17-فبراير-2024
مصطفى الحلاج

عمل لـ مصطفى الحلاج/ فلسطين

مساء الحادي عشر من آذار/مارس عام 1978 فوجئ الجيش الإسرائيلي، باستيلاء مجموعة من الفدائيين الفلسطينيين على حافلة عسكرية وقيامهم بإطلاق النار على السيارات العسكرية المارّة على الطريق العسكري الساحليّ. جرت مطاردة طويلة على طول الخطّ الساحلي بين حيفا وتلّ أبيب، تخلّلت هذه المطاردة اشتباكات عديدة وتبادل إطلاق نار وتفجيرات، واستولت المجموعة الفدائية على حافلة أخرى. 

وفي نهاية الأمر تمّ تفجير الحافلة، حيث قامت القوّات الإسرائيلية بإطلاق النار بكثافة غير عابئة بأرواح الرهائن العسكريين في الحافلة. لقد أصدرت القيادة الإسرائيلية أمرًا واضحًا بمنع دخول الحافلة إلى تل أبيب مهما كانت النتائج والخسائر.

تلك كانت عملية الشهيد كمال عدوان، التي نفّذتها مجموعة دير ياسين المكوّنة من ثلاثة عشر فدائيًا فلسطينيًا بقيادة الشهيدة دلال المغربي. وقد أعلنت قيادة حركة فتح أهداف العملية بوضوح، بأنّها من أجل "الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين في سجون العدوّ" وردًّا على الإمعان في الاستيطان ومحاولات طمس الوجود الفلسطينيّ، و"لرفض الحلول الاستسلامية التي تحاول القوى المستسلمة فرضها على أمتنا العربية وعلى شعبنا الفلسطيني البطل".

شنّ الجيش الإسرائيلي بعد هذه العملية هجومًا واسعًا على جنوب لبنان حيث اجتاح كل المناطق حتى نهر الليطاني، وما لبث أن انسحب بعد أن أنشأَ منطقة عازلة بقيادة ما سُمّي وقتها "جيش لبنان الجنوبي" بقيادة الرائد سعد حدّاد. وصدور قرار من مجلس الأمن الدولي بإرسال قوّات دولية للفصل في جنوب لبنان، وهي ما تُعرف حتى اليوم بقوّات "اليونيفيل".

يثبت الفلسطينيون أنّهم بقدراتهم البسيطة قادرون على هزّ الكيان الذي يبدو من الخارج صلبًا وقويًّا

وفي يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 شنّت مجموعات فلسطينية مسلّحة، هجومًا كبيرًا على المعسكرات والمستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزّة، كان الهجوم كبيرًا ومنسّقًا بشكل كبير، حيث استطاع المقاتلون الذين قدموا عبر البرّ والبحر والجوّ، السيطرة على قيادة الشرطة الإسرائيلية في مستوطنة سديروت ومقر قيادة فرقة غزة في جيش الاحتلال، ودارت معارك عنيفة داخل وحول المستوطنات والمعسكرات الإسرائيلية داخل ما يُسمّى أراضي 48.

وأعلنت قيادة كتائب القسّام أهداف العملية التي تكاد تتطابق مع أهداف عملية الشهيد كمال عدوان قبل خمسة وأربعين عامًا، تحرير الأسرى والردّ على الاستيطان ورفض الحلول الاستسلامية والتفريط بالحقوق الوطنية الفلسطينية. وشنّ، وما زال، الجيش الإسرائيليّ حربًا واسعة على قطاع غزّة. هذه المرّة أكثر قسوة وعنفًا بسبب الكثافة السكّانية الكبيرة في القطاع، حيث ترتفع يوميًا أعداد الشهداء والجرحى، ويتمّ تدمير منهجيّ للأحياء والمخيّمات، وأيضًا يبدو غير عابئ بأرواح أسراه.

لست في وارد ذكر الأرقام والإحصائيات لنتائج العمليتين، وإحداهما ما زالت نتائجها مستمرّة حتى الآن، لكنّ ما يلفت النظر حقًّا هو الفعل نفسه، المقاومة المسلّحة، اقتحام العمق الإسرائيليّ، والارتباك الذي يحدث للجيش والأمن الإسرائيلي الذي يظهر هشًّا وبائسًا، ثمّ يعود ليتماسك عبر المعونات والإسناد الخارجي، ثمّ ظهور الدعوات الإسرائيلية لمراجعة استراتيجيات الدفاع والأمن التي يثبت فشلها وعقمها بعد كلّ عملية فلسطينية.

كذلك يظهر جليًّا الوجود غير المستقرّ لهذه الدولة، وعدم واقعية طروحاتها الفكرية أو التاريخية عن أنّها "أرض الميعاد"، أو أنّها "أرض دون شعب"، وما إلى ذلك من طروحات دأبت الدعاية الصهيونية على ترويجها، حيث تسقط كل هذه الطروحات أمام حقيقة وجود الشعب الفلسطينيّ، الذي يقوم دائمًا بابتكار الطرق والوسائل لإثبات وجوده على أرضه، أو في منافيه الإجباريّة حيث يعيش على أمل العودة.. العودة إلى أرض أجداده القريبين، بعضهم ما زالوا أحياء وقد أُخرجوا من أراضيهم عنوةً.

بعد عملية الشهيد كمال عدوان حدث الكثير من التطوّرات، عسكريًا وسياسيًا، مفاوضات وحروب واجتياحات، تنازلات وتشبّثات، شهداء وقتلى، خمسةٌ وأربعون عامًا مرّت، لنعود كما كنّا، عملية عسكرية تُربك الإسرائيليين وتُعيد طرح السؤال الأساسيّ: ما مدى شرعيّة وجود هذه الدولة على أراضٍ لشعب آخر؟ وهذا الشعب موجود حول هذه الأرض يعيش في مخيّمات قريبة ينتظر وربّما يُعدّ لعمليات قادمة. على العالم أن يفهم جيّدًا: هذه الأرض فلسطينية وسوف تعود فلسطينية، لا يُمكن تغيير الحقيقة، يُمكن تشويهها، محاولة طمسها، تزييفها، لكنّها ستعود للظهور بأشكال مختلفة أثبت الشعب الفلسطينيّ عبر تاريخ طويل، أنّه قادر على ابتكارها وإثبات وجوده عبرها.

وأثبتت كلّ الوقائع حقيقة هشاشة التركيبة الكيانية لإسرائيل التي تنهار بعد كل عملية وتعود للتماسك بفضل دعم يأتيها من الخارج. ويُثبت الفلسطينيون أنّهم بقدراتهم البسيطة قادرون على هزّ الكيان الذي يبدو من الخارج صلبًا وقويًّا، يهزّونه لتتساقط منه عنصريته وعنفه وقسوته وكذبه التاريخيّ، فيظهر على حقيقته "تجميعة" بشر لا يجمعهم سوى مصلحة سياسية واقتصادية لقوى ودول وشركات كبرى.

سوف تستمرّ العمليات الفلسطينية، ويومًا بعد يوم سوف يُدرك الكثير من الإسرائيليين حقيقة العبث الذي جمعهم على هذه الأرض.