02-أغسطس-2016

غرافيتي في بيروت

على ضفاف البحر الأبيض المتوسط، يقع أكبر معهد موسيقي في مدينة الدار البيضاء، وسط شارع باريس المعتق الذي يشهد على حقبة زمنية مهمة في تاريخ المغرب. بمجرد وصولك مدخل الشارع من جهة ساحة "مارشال" يتسحب إلى أذنيك عزف نوتات وصوت كورال تتباين درجة أدائه مع تباين المستوى الموسيقي لمؤديه. 

لم تجتمع في الغناء العربي أقطاب النجاح من صوت ولحن وإحساس كما اجتمعت في أغنيات فيروز

كلما اشتد بي شجن الحب وعذابته أجدني أتجه صوب هذا المعهد الموسيقي، الذي يخصص يوم الثلاثاء من كل أسبوع للمدرسة الرحبانية وفيروز. كل يوم ثلاثاء أهرب إلى فيروز، أدوزن ساعات ما بعد الظهيرة على أنغام أغانيها، فالسيدة لها من اسمها نصيب كبير، وفي صوتها صفاء الحجر الكريم الذي تحمل اسمه. ابنة حارة زقاق البلاط، الأسطورة التي تولد كل صباح، توقظ ورد الروح داخل كل من لامست أذناه ترنيمة لحب رحباني، يصل صداها إلى قلب يخاطب نفسه: "يا طيِب القَلـبِ، يا قَلبي تحـملني، هُم الأحبة إن غابوا وإن حضروا".

اقرأ/ي أيضًا: نادين الخالدي.. نحن أيضًا شعوب تحب الطرب

لم تجتمع في الغناء العربي أقطاب النجاح من صوت ولحن وإحساس كما اجتمعت في أغنيات فيروز، من حنين صوتها، ورقة كلماتها، وجمال شجن مواويلها، ولهذا تستحق أن نكتب عليها، وعن صدق أدائها، وعن أشياء أخرى تحملها وتترجمها إلى خطاب موسيقي استثنائي، يحمل من الأمل والحب والصفاء والنقاء والألفة والسلام ما يحمل.

فيروز قطعة من السماء، كيف لا وهي جارة القمر؟! يتحرك صوتها شاديًا ألحان الرحابنة، متغنية بطفولة لم يجف ماؤها بعد، ساعية وراء أزمنة جديدة وغريبة عنها، تفتش بين حارات القدس العتيقة، راسمة طريقًا من لبنان "إليك يا تونس الشقيقة"، وتحت ياسمينات الشام نسمت صباحًا رائحته سوريا، متغنية بمكة الأصيلة وسط مساءات الأردن، بقصائد بغداد وشعرائها، وزمن يسافر بالوصل إلى دروب الأندلس المغتصبة.

فيروز، الأغنية التي تنسى أن تكبر، ترسل حنجرتها الذهبية أنفاسًا تشترك فيها النشوة كالشذى الطيب النفاذ، تأخذني أنا وهؤلاء الصغار، تلامذة المعهد، وتتخلق في هالة الطرب على هيئة امرأة جميلة، امرأة اختارت الوقوف أمام ميكروفون عصي الانحناء كظهرها، ووفوق هذا الفيض من الجمال الفيروزي، تجد ضحكة فيروز حبيسة ثغرها اختارته مقاما لا تبرحه.

غاستون باشلار: "إن أصفى حبّ هو ذلك الذي خسرناه"

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "أخوات السرعة".. فلسطينيات سريعات وغاضبات

قال باشلار يومًا "إن أصفى حب هو ذلك الذي خسرناه"، ولعل أصفى ما خسرته فيروز هو عاصي الرحباني، فقيد مشوارها ووالد أبنائها، ومنبع الـ"آه" في أغنياتها، وكلما جلست على كرسي وسط فصل دروس الثلاثاء أتخيل عاصي الرحباني يرسم نوتات موسيقية في الفضاء، يحرك أصابعه وفق معزوفة متناغمة تلتقطها فيروز بقلبها وتترجمها إلى أداء. أجلس وأتساءل ماذا عن الرجل الذي أمسك بيد صوتها؟ الرجل الذي حرك وتر العزف ومزجه بالكلمات؟ ماذا عن فيروز مع عاصي الرحباني. وما قدماه من عاطفة مرسومة في انتصار يليه تصفيق جمهور. انتصار للحرية والأرض والحب والأمل.

عبرت فيروز بوابة الثمانين، وبهذا العبور سجلت عراقة الأغنية العربية الأصيلة، وإتقان قصيدة لن تنسى، وعلى قول زيادها "بلا ولا شي... بحبك، بلا ولا شي"، وفعلًا بلا وشي يمكن الكتابة دائمًا عن فيروز الاستثنائية، الظاهرة التي لن تنتهي، جملة لا غير: فيروز رائحة لبنان العطرة.

اقرأ/ي أيضًا:

فادي فيّاض.. أن تصير المشاعر ألوانًا

فيلم "هيبتا".. حكاية الأدب التجاري والسينما