06-ديسمبر-2015

غرافيتي لـ حنا آرندت في هانوفر (Getty)

نشرت هذه المقالة عن بعض أعمال الفيلسوفة حنا أرندت بعد وفاتها في الرابع من كانون أول 1975 وقد كتبتها صديقتها جوديث شكلار أستاذة العلوم السياسية في جامعة هارفرد، ونشرت أوّل مرة في السابع والعشرين من كانون أوّل 1975، وأعادت صحيفة ذا نيو رببلك نشرها في الأمس في ذكرى وفاة أرندت.


إنّه لجدير بحياة الفيلسوف ومماته أن يحوزا أكثر من مجرّد أثر شخصيّ علينا. حين توفّيت حنا أرندت في الرابع من كانون أول 1975 نعاها أصدقاؤها وطلابها، ولعلّ البعض أدركَ حينها أنّ الثقافة التي تشظّت حالها قد فقدت آخر ألمع أصواتها، فلم يعد هنالك من يتحدث بوضوح وعمق عن تجربة يهود ألمانيا، فقد كانت أرندت من الثلة الباقية من جمهورية روحية كان تاريخها الاجتماعي فظيعًا وعابرًا بقدر ما كان مصدر إشعاع وذا أثر باق على المستوى الفكريّ.

بحثت أرندت على خطى أرسطو ومونتسكيو عن مبادئ التوتاليتارية لا عن تاريخها

لقد بدأت أرندت عملها فيلسوفةً في موضوع لم يكن مرتبطًا باليهود ولا بالألمان، بل كانت لها أطروحة تناولت فيها مفهوم الحبّ عند سانت أوغسطين، إلا أنّها سرعان ما أدركت أنّه ليس من الممكن المكوث طويلًا عند التاريخ ولذلك انتقلت إلى دراسة حياة أول الممثّلين لعملية الاندماج اليهودي وهي راحيل فارنهاجن (1771- 1833). ولم يكن القصد من ذلك كتابة ترجمة عن هذه الشخصية بقدر ما كان محاولة للنظر في وضع تلك المجموعة ومعرفة مآلاتها. لقد كرست راحيل حياتها كاملة بعد خروجها من الغيتو لدراسة غوته والتعمق في الشعر الألماني بشكل عام. ولم تتمكن راحيل من التعايش مع يهوديّتها، وهي الهويّة التي كانت تخجل منها، إلا على فراش موتها. ولم يكن من الممكن رؤيتها إنسانة بالمعنى الحقيقي، كما رآها هنريك هاينه، إلا في تلك اللحظة.

ورغم أنّ أرندت لا تميل إلى التعاطف مع هذا الضعف الأخلاقي، إلا أنّها لم تكن لتردّ تلك التطلعات الكونية لتلك الحياة الفرديّة. وحين كتبت أرندت بعد عدة سنوات عن روزا لوكسمبرغ، والتي كانت معجبة بها أيّما إعجاب، لم تنس أن تذكر معرفة بطلتها العميقة ومحبتها للشعر الألماني. ولم يكن ذلك كلّ شيء. لقد كانت ثقافة التنشئة الألمانية "البيلدنج" منذ القرن الثامن عشر تمنح من يلتزم بها معرفة كاملة وتعلقًا كبيرًا بالكلاسيكيات، خاصة بالآداب والفلسفات اليونانية. ومع أنّها لم تنسَ القدس قط، إلا أنّ الحياة الفكريّة لأرندت قد تشكّلت في كل منعطفاتها بذاكرة مرتبطة بأثينا.

وبهذا الإرث شرعت أرندت في عملها كمنظرة في المجال السياسيّ، وكانت التجربة الأكثر قوّة وأبلغ تأثيرًا عندها وعند معاصريها هي تجربة المنفى. ليس من السهل التعبير عن آلام المنفى بشكل مباشر ويكاد يستحيل نقل صورة عن هذه الآلام لمن لم يكابدها. ومع هذا فإنّ أرندت تناولت في أولى مقالاتها السياسية هذا الموضوع، وبطابع فلسفي بحت. وبصرف النظر عمّا كانت تتمتع بها فكرة حقّ الإنسان أمام حقّ الدولة، إلا أنّها ترى أنّه في عالم الدول الوطنية صار عدم الانتماء إلى دولة يعني أنّ الإنسان لا يتمتع بأي حقوق، وبات الانتماء إلى مجتمع سياسي هو الحقّ الأول للإنسان، ومن دون هذه العضويّة يكون الإنسان مشردًا غير مرغوب فيه، أي أنّه يصبح فضلة لا قيمة له. وقد شكّلت تلك المقالة وتحليلها للطريقة التي استحال فيها الإنسان إلى فضلة، الأساس الذي قام عليه كتابها الأول والأكثر شهرة: أسس التوتاليتارية، والذي لا يتناول بدايات هذا الشكل من أشكال النظام، وإنّما يحلله من ناحية جوهريّة.

وقد بحثت أرندت على خطى أرسطو ومونتسكيو عن مبادئ التوتاليتارية لا عن تاريخها. وفي حين كان الخوف هو المبدأ الذي اعتمدت عليها الأنظمة المستبدة القديمة، فإن العنف هو ما اعتمدت عليه الأنظمة التوتاليتارية الحديثة، وهي متميّزة عن سواها ليس لما تمتلكه من أدوات تقنية وتنظيميّة وحسب، ولكن لجوهر التنظيم الذي تقوم عليه أيضًا، إذ إنّ هدف هذه الأنظمة هو العنف كغاية في حد ذاته. ولم يكن ما يحرّك حكّام تلك الأنظمة مصالح ذاتية ولا الأموال ولا زيادة السلطة بقدر ما يحرّكهم رغبةٌ لتحويل الناس إلى أدوات للسلطة منزوعة من شخصيّتها لتستخدم من قبلهم، ولهذا قاموا بوضع آليّات جديدة تمامًا للحكم والسيطرة. لقد كانت أوروبا حين أجهزت الإمبريالية ومعاداة الساميّة على نظام الطبقات والدولة فيها جاهزة للعرقيّة والحرب الطاحنة والأحزاب التوتاليتارية وقادتها.

 لم يكن "أسس التوتاليتارية" معنيًا بتناول أشخاص بقدر ما كان معنيًا بتحليل ديناميكيات تصدّع الحياة العامّة في أوروبا

لقد آل عالم الجماهير إلى حتفه. ثم صار من الرائج انتقاد فكرة التوتاليتارية بوصفها اختراعًا من زمن الحرب الباردة صمّم خصيصًا لاستغلال وتوجيه الأفكار المعادية للفاشية من أجل مواجهة روسيا السوفياتية. وبغض النظر عن مقدار الحقيقة في ادعاء كهذا، إلا أنّه لا ينطبق على كتاب أرندت، ذلك أنّ نطاقه كان أوسع مما يوحي به العنوان. فلم يكن الكتاب معنيًا بتناول أشخاص أو حكام بعينهم بقدر ما كان معنيًا بتحليل ديناميكيات تصدّع الحياة العامّة في أوروبا. ووفقًا لهذه النظرة فإن التوتاليتارية تصبح النموذج والاحتمال المستمر لعالم أقل ما يمكن وصفه به هو أنّه فقد نصف عقله.

أمّا كتابها الثاني والأكثر عمقًا فقد كان بعنوان الوضع البشريّ والذي يتناول قصة شبيهة ولكن بنفَس مختلف وأقل تشاؤمًا. إنه بيان لذلك الانعكاس العظيم في القيم الذي يجعل العالم الحديث الوجه الآخر للعصور القديمة. فإن كنا نريد أن نفهم أنفسنا، فإن علينا النظر إليها بمقارنتها مع اليونان، وإن لم نعد قادرين على التفكير مثلهم، فإنّنا أيضًا لن نكون قادرين التفكير من دونهم. ومع أنّ أرندت لم تُظهر تلك النوستالجيا التي كانت شائعة بين مفكري المنفى الآخرين، إلا أنّها كانت تتوق إلى تلك الحكمة الضائعة للفلاسفة القدماء، وذلك لأنهم كانوا يضعون التأمل في أعلى المراتب في حين كانوا ينظرون إلى العمل على أنّه أدنى مراتب السعي البشري، أما نحن ففعلنا العكس وأضعنا وجهتنا ووعينا بذاتنا. لقد كانوا يحتفون بالنشاط العام، أمّا نحن فنسينا أنّ الخصوصيّة ليست إلا حالة من الحرمان المدنيّ. وفي حين كانوا هم ينظرون نظرة ثانوية إلى الأعمال الاقتصادية أصبحنا نحن نعبدها.

لقد حافظت المسيحية على الأقل على شيء من تلك الحياة المجتمعية التأملية، ولكن العلوم الطبيعية وذلك الجنوح نحو الشكّ بطريقة منهجية موجّهة نحو الذات دمّرت ذلك، وبدلًا من أن تعمل على تحريرنا وضعتنا على محكّ الحتميّة. إننّا نتعلق بالعيشِ فحسب بعد أن تغرّبنا عن عالم الطبيعة والتاريخ، ولم نعد قادرين على إدراك الحقيقة وبتنا محرومين من الإدراك السليم والسلطة والتقاليد. لقد حرمنا أنفسنا من ميراثنا، حتّى بعد غياب تلك الأنظمة المحكومة بالشر الخالص. وما منح كتاب الوضع البشريّ أهميّته ليست الرسالة التي احتواها وإنّما الطريقة التي سلكتها أرندت في بيان آرائها في الكتاب وذلك في نسق من فلسفتها التأمليّة وتاريخ الأفكار والتجربة المشتركة حيث يأتلف ذلك كله في شبكة واحدة تذكّرنا كثيرًا بهيجل.

"في الثورة" هو الكتاب الأخير في ثلاثيتها في مجال النظرية السياسية. وقد يبدو هذا الكتاب لأول وهلة كأنه احتفاء بتلك الثورة الأمريكية التي نجحت بينما فشل ما سواها. لم يكن الثوار الأمريكيون مضطرين للتعامل مع المسألة الاجتماعية وذلك لأنّهم لم يكونوا في حالةٍ من البؤس، كما لم يكونوا مدفوعين نحو سياسة الشفقة كما كانت الحال عند اليعاقبة فيما أصبح بعد ذلك سياسة العنف. كما أنّ الآباء المؤسسين كانوا قد ساروا على نهج مونتسكيو وكانوا يدركون أنه لا انفصال بين السلطة والحرية. أمّا الفرنسيون فكانوا مخلصين لأفكار روسو وانتقلوا من الحكم الملكي المطلق إلى الحكم الشعبي المطلق باحثين وراء إرادة عامّة بلا قيد. وقد أتاح توزّع السلطة على نطاق واسع أن يقوم الأمريكيون بوضع دستور لهم بأنفسهم بدل أن يُفرض عليهم من سلطة عليا. وبالرغم من هذه الإشادات التي ترد في الكتاب، إلا أنّ أرندت أنهت كتابها بالتنويه إلى ذلك النّوع من الوطنيّة الذي لم يكن مجرّد امتنان المهاجر إلى تلك الأرض.

قوة المنطق وازدراء الوهم هما ما دفعا أرندت للنظر بحذر إلى الواقع السياسيّ

ولعلّ التبرّم بالانحدار المتواصل هو أحد علامات الوطنيّة الأمريكيّة الآن، وهو تبرّم نجده أيضًا لدى أرندت. إنّ النجاحَ الثوريّ قد أغرى بحالةٍ من الفتور الأخلاقيّ والفكريّ وعدم اكتراث بالمشاركة السياسيّة وكان هذا من أسباب النجاح الأولى. وقد رأت أرندت كما رأى من قبلها دي توكفيل أن المؤسسات التطوعية والتأكيد على الحقوق السياسية للأقليات هو أفضل أمل وأعظم قوة للفضيلة العامة في أمريكا. ومن دون هذه الأشكال من الوقاية ضدّ الوهم والكذب والخداع، فإن أولئك الذين يدّعون القدرة على حلّ المشاكل مّمن انتشروا كالوباء في حكوماتنا سينجحون في خلق واقع مضادّ تكون فيه الحكومة هيئة للحساب والناس فيه عوائق لا بدّ من التخلص منهم.

لقد احتلت فكرتا الانحدار والفساد مكانة أساسية في فكر أرندت بوصفهما موضوعة كلاسيكية. وإن كان هتلر قد قدّم الدافع المباشر، فإنّ أفلاطون وأرسطو هما أساسان سابقان من أسس فلسفتها. ولم تكن أرندت لتعقد مقارنات سخيفة بين جمهورية فايمر الألمانيّة وأمريكا، ولكنها لم تكن لتتحول إلى النظرية السياسية لولا النظر في حال تلك الجمهورية ولما انتقلت لدراسة سياسة العنف كميدان رئيس لأبحاثها.

إن الفلسفة السياسيّة فكرة مأساوية، ومن دون امتلاك شعور درامي بالمصير والتحوّل لا يمكن لأي مفكّر الانتقال إلى هذا الموضوع البغيض. لقد كانت قوة المنطق وازدراء الوهم هما ما دفعا أرندت للنظر بحذر إلى الواقع السياسيّ. ولا شكّ أنّها حققت نصرًا فكريًا عظيمًا من أجل أن تقدّم ما تعدّه هي فكرًا متناسقًا ومفهومًا للآخرين، وقد كان هذا نصرًا على المستوى الشخصيّ لها، وعلى مستوى الخطاب السياسيّ المفتوح وتقاليده أيضًا.

اقرأ/ي أيضًا: 

إدوارد الخراط.. سيرة انشقاق

لا وحشة في قبر رضوى