23-فبراير-2024
لوحة لـ كريم دباح/ فلسطين

لوحة لـ كريم دباح/ فلسطين

مئة وأربعون يومًا مرّت منذ بدء العدوان على غزّة، كلّ يوم كانت تسقط فيه مباني، وشهداء وجرحى، ويرحل سكّان عن بيوتهم ومناطقهم إلى مناطق أكثر أمنًا. وكلّ يوم تقصف الطائرات والمدافع الإسرائيلية المزيد من التجمّعات السكّانية الفلسطينية في قطاع غزّة، وتجتاح الدبابات الشوارع وتهدم الأزقّة، هدف الاحتلال المعلن هو اقتلاع حركة حماس، وممارسته على الأرض هي تدمير كل شيء بحيث يُصبح قطاع غزّة مكانًا غير قابل للعيش.

هوجمت المشافي بحجّة أنّ تحتها أنفاقًا يستخدمها مقاتلو حماس، وأُعلنت مناطق غير آمنة وطُلب من سكّانها مغادرتها بحجّة أنّها تحصّنات للمقاتلين واقتحامها وتدميرها من قبل الجيش الإسرائيلي أمر مشروع. وفي كلّ يوم وتحديدًا في المناطق التي هجرها سكّانها، أي أنّها "تطّهرت" من مقاتلي حماس، يخرج مقاتلون يُهاجمون الجنود والآليات الإسرائيلية، على هذا الحال يُمكن أن نضرب عدد الأيام منذ بدء الحرب بمئة أو بألف بما يعني أنّ هذه الحرب لن تتوقّف أبدًا، لا يُمكن القضاء على شعب كامل.

عام 1948 شنّت العصابات الصهيونية حربًا شملت كلّ بلدات وقرى فلسطين، وهجّرت مئات ألوف الفلسطينيين، وتأسّست "دولة" إسرائيل، ولكن لم ينتهِ الفلسطينيون، ومع مرور السنوات تكرّرت الممارسات الإسرائيلية داخل فلسطين وخارجها بحجّة القضاء على "الإرهاب" الفلسطيني، وفي كلّ مرّة يعود الفلسطينيون كما كانوا، شعب ينتظر أن يعود إلى أرضه.

وعلى مدى كل تلك السنوات قضى الكثير من الفلسطينيين، وتشرّد الكثيرون مرّتين وربّما أكثر، وعانوا الجوع والحصار والعزل، آلام وأهوال كبيرة تحمّلها الفلسطينيون منذ النكبة وحتّى اليوم، وربّما سيعانون لسنوات قادمة.

ما يجب أن نهتمّ به الآن هو منع تنظيم التهجير، الوقوف في وجه آلة الحرب الإسرائيلية ووقف الحرب فورًا. كل ما عدا ذلك هو كلام خارج الموضوع أو بالمثل الشاميّ: "فتّ خارج الصحن"

ما نشهده اليوم في قطاع غزّة هو نكبة أخرى، تهجير وتنكيل، لا يختلف الأمر سوى بأنّ ما يحدث اليوم يتمّ تصويره بأحدث الكاميرات، ويتمّ نقل تفاصيله ساعة بساعة، ويعرف الجميع مواقف الجميع بشكل مباشر وواضح. لكن لا يختلف أبدًا حجم المعاناة والتهجير والتنكيل. والأصوات المرتفعة، مهما ارتفعت، لا تردّ قذيفة ولا تُعيد مهجّرًا، ويبقى الفلسطينيون وحدهم في مواجهة نكبتهم الجديدة.

يقول إميل حبيبي على لسان سعيد بطل روايته "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل": "خذني أنا مثلًا، فإنني لا أميز التشاؤم عن التفاؤل. فأسأل نفسي: من أنا؟ أمتشائم أنا أم متفائل؟ أقوم في الصباح من نومي فأحمد الله على أنه لم يقبضني في المنام. فإذا أصابني مكروه في يومي أحمده على أن الأكره منه لم يقع، فأيهما أنا: أمتشائم أنا أم متفائل؟".

ويبدو أنّنا جميعًا نحن، الفلسطينيين، مثل سعيد هذا، تمرّ بنا النكبات وتتهدّم بيوتنا، فنجلس في باحة البيت المهدّم ونقول الحمد لله لم يُصب أحدنا بسوء، يموت أبونا فنقول الحمد لله أمّنا ما زالت على قيد الحياة، تموت العائلة عن بكرة أبيها فنقول الحمد لله لم يبقَ أحدٌ ليتحسّر على الباقين!!

لا أُقلّل من قيمة تعاطف المتعاطفين مع الشعب الفلسطينيّ، وأحترم جميع الواقفين مع حقوق الشعب الفلسطينيّ في تقرير مصيره وعودته وبناء دولته المستقلّة. لكنّني متشائل: التعاطف مع نكبتي يُفرحني، ولكنّه لا يمنع تفاصيل النكبة، تهجير الناس من بيوتهم وتجويعهم لا يعني القضاء عليهم فهم سوف يعودون، تدمير الأحياء والمباني والمدارس والمشافي يُؤلمني ولكن من تحت ركامها يخرج مقاتلون يُواجهون المعتدين ويُربكون خططهم.

أرى أنّ ما يجب أن نهتمّ به الآن هو منع تنظيم التهجير، الوقوف في وجه آلة الحرب الإسرائيلية ووقف الحرب فورًا. كل ما عدا ذلك هو كلام خارج الموضوع أو بالمثل الشاميّ: "فتّ خارج الصحن".