25-فبراير-2024
الفلسطينيون في غزة يحتشدون للمطالبة بحقوقهم في الغاز من الحقول البحرية في أيلول/سبتمبر 2022 (أ ف ب)

(AFP) فلسطينيون في غزة يطالبون بحقوقهم في الغاز من الحقول البحرية، أيلول/سبتمبر

عندما أعلن بنيامين نتنياهو، في صباح السابع من أكتوبر 2023، شنَّ الحرب على قطاع غزة ردًّا على عملية "طوفان الأقصى"، وضع لنفسه هدفين أساسيين؛ تحرير الرهائن الـ 240 الذين احتجزتهم الفصائل الفلسطينية، واجتثاث حركة حماس من القطاع كليًا، ليتطور الهدف الأخير لاحقًا إلى تقويض قدراتها العسكرية.

بعد مرور ما يزيد عن أربعة أشهر من الحرب، تبيّن أن تلك الأهداف، بعيدًا عن أنها بالغة العُليّ والتعقيد لدرجة تجعلها شبه مستحيلة التحقيق، لم تكن إلا غطاءً لأهداف أقل صراحةً وأكثر رسوخًا في المخيال الإسرائيلي، القضاء على أكبر عددٍ من الفلسطينيين في غزة وتحقيق حلم "الترانسفير" -أي التهجير نحو سيناء- الذي رافق الكثير من الساسة الإسرائيليين، لتمهيد العودة إلى غزة.

ومن جملة الأسباب التي تدفع إسرائيل لارتكاب جرائم الإبادة الجماعية للعودة إلى شريط الأرض الذي لا تتجاوز مساحته الـ 400 كيلومتر مربع، بين أطماح استعمارية استيطانية ونبوءات دينية، يقبع أقدم حقول الغاز في المتوسط تحت القطّاع، حيث تتربّع غزة على أكثر من 35 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي تضمن استقرارًا نسبيًا في مجال الطاقة للطرف المستفيد منها، ما يجعل الكثير من العيون تُنصب نحوها.

السيطرة على الموارد الفلسطينية هاجس دائم في إسرائيل

عندما نتحدث عن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، فإننا غالبًا ما نميل إلى التركيز على أبعاده السياسية والاجتماعية والإنسانية. وفي كثير من الأحيان، يأتي ذلك على حساب إغفال النظر في البعد الاقتصادي بالغ الأهمية، على اعتباره ليس أولوية عندما تُدمّر المدن ويموت الأطفال جوعًا، إلا أنه البعد الذي سلطت عليه الحرب الأخيرة في غزة الضوء بشكل صارخ.

عندما نتحدث عن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، فإننا غالبًا ما نميل إلى التركيز على أبعاده السياسية والاجتماعية والإنسانية. وفي كثير من الأحيان، يأتي ذلك على حساب إغفال النظر في البعد الاقتصادي بالغ الأهمية

ولعل الجانب الأكثر تدميرًا من الناحية المالية لأي احتلال عسكري هو الاستيلاء على الموارد الطبيعية. وإسرائيل ليست استثناءً بالطبع. ومن الواضح أن ذلك تجلى على شكل سيطرة إسرائيل على جزء كبير من الأراضي الصالحة للزراعة وإمدادات المياه في الضفة الغربية والقسم الشمالي من غزة (أو منع الفلسطينيين من الوصول إليها). بمعنى آخر، على الرغم من إنشاء السلطة الفلسطينية في التسعينيات، لم يكن للشعب الفلسطيني مطلقًا سيطرة حقيقية على موارده واقتصاده. وقد أدى هذا، بالإضافة إلى القيود الصارمة المفروضة على حركة الأشخاص والعمالة والبضائع، إلى إلحاق خسائر فادحة بالاقتصاد الفلسطيني.

لكن الأمر الأقل شهرة هو استيلاء إسرائيل على المخزونات الهائلة من النفط والغاز الطبيعي في الأراضي الفلسطينية. على سبيل المثال، يقع على حدودها مع الضفة الغربية أكبر حقل نفط بري في إسرائيل، والذي تقول إسرائيل إنه يقع غرب خط الهدنة لعام 1948، على الرغم من أن معظمه يقع تحت الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967.

ومع ذلك، فإن المعركة الأشرس في "حرب الطاقة" الإسرائيلية على فلسطين ليس في الضفة الغربية، بل في قطاع غزة. ففي عام 1999، اكتشفت مجموعة الغاز البريطانية (BGG) حقلًا كبيرًا للغاز على مسافة 17 إلى 21 ميلًا بحريًا قبالة سواحل غزة. وهذا ما وضعه ضمن حدود اتفاق أوسلو الثاني، الموقّع عام 1995، والذي أعطى السلطة الفلسطينية سيادة بحرية على مياهها حتى مسافة 20 ميلًا بحريًا من الساحل.

وبعد اكتشاف حقل الغاز، وقعت السلطة الفلسطينية عقدًا للتنقيب عن الغاز مع شركة BGG لمدة 25 عامًا، وفي عام 2000، قامت الشركة بحفر بئرين في الحقل، الذي قدرت كمية الغاز الطبيعي فيه بـ 1.4 تريليون قدم مكعب، أي ما يزيد حينها عن تلبية احتياجات الأراضي الفلسطينية من الطاقة، وتوليد تدفقات كبيرة من القطع الأجنبي من عائدات التصدير لرفد الاقتصاد الفلسطيني. أُعطيَ ذلك الحقل اسم "غزة مارين".

حينها، بدا الأمر كما لو أن الشعب الفلسطيني قد حصل أخيرًا على الذهب بعد رحلة طويلة كساها الحظ العاثر. وفي 27 أيلول/سبتمبر 2000، بعد إشعال الشعلة بشكل رمزي في منصة الاستكشاف البحرية التابعة لشركة BGG، أشاد ياسر عرفات، زعيم منظمة التحرير ورئيس السلطة الفلسطينية آنذاك، بالاكتشاف باعتبار الحقل "هبة من الله"، من شأنها أن "توفر أساسًا متينًا لاقتصادنا وللمجتمع الفلسطيني، بهدف إقامة دولة مستقلة".

لكن لم تسر الأمور تمامًا كما مُنّيَ عرفات وتأمل، فبعد تصريحه ذاك بيومين فقط، اندلعت الانتفاضة الثانية (التي تُعرف باسم انتفاضة الأقصى كذلك). وفي العام التالي، فاز أرييل شارون، وهو قومي متطرف، في الانتخابات واستغل الاضطرابات خلال الانتفاضة لمنع مشروع تطوير غزة مارين، مدعيًا أن الأرباح المتدفقة من الحقل ستكون معرضة لخطر توجيهها إلى حماس وغيرها من الجماعات المسلحة.

وفي السنوات التالية، تعاقبت الأحداث التي ساهم كلًا منها بتدهور الاقتصاد الفلسطيني تدريجيًا. وبدلًا من ذلك، أصرت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على نقل الغاز عبر الأنابيب إلى مصفاة تقع داخل أراضيها، مما يمنح إسرائيل السيطرة على عائدات حقول الغاز في غزة. وفي أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، شارك توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني آنذاك، في إقناع الفلسطينيين بالموافقة على إرسال العائدات الواردة من حقول الغاز الطبيعي إلى بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك لفحصها، للتأكد من أن الأموال لن تقع في أيدي الفصائل الفلسطينية المسلحة.

وفي نيسان/أبريل 2007، وافقت حكومة إيهود أولمرت، على إعادة فتح المفاوضات مع شركة BGG. وقيل إنه ابتداء من عام 2009، سوف تشتري إسرائيل 0.05 تريليون قدم مكعب من الغاز الفلسطيني مقابل أربعة مليارات دولار سنويًا، الأمر الذي كان من شأنه أن يخلق "مناخًا طيبًا للسلام" بحسب ما وصفه مراقبون آنذاك.

ومع ذلك، فإن سيطرة حماس على القطاع عام بعد ذلك بأشهر قلبت الحسابات مرة أخرى، حيث تطلعت حماس إلى زيادة الحصة الفلسطينية الأصلية البالغة 10 في المئة في صفقة BGG. حينها، شكلت الحكومة الإسرائيلية فريقًا إسرائيليًا من المفاوضين لصياغة اتفاق مع BGG، متجاوزًا كلًا من الحكومة الفلسطينية والسلطة الفلسطينية، مما أدى فعليًا إلى إلغاء العقد الموقع في عام 1999 بين BGG والسلطة الفلسطينية. ومع ذلك، في كانون الأول/ديسمبر 2007، انسحبت مجموعة BGG من المفاوضات مع الحكومة الإسرائيلية.

ولكن إسرائيل استمرت في تقويض حق الفلسطينيين بمواردهم في صفقاتها المقترحة، وأخيرًا، أوقفت كل المفاوضات في أعقاب سيطرة حماس على غزة في عام 2007. وجاءت نقطة التحول الحاسمة في العام التالي، عندما شنت إسرائيل عملية عسكرية في القطاع، وبعد ذلك قامت بعسكرة ساحل غزة بالكامل وأخضعت حقل الغاز الطبيعي في غزة لسيطرتها، في انتهاكٍ للقانون الدولي. ومنذ تلك اللحظة فصاعدًا، بدأت BGG التعامل مباشرة مع الحكومة الإسرائيلية. ولكن لعدة سنوات، وبسبب الحروب المتعاقبة على قطاع غزة في ظل حكم حماس، لم يكن هناك أي تقدم في المشروع.

طموحٌ قديم جددته الحرب في أوكرانيا

أعطت الحرب الروسية الأوكرانية زخمًا جديدًا لجميع هذه المشاريع، بما في ذلك تطوير حقل غزة البحري. وفي حزيران/يونيو 2023، منحت إسرائيل موافقة مبدئية على مشروع بقيمة 1.4 مليار دولار يضم السلطة الفلسطينية ومصر وإسرائيل وحماس يهدف إلى تطوير احتياطيات الغاز في غزة. وبموجب الاتفاق، فإن الإيرادات – التي تقدر بنحو 700-800 مليون دولار سنويًا – ستذهب إلى السلطة الفلسطينية مع جزء متفق عليه يستخدم لدعم اقتصاد غزة. وقد تم الترحيب بالمشروع باعتباره "لمحة نادرة عن فرصة محتملة مربحة للجانبين" لكل من سكان غزة والإسرائيليين، لكن الحرب الأخيرة علّقت المشروع كذلك.

بعد اكتشاف حقل الغاز، وقعت السلطة الفلسطينية عقدًا للتنقيب عن الغاز مع شركة BGG لمدة 25 عامًا، وفي عام 2000، قامت الشركة بحفر بئرين في الحقل، الذي قدرت كمية الغاز الطبيعي فيه بـ 1.4 تريليون قدم مكعب

وبينما تتساقط القنابل، يستمر العمل من الجانب الإسرائيلي وحده كالمعتاد، حيث منحت إسرائيل 12 ترخيصًا لست شركات للتنقيب عن الغاز الطبيعي قبالة ساحل البلاد على البحر الأبيض المتوسط في 30 تشرين الأول/أكتوبر 2023. وهذا هو المشروع الأحدث لاستغلال أحد حقول الغاز العديدة المكتشفة على ساحل البحر الأبيض المتوسط خلال العقود الأخيرة، بهدف حلّ معضلة اعتماد إسرائيل على الطاقة، والأهم من ذلك، تأمين إمدادات أوروبا.

وقد قُدر إجمالي احتياطيات النفط والغاز في تلك الحقول بمبلغ قدره 524 مليار دولار في عام 2019. لكن ليس لإسرائيل الحق القانوني في الحصول على الـ 524 مليار تلك، وفقًا لتقرير للأمم المتحدة نُشر في العام نفسه.

ولا يقتصر الأمر على أن بعض تلك المبالغ يأتي من الأراضي الفلسطينية المحتلة، بل إن قسمًا كبيرًا من الباقي يقع خارج الحدود الوطنية في أعماق البحار، وبالتالي فلا بد من تقاسمها مع كافة الأطراف المعنية. ويشكك التقرير في الحق الوطني في هذه الموارد، نظرًا لأن تكوينها استغرق ملايين السنين، وأن الفلسطينيين عاشوا في تلك المنطقة بأكملها حتى قيام إسرائيل رسميًا عام 1948.

وأشار التقرير حينها أيضًا إلى أن قيام قوة الاحتلال بحرمان المواطنين من الحق في استخدام مواردهم الطبيعية يعد جريمة حرب أخرى ترتكبها إسرائيل بحق موارد الفلسطينيين الطبيعية، بما في ذلك تحويل إمدادات المياه في فلسطين، وقطع الوصول إلى مصائد الأسماك، والاستيلاء على الأراضي الزراعية، وتدمير بساتين الزيتون.

وفي حزيران/يونيو 2022، وتحت ضغطٍ غربي للعثور على مصدر آخر للغاز منذ الغزو الروسي لأوكرانيا، وقع الاتحاد الأوروبي مذكرة تفاهم مع إسرائيل لاستيراد الغاز من حقل غاز ليفياثان. ويعد حقل الغاز هذا أكبر الاكتشافات الأخيرة، ويحتوي على 22 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي القابل للاستخراج ويمكن أن يلبي الطلب المحلي لإسرائيل لمدة 40 عامًا.

وذهبت الولايات المتحدة إلى أبعد من ذلك، حيث أنشأت اتفاقية تعاون بين الولايات المتحدة وإسرائيل في مجال الطاقة تنص على أن "التعاون بين الولايات المتحدة وإسرائيل في مجال الطاقة وتطوير إسرائيل للموارد الطبيعية يصب في المصلحة الاستراتيجية للولايات المتحدة"، ووعدت بمساعدة إسرائيل في "المشاريع الإقليمية" المتعلقة بقضايا السلامة والأمن.

كما بدأت مصر استيراد الغاز من حقل ليفياثان في عام 2020، ووقعت مذكرة تفاهم مع إسرائيل والاتحاد الأوروبي العام الماضي لتمريره عبر أراضيها قبل أن يقطع المتوسط نحو السواحل الأوروبية. ويُنظر إلى الغاز الطبيعي على أنه مورد "للتأثير الإيجابي على الأمن الإقليمي"، وهو مصطلح سياسي لبناء الجسور التجارية بين الدول المتجاورة.

يتم استخدام الغاز الطبيعي المُسال كخدعة سياسية في جميع أنحاء العالم لتعميق العلاقات السياسية والترابط الاقتصادي مع تحول العالم تدريجيًا بعيدًا عن النفط، ليس من منطلق أخلاقي ولكن ببساطة لأن احتياطيات النفط بدأت تجف. إذ يعتبر الغاز الطبيعي المسال بمثابة الوقود الانتقالي المحبوب من قبل الجميع، كونه يسبب انبعاثات ثاني أكسيد الكربون أقل بنسبة 40 في المئة من الفحم (بمستوياته المنخفضة)، ويؤمن إمدادات عالمية لطاقة الكوكب لـ 125 عامًا قادمين من الاحتياطيات الحالية فقط.

مؤخرًا، كتب سيد حسين موسويان، المتخصص في أمن الشرق الأوسط والسياسة النووية في جامعة برينستون الأمريكية، في مقالة ضمن موقع "ميدل إيست آي" أن "الهدف النهائي من الحرب الإسرائيلية ليس فقط تدمير حماس و/أو استبعاد الفلسطينيين من وطنهم، بل وأيضًا مصادرة موارد الغاز في غزة التي تقدر بمليارات الدولارات".

في المقابل، يقول عاموس هوشستاين، مستشار الرئيس الأمريكي جو بايدن لأمن الطاقة، خلال زيارته الأخيرة لإسرائيل: "هناك فرصة هنا لتطوير حقول الغاز قبالة شاطئ غزة، نيابة عن الفلسطينيين".

وأشار هوشستاين إلى أنه متأكد بنسبة "100 في المئة" من أن إسرائيل ستسمح بذلك، مضيفًا أنه "لا يوجد سبب يمنع الإسرائيليين من القيام بذلك، فهو ليس ملكهم، والغاز ملك للشعب الفلسطيني".

وبقدر ما قد تكون إدارة بايدن يائسة في مسعاها لتجنّب تصاعد الحرب في غزة إلى حرب إقليمية شاملة، فإن كلمات هوشستاين ليست أكثر من مجرد أمنيات. لعقود من الزمن، كان من الواضح أنه طالما أن التسوية السياسية الدائمة بعيدة المنال، فإن الغاز قبالة ساحل غزة سيبقى تحت البحر وخارج السيطرة الفلسطينية. ولن تكون حرب اليوم استثناءً ما لم تتغير المعطيات الأشمل، وإلى حين حدوث ذلك التغيير، لا يسعنا الاستنتاج بأن رغبة الأطراف، أيًا كانت، في تنمية غاز غزة سوف تظل محبطة، وسيبقى حقّ الفلسطينيين به مؤجلًا.