بورخيس على الشيوعية دعوتها إلى سيطرة الدولة على الفرد، ووصف نفسه بالكاتب المحافظ، على الرغم من اعتباره فكرة الحدود والأمم تافهة.

بورخيس، الرافض الانغماس في وحول الحاضر، غاص في عالم الكتب حتى الثمالة، إلى درجة تخيّله الفردوس على هيئة مكتبة ضخمة، لكن حجم مكتبته الخاصة كان "محبطًا بعض الشيء"، بحسب تعبير ألبرتو مانغويل، فقد احتلت الكتب بعض الزوايا الخجولة في شقته، وهذا عائد إلى أن تلك الكتب احتوت زبدة قراءات بورخيس، الذي احتفظ في غرفة نومه بكتب الشعر، وإحدى أهم مجموعات الأدب الأنغلوسكسوني والإيسلندي التي يمكن العثور عليها في أميركا اللاتينية كلها.

 كما واظب على شراء المعاجم المختلفة والنادرة التي تعلّق فيها منذ طفولته. وبشكل عام، عكست مكتبته سيرته الذاتية، والصدفة، فقد كان قارئًا "متَعيًا" يتشرّب ما يقرأه، ويحفظ مؤلفاته الخاصة عن ظهر قلب، على الرغم من تذرّعه بضعف ذاكرته. تميّزت علاقته بالكتب بخصوصية شديدة، إذ يكفي أن يمرّ يديه على حوافها ليميّز الكتب التي لم يسبق له أن فتحها. هذه العلاقة الفيزيولوجية المستحيلة ترجع إلى مفهوم الكتابة والقراءة السّالف ذكره، فهو لم يعتبر نفسه يومًا صديقًا للكتّاب الذين التقاهم، بقدر ما اعتبر نفسه قارئًا لهم.

أعاد بورخيس الإنتاج الأدبي العالمي كلّه إلى مصادر ثلاثة: الإلياذة، ألف ليلة وليلة، الأناجيل الأربعة

بحسب بورخيس، فإن كل كتاب يتضمّن وعدًا بجميع الكتب الأخرى، لأنّ كل نصّ مركّب من أحرف الأبجدية المعدودة، لذلك فإن مركّبًا لانهائيًا من هذه الأحرف يمكنه أن ينتج مكتبة مكتملة ومكوّنة من جميع الكتب الممكن تصوّرها قديمًا وراهنًا ومستقبلًا. هكذا طبّق بورخيس، على عالم الكتب، النظرية الكيميائية القائلة "لا شيء يضيع، لا شيء يزيد، كل شيء يتحوّل"، وإذا ضاع كتاب، فثمة دائمًا من سيعيد كتابته، طال الزمان أم قصر. لكن هذه النظرية - التعزية ظلّت قابلة للنقض، فقد كتب يومًا في "فن الشعر": "تعود بي الذاكرة إلى ذات أمسية في بيونس آيرس. أراها. أرى المصابيح. حتى تكاد يدي أن تلمس الرفوف. أعلم بالضبط أين أجد "ألف ليلة وليلة" لبورتن، و"غزو البيرو" لبرسكوت. غير أن المكتبة نفسها، ما عادت موجودة". قد تكون المكتبة اختفت حقًا، لكن "ألف ليلة وليلة" بقي في ذاكرة بورخيس: الكتاب الأم، وحكاية الحكايات.

اقرأ/ي أبضًا: في مكتبة بورخيس

علاقة بورخيس باللّغة لم تكن أقل شغفًا من علاقته بالكتب. هو المهتم بعلم السّلالات، بحث عن سلالات اللغة أيضًا، وجدّد فيها. نقل إلى الإسبانية محاسن اللغات الأخرى التي أجادها، من حيث الصّوغ والاختزال، التي لم يكرهها كما أشيع عنه، وكرّمته بجائزة ثرفانتس للآداب، كما اعترف بفضله كبار كتّابها مثل غابرييل غارثيا ماركيز، وكارلوس فوينتس.

بورخيس ووالدته، لندن (1963)

عام 1955، إثر سقوط نظام بيرون، حدث أمران أساسيان في حياة بورخيس: عيّن مديرًا للمكتبة الوطنية في بيونس آيرس، وأصيب بالعمى: "ثمة 200 ألف كتاب في متناول يدي من دون أن أتمكّن من قراءتها". منذ ذلك التاريخ استعان بورخيس بقرّاء كثر، رافقوه في مختلف مراحل حياته، من دون أن يعرف واحدهم الآخر، أبرزهم والدته الدونا ليونور، التي حرصت دائمًا على تزيين المنزل بورود صفراء، لأن اللون الأصفر هو الوحيد لم يغادر ابنها، الذي وصف نفسه يومًا بـ"الأعمى المحروم من الظلمة"، لأنه خسر اللون الأسود، ووجد نفسه غارقًا في سديم مائل إلى الأخضر أو الأزرق.

الرجل الذي كتب يومًا: "الأبدية تتربّص بي"، خاف بشكل خاص من المرايا خشية أن تعكس يومًا، وجهًا ليس وجهه، أو ألّا تعكس له وجهًا على الإطلاق. قد تحبس المرايا الحيوانات، وقد تعكس وجوهًا أخرى، لكن هل في وسع المرايا الخائنة أن تُسقط صورة نمر أرجنتيني بربطة عنق صفراء؟

 

اقرأ/ي أبضًا:

بورخيس في المتنبي

كيف يفكّر ثلاثة من أبرز أدباء أمريكا اللاتينية؟