04-ديسمبر-2016

فرقة أغاني ديسكو في السبعينيات (ويكيبيديا)

بعد أن قرأت بعض الكتب التي تعيد دراسة التاريخ أصبح لدي هوس السؤال عن أصل الشيء وسياق نشأته الزماني والمكاني. ووجدت أثناء بحثي أنني لست وحيدًا، فهناك برامج بودكاست كثيرة قائمة على استقصاء الأحداث التاريخية منها "رفيجينست هيتوسري" للصحفي الشهير مالكلوم جلادويل، و"أن دن" للصحفي بات ولتر من شركة "جمليت ميديا"، و"إن ذا دارك" للصحفية ميديلين بارن من"أن بي أر ريبورتس".

وأثناء ترجمتي لكتاب مالكولم جلادويل "بلينك"، صادفت فئات موسيقية مثل "بنك ميوسك" و"التيرناتف" كان من الصعب شرح الاختلافات الفنية فيما بينها دون إسهاب، خصوصًا أن بعضها مرتبط بأحداث وأشخاص يجوز القول إنه من المستحيل التعرف عليهم إن لم يكشفوا عن أنفسهم.

حدث بسيط مثل أن يتعرض أحدهم للضرب بحي مظلم في شيكاغو، قد يكون سببًا في ولادة فئة موسيقية جديدة

ما أرمي إليه بالضبط، هو أن حدثًا بسيطًا مثل أن يتعرض أحدهم للضرب في حي مظلم في شيكاغو قد يكون سببًا أساسيًا في ولادة فئة موسيقية جديدة تستمر من أوائل الثمانينيات وحتى يومنا هذا. وفي سياق ذي صلة، فإن كنت من الحانقين من فوز شخصية فاشية مثل ترامب، فلابد أن قصة "فنس" ستجد لديك صدًى يتردد من عنصرية ثمانينيات القرن الماضي.

اقرأ/ي أيضًا: في انتظار الديلر: ثورة الذوق (1-2)

في 12 تموز/يوليو 1979، جرى تنظيم مباراة بيسبول في ملعب كيمسكي بارك في مدينة شيكاغو بين فريقي "شيكاغو وايت سوكس" و"ديترويت تايجرز". لكن هذه المباراة كانت استثنائية، لأن فريق وايت سوكس استخدم راديو الروك "ذا لوب" ودي جي الإذاعة نفسها ستيف دال المناهض لموسيقى الديسكو ليملأ كراسي الاستاد في الملعب، وذلك من خلال الإعلان عن عرض يسمح للجمهور بالدخول بـ98 سنتًا فقط إذا سلّم الزائر عند المدخل اسطوانة ديسكو. وكان ضمن جدول المباراة فقرة لتدمير اسطوانات الديسكو التي يتم جمعها من الجمهور بين الشوطين، وعرفت تلك الليلة بــ"ديسكو ديموليشن نايت".

لم يكن هناك من هو أفضل لهذه المهمة من الدي جي ستيف دال قائد فرقة "تين إيج رادييشن"، المعروف بكرهه للديسكو، والمشهور بلباسه الغريب وخوذته العسكرية الملازمة له. هذا الأخير هو أحد مؤسسي الحركة المناهضة للديسكو لأسباب سنأتي على ذكرها لاحقًا، حيث عرف باستهزائه بموسيقى الديسكو وملابس مغنييها ذوي البدلات البيضاء، وقد وضع يده في يد الدي الجي ماثيو مايرز (اسم مستعار) للسخرية من محطة WDIA Chicago التي تحولت من الروك إلى الديسكو، وأنتج أغنية تسخر من موسيقى الديسكو حقق بها شهرة كاسحة.

المباراة
نجحت فكرة القائمين على المباراة واستقطبوا جمهورًا غفيرًا، حتى أن الاستاد امتلأ عن أكمله، وكان حول الاستاد ما يقارب 20 ألف شخص لم يستطيعوا الدخول. لم تحضر هذه الجماهير بسبب المباراة بالطبع، بل بسبب الإعلان الذي كان الهدف من ورائه إحداث فقاعة إعلامية، والذي تحول بدوره إلى كارثة. عند البوابات، كان باستقبال الجماهير المتحمسة منظمون يستلمون الاسطوانات ممن حضر، وكان بين هؤلاء المنظمين فتًى يدعى فنس لورينس يبلغ من العمر 15 عامًا حينئذ، وقصته في تلك الليلة ترتبط بموسيقى اليوم ارتباطًا وثيقًا.

بقت موسيقى الهاوس حتى منتصف الثمانينيات تحت الأرض، لكنها اكتسحت بعد ذلك عالم البوب ووظفها مغنون مثل مادونا، وجانيت جاكسون

يقول فنس: "كنت سعيدًا جدًا للعمل كمنظم عند بوابة الملعب، وبيد أنني من محبي الديسكو، إلا أنني كنت أحب الدي جي ستيف دال أيضًا، وكنت أنوي أن أحتفظ باسطوانات الديسكو الجيدة التي أحضرها الجمهور ولم أكن أمتلكها. لكن لاحظت عندما بدأت باستلام الاسطوانات أن الكثير منها كانت لمغنين أمريكيين سود مثل "مارفن جي" و"ستيفي وندر"، ولم تكن من فئة موسيقى الديسكو، فاعترضت على دخول هؤلاء الذين خالفوا الشرط. إلا أن مديري أمرني أن أتغاضى عن هذا الأمر وألا أمنع الناس من التمتع بعرض الدخول "إذا كانت من الفئات المشابهة"، ولم أعر هذا الأمر اهتمامًا في حينها".

اقرأ/ي أيضًا: سيزاريا إيفورا.. إلهة سمراء تغني حافية

في الاستراحة بين اللعبتين دخل ستيف دال بزيه العسكري إلى منتصف الملعب على سيارة جيب وهو يهتف على المايك شعار حملته: "ديسكو سَكْس"، حيث تم جمع الاسطوانات في حاوية وتفجيرها. إلا أن الجمهور لم يتوقف هناك، فنزل وبدأ بتدمير الملعب، ومن ثم ألغي القسم الثاني من اللعبة وجاءت الشرطة لتفرق الحشود. يقول فنس: "أثناء هذه الفوضى، جاءني رجل أبيض، ووقف أمامي وكسر اسطوانة لمارفن جي وهو يصرخ "ديسكو سَكْسْ". لم أفهم حينها لماذا فعل ذلك مع أنني أرتدي قميصًا عليه نفس الشعار الذي يهتف به، ولم أتنبه إلى أنني أسود وأن الاسطوانة سوداء مثلي!".

حتى نفهم ما حدث، يجب أن ننظر إلى الديسكو من منظور اجتماعي وتاريخي. فكلمة ديسكو أتت من (ديسك) لأن الناس كانت تستعيض بهذه الاسطوانات في الحفلات والملاهي عن الفِرق الموسيقية. وما يميز موسيقى الديسكو من ناحية التركيب هو إيقاعها الرباعي المتكرر، أي الذي يتميز بأربع ضربات متكررة في مقياس الزمن "الموسيقي". وكان يشار إليها بــ"فور تو ذا فلور" إشارة إلى دق الطبل الكبيرة ببدالة القدم أربع مرات مستمرة كجزء من تركيبة الإيقاع.

أما قاعدتها الجماهيرية فكانت من الأقليات مثل الأمريكان السود والطليان المهاجرين بشكل عام، والمثليين من البيض والأقليات على وجه الخصوص. وأصبحت الديسكو الموسيقى الحصرية لمراقص المثليين والأمريكيين السود في نيويورك، خصوصًا بعد مظاهرات بار "ستونول إن" العنيفة، وإشهار المثليين لأماكن تواجدهم على العلن. وحتى تكتمل الصورة، كان معظم المغنين ضمن هذه الفئة من السود؛ مثل فرقة ذا أو جيز ودونا سمر وباري وايت وغيرهم الكثير.

دخلت الكثير من هذه الأصوات عالم الغناء بعد مسيرة في الغناء الكنسي، قبل أن تتعرض موسيقى الديسكو للتطهير العرقي؛ أي استيلاء كبار المغنيين والفرق الموسيقية من البيض والسود مثل رود ستيوارت ورولنج ستونز عليها من الأسماء الصاعدة غير المشهورة وتصويرهم على أنهم المؤسسون لها.

موت الديسكو وولادة الهاوس
بحلول عام 1979، كان الديسكو قد انتشر بشكل هائل، فكان هناك أكثر من 20 ألف مرقص ديسكو، وذهبت نصف جوائز "الجرامي" ذلك العام إلى موسيقى الديسكو، إضافة إلى تحول العشرات من المحطات الإذاعية المشهورة من موسيقى الروك المهيمنة على الساحة الغنائية إلى أغاني الديسكو، وهنا تبدأ قصة ستيف دال. عمل سيتف دال دي جي في محطة WDIA Chicago، وتم الاستغناء عن خدماته في 24 ديسمبر 1978 لأن مدير الإذاعة قرر التحول من موسيقى الروك إلى الديسكو. فحقد ستيف على الموسيقى وصانعيها ومستمعيها وبدأت حملة "ديسكو سَكْسْ" التي أصابت موسيقى الديسكو في مقتل ليلة 12 يوليو 1979.

كلمة ديسكو أتت من (ديسك) لأن الناس كانت تستعيض بهذه الاسطوانات في الحفلات والملاهي عن الفِرق الموسيقية

بدأت موسيقى الديسكو منذ تلك الليلة بالاحتضار، حيث تدنت مبيعات الاسطوانات، ولم يعد هناك من يرغب في إذاعتها على الراديو أو حتى تنظيم حفلات غنائية لهذه الفئة. لكن عندما لفظت هذه الفئة أنفاسها الأخيرة في معلب كيمسكي بارك، ولد نوع جديد من الموسيقى هو "الهاوس" في نفس المكان الذي وئدت فيه الديسكو، حرفيًا.

يقول فنس: "كنت مهووسًا بالموسيقى من صغري، وقد أخذني أبي مرة عند أحد أصدقائه الذي كان ينتج موسيقى "فنك"، وكان ضمن فرقته عازف على آلة السينثاسايزر، وعندما رأيته، عرفت في لحظتها ماذا أريد أن أصبح حين أكبر".

اقرأ/ي أيضًا: ملحم بركات... إرث الأحزان الشفيفة

يقع ملعب كيمسكي بارك في حي "بريدج بورت" الذي كان معروفًا بخطورته إذا كنت من الأمريكيين السود. يقول فنس: "بعد أيام من المباراة كنت عائدًا من المدرسة إلى البيت عبورًا بحي بريدج بورت، فوقفت بجانبي سيارة كبيرة فيها مراهق أبيض، وجرت بيننا المحادثة التالية

1: "What the fuck are you doing here"
فنس: "Going home"
1: "No coons live in this neighborhood، you better get the fuck outa here nigger"

يقول فنس فجريت بكل ما أوتيت، إلا أن الشاب لحق بي وأوسعني ضربًا حتى بات وجهي كالعجين.

استطاعت الشرطة أن تعتقل الشاب في نفس الليلة، فعرض محامي الشاب على فنس أن يدفع له مالًا مقابل أن يتنازل عن حقه. يقول فنس: "كنت أعرف متجر الآلات الموسيقية وأحفظ أسعاره عن ظهر قلب، وأول ما خطر في بالي هو المبلغ الذي أحتاجه لشراء آلتين سينثاسايزر، فطلبت تعويضًا بقيمة 6500 دولار".

ومن هنا بدء فنس مع فرقته "ذي فاكتر" باستخدام السينثاسايزر لتأليف موسيقى "مركزة" من الديسكو، حيث أخذت هذه الموسيقى كل ما في الديسكو من السرعة والإثارة والطاقة لكن بدون كلمات، واتخذ مسمى هذه الفئة من البار "شيكاغو ويرهاوس" الذي كان يعزف فيه الدي جي الشهير فرانكي نكلز موسيقى الهاوس، وهو بار للمثليين.

بحلول 1979، كان الديسكو قد انتشر، فكان هناك أكثر من 20 ألف مرقص ديسكو، وذهبت نصف جوائز "الجرامي" ذلك العام إلى هذه الموسيقى

لم ينته الديسكو تمامًا كما صوره الإعلام، لأن الهاوس جاءت لتحل محل الديسكو. وكان تعرض فنس للضرب في نفس المكان الذي وئدت فيه الأخيرة أحد الأسباب التي حولته إلى أحد مؤسسي الهاوس. يقول فنس: "لم يكن باستطاعتي الدخول إلى بار شيكاغو ويرهاوس، لذلك بدأنا بتنظيم حفلات للمراهقين في حظائر ومستودعات "ويرهاوسس" جذبت آلاف الشباب".

بقيت موسيقى الهاوس حتى منتصف الثمانينيات تحت الأرض، لكنها اكتسحت بعد ذلك عالم البوب وبدأ مغنون مثل مادونا، وجانيت جاكسون بتوظيف جوانب من موسيقى الهاوس والديسكو في أغانيهم، وحتى اليوم في أغاني جستن بيبر وريانا ودي جي سيرلكس وكالفين هارس ودبلو.

لم تكن ليلة تدمير الديسكو بسبب الموسيقى، بل كانت بسبب الغضب النابع من عنصرية وجهل الرجل الأبيض تجاه المثليين والأقليات التي تشكل القاعدة الجماهيرية لهذه الموسيقى، والتي "سرقت" المراقص وإذاعات الروك والجوائز والمهن ممن كانوا يعتقدون أن الحياة وهبت لهم فقط. وما يجعل الأمر أكثر سخرية وأكثر قربًا من واقع اليوم، أن مهرجًا مثل دان هال استطاع أن يفعل ذلك فقط لأسبابه الشخصية عبر ركوب موجة الكراهية والعنصرية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

تانيا صالح في القاهرة.. مع العسكر في كل مكان

عن فيروز.. بلا سبب

مارون العواد يدندن وحيدًا