22-فبراير-2024
كاريكاتير لـ ميكائيل سيفتشي/ تركيا

كاريكاتير لـ ميكائيل سيفتشي/ تركيا

منذ أن أعلن بنيامين نتنياهو إطلاق عملية "السيوف الحديدية" التي تطورت سريعًا لحربٍ هي الأعنف في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، ردًّا على عملية "طوفان الأقصى" التي أطلقتها كتائب القسام وفصائل فلسطينية أخرى في غلاف غزة، وقف العالم مذهولًا أمام مشاهد ووقائع ظنَّنا أنها صارت مشاهد من الماضي، من عائلات تُمحى بأكملها من السجلات المدنية، لأبراج تنهارُ بساكنيها، حتى خُدَّجٍ يتركون وحدهم لمصيرهم المجهول، وابتكار مصطلحات لغوية جديدة ولدت من رحم المأساة تعبّر عن الأطفال الناجين دون ذويهم.

لم تتجاوز ردة فعل العالم تجاه كلّ ذلك، خلال الأشهر الثلاث الأولى من المقتلة على الأقل، ردة الفعل المتوقعة من حادثة قتل عابرة أو جريمة اختطاف في مدينةٍ ما، إذ صدرت بيانات الشجب والاستنكار والتنديد، رافقتها بعض الدعوات لـ "تجنب العنف ضد المدنيين"، دون وجود ردعٍ حقيقي، وإعطاء ضوء أخضر شبه عالمي لإسرائيل بإشباع شبقها الدموي على البث المباشر وأمام أنظار العالم.

أمام ذلك الصمت، ولأن الدول التي كانت أكثر فجاجةً في دعمها المطلق للمقتلة الإسرائيلية انتمت للمعسكر الغربي -عدا إسبانيا وبلجيكا وإيرلندا- ولم يمضٍ وقت طويل منذ أن كانت تناشد في كل مناسبة احترام القانون الدولي وحقوق الإنسان في الحرب البوتينية على أوكرانيا، خرجت أصواتٌ تكسوها الخيبة، تسلّلت إليها بعض الشعبوية القومية، تنادي بـ"سقوط منظومة حقوق الإنسان" وتدّعي أن "الديمقراطية مجرد كذبة"، على اعتبار أن أكثر من دعم آلة القتل الإسرائيلية هي دولٌ ديمقراطية، لا تنفك تنادي بحقوق الإنسان.

وفي انتشار هذا الخطاب بين عدد من المثقفين والكتّاب و"المؤثرين"، وما ينطوي عليه من شمولية، مؤشر خطرٍ يستوجب الوقوف عنده. لا شكَّ أن معظم الدول الغربية أظهرت ازدواجية فجّة للمعايير بين الحرب في أوكرانيا والحرب في غزة، في سرديتها للأحداث وخطابات إعلامها ومسؤوليها المتشدقين بالمنظومة الحقوقية، إلا أن هذه ربما تكون سقطةً لتلك الأطراف لا للمنظومة نفسها، منظومتنا جميعًا دون استثناء. وبدلًا من رميها بعيدًا، يمكن استخدام المنظومة نفسها كسلاح وحجة أمام تلك الأطراف لإدانتها.

لم تسقط حقوق الإنسان، ولم يُكشف زيف الديمقراطية، وإن كانت الأخيرة تعاني من أزمة وجودية في هذه الأوقات. تلك القيم ليست حكرًا على "الرجل الأبيض" أو السياسي الغربي

لا بأس من التذكير بأن حقوق الإنسان هي من جرّمت العنصرية وألغت التمييز على أساس النوع الاجتماعي ورسّخت حقوق الفئات المهمّشة تاريخيًا، أو سعت إلى ذلك على الأقل، وإن كنا ما نزال بعيدين عن عالم المساواة المثالي حتى الآن. وحقوق الإنسان هي من حرّرت جنوب إفريقيا من نظام الفصل العنصري، وحتى بالنسبة لإسرائيل، رغم كونها الولد المدلل للمجتمع الدولي في كثير من الأحيان، فإن حقوق الإنسان هي من أحرجت الولايات المتحدة لوقف دعمها العسكرية لإسرائيل في حرب تموز 2006، ودفعت باتجاه القرار 1701 الذي أجبرها على الانسحاب من لبنان. ولا يتسع المجال لسرد مئات القصص التي نجحت فيها المواثيق الدولية وقوانين حقوق الإنسان بانتزاع الحق من أنياب غاصبيه.

أما في سياق الحرب الجارية على غزة، وفي الوقت الذي كانت المادة 19 من الميثاق العالمي لحقوق الإنسان الحافظة لحقّ الفرد في التعبير عن رأيه بأيَّة وسيلة ودونما اعتبار للحدود، تسمح لملايين المتظاهرين بالهتاف لفلسطين ورفع علَمها وكوفيتها في لندن وباريس وآيندهوفن وسيدني ونيويورك وغيرها من مئات المدن حول العالم، كانت تُنتَهك المادة نفسها في مدننا، حيث تقطع الشرطة الأردنية شوارع عمّان كل جُمعة، وتنشر الشرطة المصرية عناصرها في شوارع القاهرة في وجه من يريد التعبير عن الرأي ذاته. فيما ذهبت دولٌ أخرى كالسعودية والإمارات لتكميمه كليًا ومُسائلة صاحبه.

ورغم أن بريطانيا كانت -وما زالت- إحدى الدول المتمسكة بالسردية الإسرائيلية وممارساتها، إلا أن انتهاك حقوق الإنسان، والخوف من الغضب الشعبي (القابل للتعبير عنه في إطار حقوق الإنسان)، هو ما دفع رئيس الوزراء ريشي سوناك لإقالة وزيرة الداخلية سويلا برافرمان من منصبها بعد أن انتقدت تعامل الشرطة مع التظاهرات المؤيدة للفلسطينيين العاصمة لندن.

كم من زعيم وسياسي "متواطئ" مع الاحتلال في منطقتنا لا نقوى على مسائلتهم ونحن مسلوبين حقنا الأساسي بالمساهمة في إدارة الشؤون العامة، وفي بعض الأحيان، لا نجرؤ حتى على ذكر أسمائهم صراحة؟

أما التجلي الأبرز في الحرب الحالية هو محاكمة إسرائيل لأول مرة في تاريخها في محكمة العدل الدولية بتهمة انتهاكها اتفاقية منع الإبادة الجماعية، التي وصفها الكاتب آيزاك تشوتينر في مجلة ذا نيويوركر، بأنها "خطوة مهمة إلى الأمام من الناحية القانونية، لأنها توفر طريقة لإنفاذ الالتزامات الدولية في مجال حقوق الإنسان، والتي لم تكن هناك في السابق طريقة واضحة لإنفاذها". ولعلَّ المفارقة الأكبر هنا كانت أن من جلب إسرائيل إلى المحكمة لم تكن واحدةً من الدول التي يصدر منها خطاب "سقوط حقوق الإنسان" إيّاه.

إن هذا الحديث عن سقوط حقوق الإنسان وقيم الديمقراطية لا يتعدّى أن يكون هدية نقدمها على طبقٍ من ذهب للأنظمة التي أشعلت الحروب الأهلية، ودسّت الجواسيس وقتلت الآلاف واعتقلت أضعافهم ونزلت علينا بكل ما لديها من سطوة وأدوات لتنزع إيماننا بها. ومقالات الرأي التي تنشرها شخصيات تلك الأنظمة لتعزيز هذا الخطاب، كما كتبت مستشارة رئيس النظام في سوريا بثينة شعبان في جريدة الوطن السورية عن "السقوط المدوي لتلك الأكاذيب"، وغيرها في مختلف الصحف والمنابر الإعلامية العربية، خير دليل على احتفاء بهذه الهدية وامتنانٌ لها.

يشبه الخطاب الذي يجري تداوله اليوم الشيطنة التي يكررها المتحدثين باسم النظام السوري ومؤيديه في كل مرة يجري الحديث عن الأوضاع المتردّية الذي وصلت إليها البلاد، إذ يعزون الخراب الحاصل لـ"الحرية" والمطالبة بها، أو كما يفعل أنصار السيسي وأزلامه كذلك عندما يقال أن 25 يناير كان سبب السقوط الحر الذي تعيشه البلاد منذ ذلك الحين.

لم تسقط حقوق الإنسان، ولم يُكشف زيف الديمقراطية، وإن كانت الأخيرة تعاني من أزمة وجودية في هذه الأوقات. تلك القيم ليست حكرًا على "الرجل الأبيض" أو السياسي الغربي، ولا يملك أولئك سلطةً عليها. لا شكَّ أن هناك ازدواجية في المعايير، وربّما بعض أجهزة تنفيذ القوانين والمواثيق لا تعمل بأفضل شكل، لكنها أفضل خياراتنا. وبدلًا من إنكارها، لنكرّسها في وجه من يحاول تقويضها ونحرص على تطبيقها على الجميع، أو نأتِ ببديلٍ أفضل.