22-مايو-2023
من كتاتيب فلسطين عام 1910

من كتاتيب فلسطين عام 1910

سألت كاتبًا ناشئًا عن سرّ إتقانه للّغة العربية ومعرفته بآدابها وحفظه لأشعارها، فأجابني مستغربًا من سؤالي: "أنا، يا أستاذ، درست في (اللّوح)"، قاصدًا أنه أخذ تعليمه الأساس في الكتّاب، فكان يخطّ سور القرآن وقصائد الشعر على اللّوح مستعملًا الصلصال والسماق، وأنه لم يعرف الورقة والحبر حتى انتقل إلى المدينة، ودخل المدرسة الحديثة كي يستكمل تكوينه. ما أثار استغرابي هو ربطه إتقان اللغة وحفظ الأشعار بهذه الطريقة التقليدية في الكتابة، كأنما لو أنه تعلّم بالطرق الحديثة، ما كان ليبلغ ما بلغه، وكأن صعوبات التحصيل هي التي كانت وراء جودة ما حصّله.

كان تحصيل المعارف في الماضي مرتبطًا بقهر الصعوبات وتجاوز العراقيل وتخطي العقبات، ونهج الطرق الصعبة، وارتياد المسالك الوعرة، أما اليوم فالوضع مريح للغاية

لا أستطيع أن أقيس حالي على حاله، لأنني لا أتقن اللغة وحفظ الأشعار كما يفعل، ولأنني، بحكم توفّر المدارس الحديثة في المدينة، لم أقض في الكتّاب مدة طويلة. إلا أنّه قد ردّني، على رغم ذلك، إلى المفهوم الذي ترسَّخ عندي، وربما عند جيلي، عن تحصيل المعارف، وعن الفكر والثقافة. فأنا أيضًا ارتبطَت لديّ الدراسة دومًا بسبل يطبعها العسر، وببذل الجهد المُضْنِي والمكابدة. صحيح أنها لم تقتصر على استعمال اللوح، إلا أنّها لم تكن سهلة متيسرة. لذلك ظلّ تحصيل المعارف مرتبطًا عندي بقهر الصعوبات وتجاوز العراقيل وتخطي العقبات، ونهج الطرق الصعبة، وارتياد المسالك الوعرة: صعوبات التمكّن من الكتب الذي لم تكن تكفي نقرة على الحاسوب لإنزالها، ثم صعوبات التوفّر على أثمان تلك الكتب إن هي وجدت، وصعوبات العثور على كنوز التراث والاهتداء إلى أماكنها، وصعوبات الحصول على الترجمات "الأمينة" والتعرّف على أصحابها. هذا بطبيعة الحال، إن توفرت الترجمات، فما بالك حين لم نكن نستطيع الاطّلاع على المؤلفات إلا بالتّحايل على تهجّيها في لغاتها الأصلية. فضلًا عمّا كنا نعانيه في الفصل الدراسي من ندرة للمراجع، وعدم توفّر الكتب المدرسية التي تواكب برامج الدراسة التي لم تكن هي بدورها مقرّرات مخططة مضبوطة تخضع لمناهج تربوية مدروسة، بقدر ما كانت تجارب تُمتحن صلاحيتها في فصولنا، وتُختبر نجاعتها في "مخابرنا".

لكن كلّ هذا صار من قبيل الذكريات، فأنا اليوم أستعمل اللوحة الإلكترونية لتخزين الكتب، وهي تمكّنني من أن أحمل معي أنّى ارتحلت، رفوف مكتبة بكاملها. لقد صار التّحصيل أمرًا متيسّرًا وغدت الثقافة ثقافة مريحة. ألمس ذلك أنّى ومتى سعيت إلى النّهل من المعارف والاطّلاع على ما استجدّ، كما أدركه كلما حضرت ندوة أو استمعت الى محاضرة.  فقاعات المحاضرات والندوات جميعها لم تعد بالشكل الذي كانت عليه، وهي اليوم أقرب إلى "صالونات ثقافية" توفّر كل أسباب الراحة. فبدل الكراسي التي لم تكن تخلو من إتعاب، والتي كانت توضع حتى على المنصّة أمام طاولة تحاكي منضدة الفصل الدراسي حيث يجلس الأستاذ أمام طلبته جِلسةَ من يمتلك المعرفة، ومن يصدر عنه "خطاب الحقيقة"، بدل هذه الكراسي، أصبحت قاعات الندوات والمحاضرات اليوم توفّر للمحاضرين والمنتدين أرائك مريحة "يغرق" فيها المتحدّث في ارتخاء تام، فيخاطب جمهوره من غير أن "يعتلي" كرسيًا ليوجّه كلامه من أعلى المنبر، باذلًا كل مجهوده ليوصل خطابه ويُبلّغ رسالته، ويقنع جمهوره.

أعترف بأنني، كمتلقٍّ، أرتاح إلى هذا الوضع "المريح" الذي يجعل الثقافة متيسرة، في متناول الذهن والحواس جميعها. ومع ذلك، فقد يتعذر عليّ أن أقتنع من حين لآخر، بأن هذا الوضع هو أنسب الأوضاع للتحصيل، فهذه "المسْرحة" تبدو لي، في أغلب الأحيان، أقرب إلى "ثقافة الفرجة" (Spectacle) منها إلى ثقافة التّمحيص والسّؤال. لقد عشنا، لمدّة غير قصيرة، من غير أن نشعر أنّ المعارف "في متناولنا"، ومن غير أن ندرك أن مسلك الحقيقة طريق معبّدة، وأن التفكير أمر متيسّر، وأن الثقافة حديث صالونات. فلا عجب إذن ألا أتمكن من التخلّص من هذا الإحساس بالتنافي بين جِدِّية العمل الفكري وبين الارتخاء على الكنبات، بين اللّوح وصلصاله، وبين اللّوحة الإلكترونية التي تختزن كنوز المعرفة من غير أن تسهّل علينا، بالدّرجة نفسها، سبل الحفظ والاستذكار.