25-مايو-2023
لوحة لـ محيي الدين اللباد/ مصر

لوحة لـ محيي الدين اللباد/ مصر

أعيش، كل يوم، بضع ساعات في الماضي. أمام قنوات التلفزيون التي تبث برامج أيام زمان، وعلى قنوات اليوتيوب المتخصصة في إثارة النوستالجيا، وفي أرشيف الصحف والمجلات حيث الصحفيون الراحلون يخاطبون الجمهور الراحل في شؤون تفصيلية عابرة تبين أنها أبدية، وفي قضايا كبرى خالدة تبين أنها صغيرة وزائلة..

لا أعرف بالضبط جميع دوافعي التي تقف وراء هذا الشغف، ومع ذلك أستطيع أن أتفلسف قليلًا في هذا الصدد، كما أستطيع استعارة أجوبة وجيهة من آخرين.. ولكن ما يعنيني هنا هو دافع واحد أعرفه جيدًا، وإن كنت أعجز عن إيجاد جدوى ما من الانصياع له. فلطالما أثار فضولي أن أقرأ ما تنبأ به السابقون عن المستقبل، وبما أنني واحد من أبناء مستقبلهم، فبإمكاني مقارنة ما قالوه مع ما تحقق بالفعل، وغالبًا، إن لم يكن دائمًا، تحمل المقارنة الكثير من المفارقات الساخرة.

لطالما أثار فضولي أن أقرأ ما تنبأ به السابقون عن المستقبل، وبما أنني واحد من أبناء مستقبلهم، فبإمكاني مقارنة ما قالوه مع ما تحقق بالفعل، وغالبًا، إن لم يكن دائمًا، تحمل المقارنة الكثير من المفارقات الساخرة

والأهم من السخرية هو الشعور بالدهشة، ما يلخصه سؤال: لماذا يُخيّب الغد، على الدوام، تنبؤات اليوم؟ ورغم التقدم العلمي والتكنولوجي، ورغم تكاثر مراكز البحث والرصد وتطور أدواتها.. لماذا تبقى البشرية مصابة بنقطة عمى إزاء مستقبلها؟

في جعبة المؤرخين كثير من الحكايات الطريفة حول ذلك: عقول كبيرة كانت، قبل بضعة أشهر من الحرب العظمى، تتنبأ باستمرار حقبة السلام العالمية المديدة، ومفكرون استراتيجيون كثر في مراكز أبحاث كبرى أكدوا على ضرورة "الاستعداد لفترة طويلة من التعايش مع الاتحاد السوفييتي"، وذلك قبل سنوات قليلة من انهياره. وعشية كل أزمة اقتصادية عالمية يكون الاقتصاديون البارعون الموثوقون قد أعلنوا، بكثير من الطمأنينة، أن "العالم متجه إلى مزيد من الرخاء" وأن "لا ملامح أزمة تلوح في الأفق"..

وفقط عندما يتمخض الغد عن أحداثه نصبح أذكياء فننطلق، بكل أريحية، في التفسير والتحليل، وفجأة يغدو الحدث منطقيًا للغاية، مسببًا ومعللًا ومرتبطًا بسلسلة محكمة من تلك المقدمات التي تؤدي حتمًا إلى هذه النتائج!.

في الأسباب، أسباب عمانا إزاء مستقبلنا، هناك تلك الغشاوة السميكة التي تصنعها انحيازاتنا وأهواؤنا ورغباتنا، وكذلك هناك عشوائية الواقع والحجم الكبير لـ"اللا متوقع" في طياته، إذ يتشابك الكثير من العناصر والمعطيات، الأساسي منها والثانوي، المرئي وغير المرئي، الملموس والخفي..

غير أني سأعود إلى أرشيفي:

في عدد مجلة الهلال، الصادر في يناير / كانون الثاني 1959، ملف عن العالم العربي في سنة 2000، وفيه تسابق عدد من كبار كتاب وصحفيي ذلك الزمان على اجتراح توقعات مثيرة تليق بهذا العام البعيد المهيب.

كتب عباس محمود العقاد أن أدبنا العربي سيغدو عالميًا في العام 2000، وكعادته كان العقاد بارعًا في محاججته، ولعل هذه البراعة قد أجدت في إقناع معاصريه، ولكي ينجح هؤلاء في التخلص من أسر المنطق الحديدي للكاتب الكبير كان يلزمهم أمر واحد: أن يدركوا العام 2000.

وأسهب محمد متولي في تصوير الخضرة التي ستحيط بنا (بهم) وفصّل كيف "سنزرع الصحاري ويزداد العمران..".

أما عبد المنعم مصطفى، الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية آنذاك، فقد تحدث عن مستقبل الجامعة والتي ستصل في العام 2000 إلى التلاشي التام، فما حاجة العالم العربي إليها وقد صار دولة واحدة تحت اسم "الولايات العربية المتحدة"؟!

ـوثمة كاتب، هو حبيب جاماتي، تخيل سائحًا أمريكيًا اسمه ويللي جراهام زار برفقة خطيبته بلاد العرب سنة 2000 وانبهر تمامًا بما رأى، وجاماتي نفسه كان لينبهر بما سيرى لو عاش إلى مطلع الألفية!

وكتب متخصص في الشؤون العسكرية أن الجيوش العربية ستصبح جيشًا واحدًا، وكتب آخر أن أسطول العرب سيسيطر على البحر وجوفه وجوه..

كتب متخصص في الشؤون العسكرية أن الجيوش العربية ستصبح جيشًا واحدًا، وكتب آخر أن أسطول العرب سيسيطر على البحر وجوفه وجوه..

 

وماذا عن الصحافة العربية سنة 2000؟

أبدع محرر المقال بتصوير الازدهار العظيم الذي ستشهده الصحف العربية حيث سيصل معظمها إلى المئة صفحة، وستغدو صحيفة منها (على الأقل) واحدة من أهم خمس صحف في العالم. وسوف تستخدم كل الصحف والمجلات أحدث التقنيات للوصول إلى القارئ أنى كان..

من أين جاء هؤلاء بكل هذه الظنون الحسنة بنا؟ على كل حال يجب أن لا ننساق في السخرية منهم، فهم في النهاية كانوا أسرى زمانهم الذي أملى عليهم رؤيته وأفق توقعاته، مثلما نحن أيضًا أسرى زماننا وأفق توقعاته، وعلى الأغلب فإن حصيلة تنبؤاتنا بالمستقبل لن تكون أفضل مما جنوا..

وما الدرس الذي نخرج به من الأرشيف؟ ألا نغامر بالتكهن إزاء غدنا؟

لا بالطبع، فالفضول إزاء القادم هو شيء راسخ في الطبع البشري، والإنسان لا يعيش في الحاضر بقدر ما يعيش في الماضي وفي المستقبل..

ربما فقط علينا أن نكون حذرين ومتواضعين في تنبؤاتنا وتكهناتنا، فلا نبالغ في التفاؤل باليوتوبيا الموعودة، كما لا نبالغ في الهلع من الجحيم المتوقع.. ذلك أن المستقبل ليس، على الأرجح، تجسيدًا لأي منهما..