04-مايو-2022
touch

باللمس نألف وننفر

ما أن يخرج الرضيع من رحم أمه حتى يباشر رحلة اللمس والتذوق. ثدي الأم هو الجسم العضوي الأول الذي يلمسه ويتذوق طعمه. وبهذا اللمس، صانع الألفة، والتذوق، الذي يصنع الحب، يباشر الرضيع رحلته في هذا العالم مسلحًا بقدرته على الحب، وعلى أن يكون محبوبًا معًا وفي آن.

باللمس نألف وننفر. ندرب أنفسنا على لمسة المتعة حين يكون الآخر الذي نتواصل معه محبوبًا أو في مرحلة من المراحل التي تسبق الحب. وندربها على لمسة الرقة حين يكون الآخر ضعيفًا ومحتاجًا لنا. وبين اللمستين، الممتعة والرقيقة، تنحصر كل علاقتنا بالآخر والعالم على حد سواء. ذلك أن العالم في حقيقته وفحواه ملموس وليس منظورًا. الهواء ملموس والبرد والحر ملموسان، وجلد الحبيبة ملموس، والجرح القديم ملموس، ومتطلب لمس، والأجسام المرغوبة تدعوك إلى لمسها. وما أن تباشر اللمس، أو تألفه حتى تنتقل إلى المرحلة التالية، مرحلة تعميق العلاقة بالآخر التي لا يمكن تحقيقها إلا بالتذوق. والتذوق سيان، فم الحبيب، أو لقمة الطعام. في الحالين أنت تتذوق لكنك لا تكف عن اللمس، تكتشف بلسانك، والأرجح أنه بين الأعضاء اللامسة هو رئيسها، نسيج اللحم الذي تلوكه، وبه أيضا تكتشف طعمه الذي يستساغ بالتكرار والتعود.

باللمس نألف وننفر. ندرب أنفسنا على لمسة المتعة حين يكون الآخر الذي نتواصل معه محبوبًا أو في مرحلة من المراحل التي تسبق الحب. وندربها على لمسة الرقة حين يكون الآخر ضعيفًا ومحتاجًا لنا

في العلاقة الحميمة بين شخصين، يحدث أن نرفض الآخر ونتقبله بالنظر. فيذهب المرء إلى الظن أن الجسم الماثل أمامه ليس شهيًا بدليل أنه اُستعمل كثيرًا إلى حد أن علامات استعماله أصبحت ظاهرة عليه: طعام كثير على مدى سنوات طوال جعلت وزنه زائدًا، وعمل طويل ومرهق على مدى سنوات جعلت تجاعيد وجهه ظاهرة، وأبرزت بطنه، فلم يعد يملك سلطة عليه. وعليه نقرر بأعيننا أن الجسم المستعمل غير صالح للتآلف معه، فنتجنبه. ذلك أن فكرتنا عن العيش تتلخص بكونه مفسدًا. فالأصل بتول، وما المستعمل إلا بتولًا وقعت عليه إضافات غير مرغوبة، منعت عنه صفته. العيش في وعينا هو إفساد ما كان جميلًا. الحياة بالنسبة لنا تبدو مجمع نفايات وكلما أطلنا المكوث فيها كلما تعلقت هذه النفايات على أجسامنا. هكذا لا نكف عن غسل جلودنا، وهي الحد الذي لا يمكن لأي آخر تجاوزه، حتى لو كان حبيبًا، لأننا نريد أن نغسل نفايات الحياة عنها. تلك النفايات التي تتراكم خارجًا وداخلًا. وإن كنا نستطيع بسهولة أن نكشط روائح الحياة عن جلودنا، إلا أننا لا ننجح في إخراجها من أحشائنا. فنهرم وتتجعد وجوهنا، وفي هذا ما يشبه إشارة للآخر لكي يتمنع عن محاولة اللمس.

لكن العين التي تفرز اعتباطا البتول عن المستعمل، تخطئ كثيرًا ودائمًا. فالخصر الذي تريده العين ضامرًا وأملس، يصبح لا نهائيًا حين نلمسه ولا يعود بإمكان مداركنا أن تحيط بحدوده اللامتناهية. يصبح ملتفًا ومستديرًا على نحو يجعله بلا حدود يمكن إدراكها باللمس. لذلك، ولأننا في قرارتنا نعتقد أن العيش حقير ومقرف، نعود لننظر إلى الخصر حتى نتأكد مرة أخرى أن اللمس لم يخدعنا وأن هذا الخصر ليس لا نهائيًا وبلا حدود.

بخلاف العين، ينحو اللمس إلى التآلف مع العيش، إلى تقبله والوقوع في حبه. ومن دون تدريب هذه الحاسة جيدًا، يعجز المرء أن يتعرف إلى نفسه والآخر على حد سواء.

نحن نلمس الجلود التي صقلتها مستحضرات العناية بالبشرة، والتي طردت تصاريف العيش عنها بالماء والصابون. وكل كلام عن رغباتنا الحارة بالآخر، المعتنى به على النحو الذي يحصل كل يوم وفي كل مكان، هو ضرب من التدليس

في العلاقة مع حيواناتنا الأليفة نحن نمارس هذا الطقس الحيوي من طقوس العيش، نلمس ما ليس مألوفا لنا، ونتعود على استساغة الملمس والتعود عليه، ما يسمح لنا بأن نحبه. لكننا في علاقتنا مع بعضنا البعض كبشر، نتجنب اللمس إن لم يكن جسم الآخر قد أنجز فروض طرد ملامحه واستبدالها بملامح وملامس لم تكن مرة أصيلة وحقيقية فيه. نحن نلمس الجلود التي صقلتها مستحضرات العناية بالبشرة، والتي طردت تصاريف العيش عنها بالماء والصابون. وكل كلام عن رغباتنا الحارة بالآخر، المعتنى به على النحو الذي يحصل كل يوم وفي كل مكان، هو ضرب من التدليس. ذلك أننا في حقيقة الأمر لا نتعرف الآخر بهذه اللمسة، بل نجّهله ونعيده رقمًا إضافيًا ينتسب إلى مليارات الناس الذين يملكون الملمس نفسه والرائحة نفسها والمقاييس إياها.

يبدو أننا لا نحب أنفسنا، ولا نحب الآخر إلا عجزًا. وفي هذا السباق المضني الذي نخوضه نحو نفي أجسامنا ومنعها من التعبير عن نفسها، لا ننجح مطلقًا في أن نداوي وحدتنا بالاندماج مع آخر، كما يفعل الرضيع الذي يتصل بالعالم عبر ثدي أمه، ويعتبره جزءا من جسده. لهذا كله، ولأننا إلى هذا الحد نزدري أجسامنا وأحوالها وتصاريفها، لا يحدث أن ننجح في تحقيق الطمأنينة التي بوسعها، إن تحققت، أن تحولنا إلى كائنات لطيفة.