20-سبتمبر-2021

جثث للشرطة السرية الهنغارية 1956 (Getty)

قد يختلف الكثير بشأن مفهوم الدولة وأسس وجودها، لكن لا يختلف أحد على أنَّ الدولة أثبتتها الضرورة الاجتماعية، فهي نوع من التنظيم الاجتماعي الذي يضمن أمن المواطنين ضد الأخطار الداخلية والخارجية، وحتى ما يسمى بالفوضويين قد أفلت أفكارهم أو ماتت بشأن عدم ضرورة الدولة، أما التيار الماركسي فلا يزال بانتظار تلك الحتمية اليوتيوبية التي لم تتحقق بزوال الدولة وإشراق المجتمع الشيوعي!

هناك علاقة الزامية بين الدولة والعنف، ومن خلالها فإن أي تغيير يحصل في طرفي المعادلة يقابله تغيير يصيب الطرف الآخر

مرت الدولة بمراحل عديدة تجعلها متباينة مع الأسس التي كانت قائمة عليها، فالدولة في العصور القديمة تختلف عن شكل الدولة في العصور الوسطى أو الحديثة وعصر ما بعد الحداثة والأزمنة السائلة، بسبب بروز ظواهر اجتماعية تمثّل تحديًا لها وتُشعرها بضرورة التغيير والتطور بما يتلاءم مع روح العصر.

اقرأ/ي أيضًا: نظام الجدارة الديمقراطي

ومن الموضوعات المثيرة للجدل والتي تعرضت إلى المراجعة والنقد والتغيير هو موضوع الدولة والعنف، لأن الدولة بحسب منظريها تتناقض مع نفسها حينما تفقد عناصر الإكراه بحسب ما يعبر ماكس فيبر، فإن كل دولة هي جهاز مؤسس على العنف والذي هو جوهر السلطة.

إن هناك علاقة الزامية بين الدولة والعنف، ومن خلال هذه العلاقة فإن أي تغيير يحصل في طرفي المعادلة يقابله تغيير يصيب الطرف الآخر؛ لذلك فإن العنف في مرحلة تأسيس الدولة يختلف عما هو عليه في الدولة الحديثة أو دولة ما بعد الحداثة. في مرحلة التأسيس كان للعنف حضوره البارز لكونه أساس قيام الدولة، كما عندي ميكافيلي وهوبز، ثم حصل تطور إزاء هذا المفهوم فأصبح لدنيا السلطة العقلانية كما عند باروخ إسبينوزا، القائمة على فرض إنَّ الحاكم من أجل ان يحافظ على عرشه لا بد له من أن يسهر على رعاية أفراد الشعب، فبالعنف وحده لا يمكن أن يحافظ على السلطة.

وأصبح عندنا كذلك العنف المشروع كما عند فيبر. وهناك من نفى ظاهرة الدولة برمتها كظاهرة سياسية واجتماعية وعدها نتيجة لظهور الصراع بين الطبقات الفقيرة والغنية، كما عند ماركس ورفاقه، والذين نظروا فيما يعرف بدكتاتورية البروليتارية التي أنتجت نتائج مأساوية ساهمت بأفول الفكر الشيوعي وانسلاخه عن القيم التي قام عليها.

وفي مرحلة من مراحل الفكر السياسي انشطر مفهوم العنف السياسي إلى شقين، هما العنف العاري والثقافي، كما في تقسيمات لوي ألتوسير الذي كان يعتقد أن الدولة تقوم بصناعة الأمة من خلال طريقين أيديولوجيين الأول: هو العنف الثقافي، ويشمل على الآداب والفنون والنشيد الوطني، والإعلام والازياء، أما الطريق الثاني هو العنف العاري والذي يشمل السجن والجيش والمخابرات والجوانب العسكرية للسيطرة على المجتمع وترويض الخارجين على القانون، ليتوسع مفهوم العنف أكثر عند تلميذه ميشيل فوكو الذي رأى ان السلطة تغلغلت في كامل الجسد الاجتماعي، ولم تعد قابعة في برجها العاجي الذي تمارس من فوقه أهدافها.

تعترض حنة أرندت على أي تسويغ للعنف في السياسة من مدخل رفض التمييز بين المشروع منه وغير المشروع، وكل عنف عندها غير مشروع ومن العبث التماس التبرير له

وهكذا نرى أنَّ كل مفكر أو فيلسوف يعطي فرضية ورؤية يفسر من خلالها طبيعة الإنسان ليشيد من خلالها أحكامه السياسية، وأحيانًا تلعب الظروف التي يعيشها الفلاسفة الدور الكبير في بناء أفكارهم، خصوصًا إذا كانت تنظيراتهم في بداية تأسيس الدولة وتبلور مفهومها.

اقرأ/ي أيضًا: قرن من التلاعب بالعقول

إن هذا الاختلاف الكبير بين الفلاسفة ومنظري الدولة يجعل باب الجدل مفتوحًا على مصراعيه فيما يخص هذا العلاقة بين العنف والدولة، ومردها إلى أنَّ الطرفين أحدهما مغرق في واقعية متصلبة والآخر، يعيش في مثالية رومانسية تحلق في عوالم حالمة، فعلى سبيل المثال ترى حنة أرندت أن العنف يتعارض جوهريًا مع السياسة بل يقصيها ويغيبها تمامًا، وأنَّ السلطة والعنف يتعارضان؛ فحين يحكم أحدهما حكمًا مطلقًا يكون الآخر غائبًا.

تعترض حنة أرندت على أي تسويغ للعنف في السياسة من مدخل رفض التمييز بين المشروع منه وغير المشروع، وكل عنف عندها غير مشروع ومن العبث التماس التبرير له. وهنا تختلف مع ماكس فيبر الذي يبرر العنف مميزًا بين عنف مشروع تحتكره الدولة واخر غير مشروع وليس جزءًا من الدولة بل ضدها وضد القانون، ومشكلة أرندت مع ماكس فيبر تتعدى تسويغه للعنف إلى تصوره السلطة عينها بما هي علاقة سيطرة، أي على نحو ينسف كل الإطار النظري السياسي الذي اقامته أرندت حول السياسة والسلطة.

ومن هنا فقد عُد موقف أرندت من عف الدولة بالموقف الرومانسي والذي هو غير قابل للصرف في الواقع التاريخي، فنحن أمام سلطة لا سلطة بحسب تعبير عبد الإله بلقزيز، إذ إنها ترى إنَّ السلطة لا تحتاج إلى العنف دائمًا فإنه يمكن من خلال أدوات أيديولوجية، والنقاش، والإقناع أن تضمن الدولة السيطرة على المجتمع.

أما ماكس فيبر فإنه حين يتحدث عن العنف الذي على الدولة ان تحتكره ويسميه عنفًا مشروعًا، إنما يتحدث عن عامل ملازم لعلاقات السيطرة، والسلطة لا يمكن تخيلها من دون شكل من إشكاله، وتأتي مشروعيته من إنهُ عنف قانوني أو مقترن بالقانون والمصلحة التي من شأنها استباب أحكام القانون، وأنَّ ممارسته خارج نطاق الدولة هو إيذان بتهديد السلم المدني والاستقرار.

إن واقعية فيبر هذه تعود ربما إلى الظروف التي كتبَ فيها مقالته الأخيرة "السياسة كمهنة" في شهور الاضطراب والثورات التي أعقبت هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى وسقوط القيصرية، وشيوع الصراع والفوضى على مستقبل المجتمع والدولة.. أي أنها واقعية تأخذ مبرراتها من الاحداث التي عاشتها الدولة في زمن فيبر، الأمر الذي يمكن أن يفسر أنَّ العنف يمثل وضعية انتقالية وليست ذات ديمومة عنده.

إن لجوء السلطة إلى ممارسة القهر السياسي ليس تعبيرًا عن القوة أو عن فائض في القوة لديها كما قد يُظن، وإنما بالعكس هو تعبيرٌ عن مقدار ما تعانيه من عجز في القوة

هذه الأفكار تعرضت لهزات عديدة، في دولة ما بعد الحداثة، وبعد أن دخلت تحت مجهر النقد السياسي المعاصر، فيرى عبد الاله بلقزيز "إن أدوات السيطرة، وهي أدوات القمع المادي، قد تفيد الدولة في أجبار المجتمع على التسليم بسلطانها السياسي، لكنها لا تمتلك إقناع ذلك المجتمع بشرعية ذلك السلطان؛ لأن تسليم الناس به ليس محصلة اقتناع ورضًا، وإنما نتيجة اخضاع وقهر.

اقرأ/ي أيضًا: ألا لا يجهلن أحدٌ علينا

وعليه "فأن استراتيجية السيطرة تصطدم بحاجز الممانعة النفسية الجمعية ضد الاعتراف بشرعية ذلك الإخضاع المادي"، وهنا بحسب بلقزيز يأتي دور الأيديولوجيا التي تحاكي العقل الجمعي وهنا يستخدمها بلقزيز كأداة ادماج وليس هيمنة، كما ذهب الى ذلك ماركس، فمن وظائفها خلق الأرضية الخصبة للشرعية، عن طريق تحقيق الانتقال الضروري لتلك الشرعية، من استراتيجية الإخضاع، إلى استراتيجية الإقناع.

كما إنه يعتقد إن لجوء السلطة إلى ممارسة القهر السياسي ليس تعبيرًا عن القوة أو عن فائض في القوة لديها كما قد يُظن، وإنما بالعكس هو تعبيرٌ عن مقدار ما تعانيه من عجز في القوة، وهذا معناه من وجه آخر أن معيار قوة الدولة ليس ماديًا فحسب وفي جميع الأحوال، فمعيار قوة الدولة المعاصرة هو القوة الاقتصادية والخدمية والرعائية، وما في معناها من السجايا التي تكون بها الدولة قوية في اعين مواطنيها وجديرة باحترامهم وولائهم لها.. ويؤكد بلقزيز أن القوة الحقيقية للدولة هي القوة غير المادية، هي قوتها الأخلاقية وقوتها الإنجازية هي التي تحقق بها الدولة الاستقرار السياسي والامن الاجتماعي وتضمُنهُما.

إنَّ أفكار الفلاسفة والكتّاب حول عنف الدولة قد انتهت بنهايات سارت في سكة تقليصه وتحجيمه، فما من نظام في العالم استطاع إلى اليوم أن يتخلص من العنف السلطوي حتى أكثر الدول ديمقراطية، يقول جورج زيناتي في كتابه الحرية والعنف "لا شيء يبرر أي عنف، وكل عنف هو عمل بربري متجدد... نحن نحاول أن نفهم فحسب كيف أن نتخلص منه كما نتخلص من مرض متفش".

 

اقرأ/ي أيضًا:

لبنان الذي يكاد يغيب عن مداركنا

المثقف العربي داعمًا للعنصرية في ألمانيا