18-فبراير-2024
فوتوغرافيا لـ غطفان غنوم/ سوريا

الصورة للكاتب

يموتون فتكتب لهم الحياة، لا أتكلم هنا عن الشهداء من منظور ديني، إنما عن الأدباء والفنانين والناشطين والحقوقيين وغيرهم ممن نذر نفسه لكلمة حق وعاش حياته نزيهًا، عصاميًا، مشهودًا له بنصاعة الكف ونقاء القلب.

الاختلاف معهم في وجهات النظر لم يجعل منهم مجرد متوحشين، همهم فرض أنفسهم على غيرهم، أو تكريس وجهات نظرهم الشخصية بوصلة للغير.

والاشتباك معهم فكريًا كان يوسع مساحة للصداقة والثقة وبناء الأفكار الخلاقة.

مات حكيم مرزوقي، وقبله مات خالد خليفة، وقبلهما ميشيل كيلو وجلال صادق العظم، والكثير من العظماء روحًا ممن تركوا بصمة لا تزول في حياة أصدقائهم ومتابعيهم.

مع كل فقدان وخسارة كبرى لأشخاص نذروا أنفسهم للثقافة والآخرين، يشعر الجميع فجأة بحجم ذلك الفراغ الذي خلفه رحيلهم، وتجتاح وسائل التواصل موجات تلو الموجات من الحزن والغضب والحسرة والقهر، لأن الوداع كان شاقًا، ولأن الناس حرموا من حقهم في الاحتفاء بفقيدهم.

الغربة والتهجير والتعسف، وكل ما يرافق ذلك من غبن وقهر يجعل من موت أحدهم موتًا لنا أيضًا.

قال الكاتب عبد المجيد حيدر في نعيه للمسرحي التونسي عاشق دمشق حكيم مرزوقي: "لقد ماتت قطعة جديدة من دمشق"، ويالها من نعوة قاسية. دمشق تموت قطعًا.

بعد الموت تصبح الكلمات أشد صدقًا، والمشاعر أقوى، وربما تتساقط خلف سطوة الموت وفرة من الهراء المجاني الذي كان يظلل العلاقات

 

مع كل فقدان ورحيل يتبادر للذهن أول ما يتبادر ذلك السؤال، لماذا لا يكرم الراحلون في حياتهم؟

قبل زمن بعيد كنت غاضبًا على الدوام، وأطرح نفس السؤال، لكن الغربة والتعب نالا من غضبي، وتحول كل ذلك لهدوء مشوب بحكمة شخصية، أو هزال فكري شخصي، سمه ما شئت.

ومع حلول هذا الهزال الذي أسميته حكمة، وجدت جوابي.

لا يمكن لنا أن نكرم حيًا، لأن حياتنا بحد ذاتها تكريم لنا.

كذلك لا يمكن لنا تكريم الغير، نستطيع الاحتفاء بهم، ومنحهم الجوائز والكلام الدافئ، لكن التكريم لا يمكن أن يحدث إلا بعد الموت.

بعد الموت تصبح الكلمات أشد صدقًا، والمشاعر أقوى، وربما تتساقط خلف سطوة الموت وفرة من الهراء المجاني الذي كان يظلل العلاقات.

لكل قوم وشعب قديم أو حديث عاداتهم وطقوسهم واعتقاداتهم حول الموت، ولا شك بأن سؤال الحياة، مصدرها ومصيرها هو السؤال الأهم والأبرز عبر تاريخ البشرية كلها.

مما أتذكره عن الزرادشتية، اعتقادهم أن روح الميت تعوم ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع تتوجه نحو جسر يسمى جسر الحساب حيث توزن أفعال الميت، فإن رجحت كفة الخير على كفة الشر فإن الروح تعبر الجسر الذي يتسع لها برفقة عذراء حسناء فتدخل الجنة. وإن غلبت كفة الشر على الخير فسوف يجازى الشخص بأن تقترب منه عجوز قبيحة، منتنة، تملأ البثور وجهها، فيسألها: من أنت؟

ترد: أنا أعمالك الأرضية السيئة الشريرة، ثم تجذبه فيسقطان نحو قاع الجحيم الزرادشتي الأبدي.

في مصر القديمة، جنوبها، كانت توضع الأوعية والأواني كي تصاحب المتوفى في رحلة الخلود، والغرض منها أن يوضع فيها بعض الأطعمة التي سيحتاج إليها المتوفى في أبديته، وهي تدل على إيمان المصري منذ تلك العصور السحيقة بوجود عالم آخر يحيا فيه ويتزود باحتياجات هي نفس احتياجاته في الدنيا، لقد نظروا للموت بوصفه مرحلة انتقالية لا فناء.

أليست كلماتنا في رثاء الراحلين زوادات في رحلتهم نحو العالم الأبدي؟