24-مايو-2023
مهدي عامل (تصميم ألترا صوت)

مهدي عامل (تصميم ألترا صوت)

تكتفي النصوص التي تُنشَر في ذكرى اغتيال حسن حمدان الملقب بـ مهدي عامل (مفكر ماركسي لبناني عربي، يتحدّر من قرية حاروف جنوب لبنان، ولد في بيروت عام 1936 وتم اغتياله في 18 أيار/مايو من عام 1987) بالبكائيات، أو بالكاد، أو تنحصر في نصوص تتمحور حول إعادة تدوير ما كتبه في مشروعه، أو ما قاله في محاضراته، أو ما دعّم مقارباته به. بما يُظهر، وإن من دون قصد، أنها محاولات تمعن في استكمال موت مهدي عامل. أو لربما هو مجرد تأكيد جديد على أن الفكر يموت حين يظل قابعًا هناك دون أية حركة، دون أية دينامية، بانتظار العودة مرة كل مدة زمنية محددة إليه، سواء أكانت عودة مرتبطة بذكرى الاغتيال أو بتاريخ الولادة. أو لعله مجرد تأكيد على أن الفكر يموت حين يكون عصيًا على إمكانية إعادة القراءة وإعادة الإنتاج، كأن تكون الشروط التاريخية التي انتجته قد تغيّرت تمامًا، أو قد ذهبت إلى غير رجعة.

إن كان هناك ما يمكن أن يشكّل بداية مغايرة في مقاربة نصوص مهدي عامل المختلفة، سواء في مدار الفلسفة، أو الثقافة، أو السياسة.. إلخ، فيمكن أن تنطلق من مجال اشتغال واهتمام مهدي عامل بمقولة الاختلاف

إن كان هناك ما يمكن أن يشكّل بداية مغايرة في مقاربة نصوص مهدي عامل المختلفة، سواء في مدار الفلسفة، أو الثقافة، أو السياسة.. إلخ، فيمكن أن تنطلق من مجال اشتغال واهتمام مهدي عامل بمقولة الاختلاف. بالأحرى، يمكن أن تنطلق أي قراءة تروم المختلف في فكر مهدي عامل، من تفكير الاختلاف والمختلف عنده، خصوصًا حين أعاد صياغة السؤال الذي هيمن على محور التفكير العربي منذ بدايات القرن التاسع عشر، وحين قاربه بشكل مغاير، وأعني هنا مقاربة مختلفة لسؤال التقدم في الدول الرأسمالية، وربطه بسؤال التخلف في دولنا التي كانت في طور النمو الرأسمالي. ففي جزئية من كتاباته، كتب مهدي عامل في زمانه: "الموت في التماثل، الاختلاف حياة الزمن"، كنتيجة وخلاصة وجيزة، لكن حاسمة، لمشروع مختلف ودينامي حاول أن يخطّه في مقولة مشابهة، بتكثيف استثنائي، وبأقل قدر ممكن من الكلمات.

إلا أن المشكلة هي أن المقولة أعلاه بقيت جملة أدبية ولم ترتق إلى مستوى منهجي يفترض أن يتلمّسها من حاولوا لاحقًا، ولا نعني كلهم، أن يعلّقوا عليها، أو أن يستذكروا مهدي عامل في 18 أيار/مايو من كل عام انطلاقًا منها. معظم هذه المقاربات لم تبقِ مهدي عامل في ميدان المراوحة فحسب، ولم تقوض مفهوم الاختلاف في نصّه فقط، بل لم تختلف عن منطق التماثل نفسه الذي رفضه هو، لم تقوّض منطق المراوحة، ولم تعمل إلا على إبقاء التماثل بكل أشكاله الممكنة. إن لم يكن التماثل مع الخارج والتماهي مع المسيطر والمهيمن في منطق السيطرة والهيمنة العالمي، فحتمًا التماثل مع من يسيطر في نظام السيطرة الطبقي والطائفي المحلي، والتماهي معه ومع منطقه ولغته وايديولوجيّته ومقارباته.

لقد أحال هؤلاء الكتّاب منطق مهدي عامل إلى مجرد منطق تماثلي، من كل حدب وصوب، حتى في أكثر النسخات تقدمًا في اختلافياتها. تماثل لا يستتبع إلا إسقاطًا ومقايسة، كيفما اتفق، سواء قياس مكانين مختلفين على بعضهما البعض، أو قياس زمانين متنافرين، أو قياس نمطين مختلفين لا يجمع بينهما أي شيء بعد هذه العُجالة الثورية على المستويات التقنية والمعرفية والسياسية والإنتاجية بالتالي.

إن محاولة القياس التي تجري اليوم، أي قياس البارحة على اليوم، ليست مجرد إسقاط بقدر ما هي إحالة إلى البلاهة، مجرد مصادرة واستسلام لما هو روتيني ومعروف مسبقًا، خصوصًا عند قياس بنيتين مختلفتين تمامًا عن بعضهما. كأن يقيس الباحث السياسة في ظل الواحدية القطبية اليوم، على السياسة في ظل الثنائية القطبية التي كانت سائدة في السابق، أي في زمن آخر هو بالتحديد زمن مهدي عامل.

كل هذه تحيل أي استذكار لمهدي عامل إلى ما يشبه الجنازة، أو إمعان في الوضع تحت التراب والدفن. جنازةٌ إن لم يكن لدفن الجسد، فحتما لدفن الروح، وللقضاء على ما تبقى من استثناء وإبداع. للقضاء على ما تبقى من تأصيل فكري ومعرفي واجتماعي لا بد منه إذا ما أردنا أن نستذكر مهدي عامل بشكل وطابع غير تنميطيّ، بشكل عاملي نقدي (نسبة إلى مشروع مهدي عامل)، وأن ننشط على مستوى البحث المعرفي العلمي والمستقبلي والاستشرافي.

لهذا السبب بالتحديد قامت "الفاشية الشيعية" الصاعدة يومها باغتيال مهدي عامل، وقبله حسين مروة، وما بينهما وقبلهما، وما تلاهما من اغتيالات طالت القيادات اليسارية عمومًا، والشيوعية المتحدرة من أصول شيعية خصوصًا. لقد اغتالتهم بهدف إرساء منطق المماثلة، وبغية الإمعان في الهيمنة وفرض التماهي، لتؤكد قدرتها على تحويل فكر الثورة من منطلقاته المادية الجدلية الإنسانوية والكونية في نص مهدي عامل، إلى منطلقات خمينية دينية خلاصية تحمل كل مفردات التقوقع المذهبي.

لم تنطلق قراءات مهدي عامل، ولم تصح يومًا أية مقاربة نقدية له، كما يزعم هو نفسه، إن لم تكن من موقع، أي موقع، لكنه موقع مختلف، موقع آخر، موقع متباين، متعارض أو متناقض

لم تنطلق قراءات مهدي عامل، ولم تصح يومًا أية مقاربة نقدية له، كما يزعم هو نفسه، إن لم تكن من موقع، أي موقع، لكنه موقع مختلف، موقع آخر، موقع متباين، متعارض أو متناقض، موقع يطل على مهدي من منظور ومقاربة أخرى بعد كل هذه السنوات، وبعد كل ما مر من أحداث وشهداء وأزمات في هذه البقعة من العالم، وفي بقية بقاع الحروب المستعرة. لربما يكفي الراهن أن نطل بقراءة واقعية، انطلاقًا من الأحادية القطبية، ومن سقوط جدار برلين، ومن الكلام النقدي على كل الأيديولوجيّة التي كان مهدي عامل يحملها، ومن تخلٍ عن حديدية التنظيم وعن ثبات وجمود النظرية، فنطل من موقع النقد، من موقع مساءلة منطلقات وبديهيات مهدي عامل في نصه، وفي سياقه، وفي مسلّمات عصره.

لقد انتهى الزمن الذي كان مهدي عامل ينشط فيه، ويبدع بمفرداته ومقارباته وتسوياته، ونحن اليوم أمام عصر آخر مختلف تمامًا، عصر اللا- عصرية إن صح القول، عصر التبدّل، عصر رفض الأحزاب والتنظيمات والتخلي عن النظريات والأنساق المعرفية والفكرية الشاملة، عصر الصراع على ما تبقّى من جهاز اسمه الدولة، وعصر التخلّص من القوقعة باتجاه العالم الرحب وكل تمثّلات القرية الكونية. نحن اليوم قد أضحينا في مرحلة استحالة الركون إلى الخوف من مقاربة الأزمة، لأننا، وببساطة، نعيش في الأزمة بعد أن أضحت هي العصر.