25-مايو-2023
لوحة لـ روبرتو بارادا/ أمريكا

لوحة لـ روبرتو بارادا/ أمريكا

يشغل الضحايا، في ظروف التمييز العصيبة، سؤالٌ بريء هو: لماذا هناك عنصرية؟ في حين أن استكشاف نقاط التلاقي أو البؤر المركزية في المواضيع والقضايا الكبيرة، كالعنصرية، يجعلها أكثر قربًا إلى الاستيعاب رغم ما تدعيه من غموض وتعقيد. والعثور على تلك النقطة، أو البؤرة، سيجعلنا نسأل السؤال بشكل أقلّ براءة: كيف تولد العنصرية؟

أصبح هذا السؤال ملحًّا بعدما صارت العنصرية والفاشية والاستعلاء من الشؤون العادية، التي تتساوى في ممارستها بلدان مختلفة إلى درجة استحالة الوقوف في وجهها لأنّ الذين ينادون بها يمتلكون شرعية دستورية، هي قوة الانتخاب، فإما يُغرون السياسيين لقيادة حملات العنصرية والتمييز القذرة، أو أن يجد السياسيون العنصريون في حالة اللجوء ذريعةً لاكتساح المشهد وجذب الجمهور.

السلوكيات اليومية التي لا تقيم وزنًا لاعتبارات الحياة على هذا الكوكب، ولا تربط بين الأفعال والنتائج على الآخرين والمحيط الحيوي، والتي لا تجد أي رابط، أو تنكر الربط أصلًا، بين الرفاهية التي يعيشونها وبين استغلال العمّال ودمار البيئة.. تنطلق من نرجسية

ورغم تعدد الإجابات والتصورات الاجتماعية والسياسية حول مسائل العنصرية والتعصب القومي والعرقي والفاشية، إلا أن هناك نقطة بالغة الأهمية لا يمكن إغفالها، وهي أن الأمر مرتبط بشكل ما بالنزعة الفردية النرجسية التي تعززت في عصر المنصات والتواصل الرقمي، منذ باتت الذات محور الوجود.

والفكرة الأشد وضوحًا في العقدة النرجسية هي اللامبالاة بالآخر إلا بوصفه معجبًا أو تابعًا، أي عدم إقامة أي اعتبار لألمه ومعاناته. ولا يعود السبب هنا إلى أن النرجسيين يرونها بلا قيمة، إنما لأنّ معاناة الآخرين كلها لا وجود لها أبدًا في حساباتهم. فالعالم يدور حول متعتهم فقط، دون أي تفكير بأثر أي سلوك يقومون به على من أو ما حولهم. يواصلون الاستعراضات الاستعلائية التي تصر على إظهار الغنى والرفاه الذي يعيشونه، حتى لو كذبًا وزورًا، دون أن يخطر لهم أن السيارات التي يروجون لها عدو مبين للبيئة، أو أن يفكر أحدهم بأنّ الملابس التي يُكثر من تغييرها مزّقت أجساد عمال فقراء محرومين من أدنى الحقوق كي يصنعوا له قطعةً لن يلبسها مرتين.

السلوكيات اليومية التي لا تقيم وزنًا لاعتبارات الحياة على هذا الكوكب، ولا تربط بين الأفعال والنتائج على الآخرين والمحيط الحيوي، والتي لا تجد أي رابط، أو تنكر الربط أصلًا، بين الرفاهية التي يعيشونها وبين استغلال العمّال وتلوث البيئة وتوحش النظام الرأسمالي؛ هذه السلوكيات تنطلق من نرجسية تكمن في أصلها وفصلها في التركيز المفرط على الذات، والشعور الكبير بأهميتها. وقد ساهمت المنصات بتسهيل مهرجانات الاستعراض الذاتي هذه، التي قادتنا إلى مفاقمة وتضخيم السمات النرجسية، مع سعي الجميع إلى خلق نسخ مثالية لأنفسهم، تقوم على المكانة الرفيعة والصحة والجمال بما يُسيل لعاب الإعجاب من الآخرين.

ولطالما ارتبط الشعور النرجسي بالعنف، إذ يتوق النرجسيون إلى معاملة خاصة وتقدير من الآخرين. وعندما لا تُلبى هذه التوقعات، أي عندما تتعرض صورتهم الذاتية الفريدة للتهديد، يُظهرون الغضب أو العدوانية بأشكال مختلفة، من المستوى اللفظي إلى العنف الجسدي، في الحالات القصوى طبعًا.

وباء الفاشية المنتشر في عالمنا من تركيا ولبنان إلى ألمانيا وفرنسا.. وغيرها، بدأ أولَ الأمر في الحيز الشخصي. وحين اتسعت الدائرة قليلًا حدث تغيير بسيط، الذات الفردية التي تطالب بالإعجاب والتقدير عادةً، صارت ذاتًا جماعية وراحت تسعى إلى الهيمنة.

وما كان لكل هذا أن يتطور لولا سيادة النزعة النرجسية في الحياة اليومية، التي راح الإنسان المعاصر يحولها إلى مزايا، ثم نقلها مع اللقاء بالمشابهين له إلى مستوى الجريمة الأخلاقية.

ربما ليس كل النرجسيين بعنصريين أو فاشيين، لكننا لا نستطيع التغافل عن الروابط والتداخلات بين الأمرين، كونها تساهم في رؤية ذاتية تُعطي الأولوية للمصالح الشخصية وتُعزز الشعور بالتفوق، وبالطبع سيؤدي كل هذا التمركز حول الذات إلى التقليل من قيمة الآخرين، وعدم الاكتراث بألمهم، بل سيُنظر إليهم على أنهم من مرتبة أدنى. وفي هذا السياق، تساهم النرجسية في تطوير وتعزيز المواقف الاستعلائية والسلوكيات التمييزية، وتقودها إلى مستوى الجريمة ضد الإنسانية، كما يحدث في فلسطين حاليًّا.

يتحدث الخبراء النفسيون والاجتماعيون عن انجذاب النرجسيين إلى الأيديولوجيات الفاشية بسبب الوعد بالسلطة والهيمنة والهوية الموحّدة المتجانسة التي تتوافق مع صورتهم الذاتية العظيمة

صحيح أن العنصرية نظام عقائديّ أو أيديولوجية تؤكد تفوق مجموعة على غيرها، وأن النرجسية وحدها لا تؤدي بالضرورة إلى العنصرية، لكنّ الصحيح أيضًا أن الأفراد النرجسيين أكثر عرضة لتبني أو إدامة المعتقدات العنصرية، بسبب حاجتهم إلى التفوق، وبسبب رغبتهم الدائمة للتحقق من تقديرهم لذواتهم. وهنا يتماشى الشعور بالاستحقاق والرغبة في الحفاظ على موقع مهيمن مُتخيّل مع العنصرية، التي تبرر اضطهاد أو تهميش مجموعات بشرية أخرى.

وبالمثل أيضًا، يمكن للنرجسية أن تتقاطع مع الفاشية، والخبراء النفسيون والاجتماعيون يتحدثون عن انجذاب النرجسيين إلى الأيديولوجيات الفاشية بسبب الوعد بالسلطة والهيمنة والهوية الموحّدة المتجانسة التي تتوافق مع صورتهم الذاتية العظيمة. ولا ننسى أن الأنظمة الفاشية، تاريخيًّا، استخدمت العنصرية وكره الأجانب أدواتٍ لتوطيد سلطتها وتعزيز الشعور بالنقاء القومي أو العرقي، واستغلال التحيزات الموجودة وإذكاء الانقسامات داخل المجتمع.

يتطلب فهم هذه الروابط تحليلًا أوسع وأكثر شمولًا من هذا، من أجل التنبه إلى مخاطر النرجسية السامة على المستويين الفردي والعام، ومن أجل السعي المستمر نحو مجتمع أكثر رحمة.