20-فبراير-2024
كاريكاتير لـ باولو لومباردي/ إيطاليا

كاريكاتير لـ باولو لومباردي/ إيطاليا

يورد بودلير في إحدى مقولاته: "من بين الحقوق التي كثر الخوض في شأنها هذه الأيام، ثمة حقّ منسيّ، قد يهمّ الجميع أن يُعاد إليه الاعتبار، إنّه الحقّ في التناقض".

استذكرتُ عبارة بودلير السابقة وأنا أقرأ عن أمنية إحدى الشاعرات من قطاع غزة، والتي كتبت عن رغبتها وحقّها في أن تموت جثة كاملة، قابلة بأن تُحتَضن، قلتُ في نفسي وأنا أقرأ كلماتها لربّما هناك حقّ إنساني مهم غيّب عن قطاع غزة منذ بداية الحرب الإسرائيلية عليها، ويجب أن يُعاد له الاعتبار، وهو الحقّ في الموت اللائق.

أستحضر في هذا المقام كلِمات الأغنية الجديدة لفرقة كايروكي "تلك قضية" والتي تقول في إحدى مقاطعها: "كيفَ أصدّق هذا العالم، لما بيحكي عن الإنسان؟"، وأسأل معهم: كيفَ نُصدّق عالَمًا يُشاهِد هذا الامتهان لكرامة إنسان غزة حيًا وميتًا؟ كيفَ نُصدّق عالَمًا يُحرَم فيه إنسان غزة من حقّه في موتٍ لائق، يكون فيه جسدًا كامل الأجزاء، بملامح واضحة واسمًا معلوم؟

الحقّ في الموت اللائق هو حقّ إنساني أساسي، تعبّر إحدى الفتيات الغزاويات، واسمها يافا، عن خوفها من ألا تحصل عليه، وتكتب: "أكثر ما يخيفني هو ذكر موتي ضمن الأعداد التي تزيد ويصعب إحصائها، فيقولون: استشهاد شابة وآخرين، أنا لستُ رقمًا، لدي من العمر 24 عامًا، ولدي أصدقاء وذاكرة وكثير من الألم".

ويروي الشاعر محمود جودة عن قصص غيابه المؤلمة في غزة، فيكتب: "بقي في الثلاجة مجهول الهوية لخمسة أيام، يتفقده الأقارب كل يوم ولا تأكيد منهم بأنه هو كان وجهه بلا معالم وجسده أيضًا حتى جاءت أمه فرفعت يده وشاهدت الشامة الصغيرة تحت إبطه الأيسر".

في غزة، هناك ألفَ طريقة يحرَم فيها الناس من حقّهم الإنساني في الموت اللائق، فمن احتمالات موتهم شهداء مبتوري الأجساد ومشوهي الوجوه ومجهولي الهوية، إلى احتمالات وجودهم على الأرصفة في الطرقات جثثًا

يسأل الابن والدته للتأكيد عليها فترد عليه: "هو يمة هو هيها الحَسنة تحت أباطه كنت بزغزغوا منها لما أغيرله أواعيه! تبقى الأم على الدوام حافظة أسرار الصبا والجسد حاملة صخرة الحسرة للأبد"!.

تحكي القصة السابقة أنّ مأساة غياب هذا الحقّ عنك كإنسان، كفيلة بأن تجعلك كائن بلا هوية، وأن تحيلك إلى جسد بلا اسم، ولا عائلة، ولا أقارب، ولا ذكريات، فأن تختفي معالم وجهكَ وجسدكَ يعني أن تختفي خريطتكَ التعريفية التي تَدلّ الآخرين عليك وتجعلهم يميزونك باعتباركَ أنتَ وليسَ غيرك.

في غزة، هناك ألفَ طريقة يحرَم فيها الناس من حقّهم الإنساني في الموت اللائق، فمن احتمالات موتهم شهداء مبتوري الأجساد ومشوهي الوجوه ومجهولي الهوية، إلى احتمالات وجودهم على الأرصفة في الطرقات جثثًا متحلّلة، يمرّ عليها وقتُ حصار الطائرات والدبابات دون أن تجد من يُكرمها بالدفن اللائق.

في غزة فقط، يُحرَم الناس من حقّهم في حيّز قبرٍ كامل، يوضَع عليه اسم الواحد منهم على شاهدة عليها تاريخ ميلاده ووفاته/ استشهاده، فيدفنون في مقابر جماعية، تُكدّس فيها جثثهم إلى جانب بعضها البعض، وكأنّ المقابر ملتَ لكثرة مرتاديها، فباتت تسلبهم حقّهم في حيّزهم الخاصّ بموتٍ مريح وهادئ!

وفي غزة أيضًا، تؤخذ جثث الموتى الشهداء، ويُحتفظ بها، يُسرق جلدها وأعضائها، ثمّ تُعاد بعد أن تفقد ما تفقد، وكأنّ الإرث الاستعماري للتمثيل بجثث السكان الأصليين، والذي أبرز تمثيل عليه الشهيد سليمان الحلبي، الذي أحرق الفرنسيين يده ثم أعدموه صلبًا على الخازوق، ثم فصلوا رأسه وقاموا بتعرية جمجمته وأخذها كوسيلة تعليمية لتعرض لاحقًا في متاحف باريس؛ وكأنّ هذا الإرث الاستعماري إرث ممتد ينتقل من استعمار إلى استعمار، يأخذه الثاني عن الأول، ويُمارسه بأشكال أكثر إجرامًا ووحشية.

يكتب محمود درويش عن الضحية التي يغيب عنها الحقّ في الموت اللائق: "والضحية مجهولة الاسم عادية"، ويجيء كمن يختصر قصة الفلسطينيين جميعًا، الأحياء منهم والأموات، والذين حتى لو عرفت أسماؤهم ووجوههم وأجسادهم عند موتهم، سيبقون في منطق العالَم الذي يدعي المدنية والتحضّر مجرّد أرقام عابرة تمرّ على شاشات التلفاز، فتثير التثاؤب وربّما الاشمئزاز، ولا تجد من يلتفت لها أو يعيرها انتباهًا.