24-أبريل-2022
كاريكاتير لـ مظفر يولشيبويف/ أوزبكستان

كاريكاتير لـ مظفر يولشيبويف/ أوزبكستان

في أعماله المتأخرة رأى الأمريكي ريتشارد سينيت أن الحقبة الصناعية المستمرة منذ قرون، منعت الأفراد من التواصل مع أقرانهم عبر إنتاجهم. الأعمال الفنية والحرفية، بحسب سينيت، هي في مجملها خطاب الفرد الذي يوجهه للتواصل مع الآخرين. أكان المنتج كرسيًا، أم لوحة، أم عربة خيل. لكن الأعمال الصناعية تنحو في أحيان كثيرة إلى أن تكون خطابًا موجها نحو الآخر. لكنه ليس خطابًا فرديًا، إنه في أحسن أحواله خطاب السلطة الموجه إلى المتسلط عليهم. امتلاك سيارة رياضية هو رسالة إلى آخرين، توحي بأن صاحبها يهوى السرعات العالية، وثمة كثيرون غيره ممن يصادفهم كل يوم قد يهوون ما يهواه تمامًا.

الأعمال الفنية والحرفية هي في مجملها خطاب الفرد الذي يوجهه للتواصل مع الآخرين. أكان المنتج كرسيًا، أم لوحة، أم عربة خيل. لكن الأعمال الصناعية تنحو في أحيان كثيرة إلى أن تكون خطابًا موجها نحو الآخر

لكن الفارق بين الإنتاج الحرفي والإنتاج الصناعي يكمن في مآل الرسالة الأخير. فمن يهوون قيادة السيارة بسرعة عالية سيشكلون جماعة تهتم بهذا الأمر، وتصنع المحادثات حول هذه القضية الفرعية، وتتبادل المعلومات بشأنها أيضًا. في حين أن الحرفي الذي يصنع كرسيًا مميزًا، لا يملك هذه الخاصية في علاقته مع الآخر. فالآخر ليس بالضرورة صانعًا أو هاويًا بل يكون في غالب الأحيان مستخدمًا، وامتلاك الكرسي لا يمنعه من امتلاك دراجة صنعها حرفي آخر. لكن الأهم من هذا كله، أن الإنتاج الحرفي وبسبب ضيق رقعة انتشاره يجعل الحيز الذي ينتج فيه وجواره مميزًا عن غيره. بمعنى أن حرفيي فيينا سيصنعون كراسيًا تختلف عن حرفيي برلين، وهكذا إلى آخر السلسلة، ولو شئنا أن نتعرف إلى حرفة صناعة الكراسي في فيينا فيجدر بنا أن نزورها. بهذا المعنى، يسمح الإنتاج الحرفي واستمراره في إبقاء المدن والدول ضمن حدود لا تستطيع مغادرتها، وتوجب على الآخر البعيد أن يقيم صلة مع هذه المدن ليتسنى له التعرف إلى ما تنتجه وتعرضه.

والحق إن فكرة سينيت رغم وجاهتها لا تستطيع أن تتحول إلى فكرة منقذة للعالم. ذلك أن الصناعات المتطورة ليست ترفًا خالصًا، رغم أن بعضها يقع في خانة الترف. فإنتاج السيارات بكميات صناعية، يخدم حاجة البشرية للانتقال الأسرع من وإلى أعمالهم وشؤونهم. وفي وسع هذه الصناعات المتطورة أن تقرّب بين الناس والشعوب لو أن السياسات العامة التي تعتمدها القوى السياسية والحكومات في كل أنحاء العالم لا تسير دائمًا على حافة الكارثة. فالسياسات الاقتصادية المعتمدة في أي بلد من بلاد العالم تفترض أن هدف الحكومات والشعوب أن تسبق نظائرها في الخارج بأشواط. وغالبًا ما تقوم الصراعات على أساس الإضرار بالآخر أكثر مما تقوم على أساس المنافسة معه. إذ ليس مطروحًا على روسيا أن تتقدم على الولايات المتحدة الأمريكية تقنيًا واقتصاديًا، لكن ذلك لا يمنع الحكومة الروسية من محاولة الإضرار بمصالح الولايات المتحدة من دون أن يعود عليها هذا الإضرار بأي نفع.

في حقيقة الأمر ما يفتقد له هذا النظام العالمي هو التعاون. لكن الحكومات والشعوب، رغم كل الوفرة التي تحققت في العقود الأخيرة، ما زالت تدير سياساتها على قاعدة أن الكارثة قريبة جدًا، وليس ثمة من وسيلة لتجنبها إلا الاستمرار في السباق من دون هوادة، ومحاولة البقاء في الصفوف الأولى، ذلك أن الكوارث تهدد الأخيرين أولًا. 

حتى في الدول الأكثر تقدمًا، ثمة سباق لا يرحم نحو البقاء في الصفوف الأولى. كان بوسع العالم أن ينتظر عقدًا أو عقدين قبل تعميم ضرورة اقتناء الهواتف المحمولة، مع ذلك، لم تتورع السلطات الاقتصادية والسياسية عن فرض اقتناء الهواتف المحمولة على كل سكان الأرض. كما لو أن الحياة غير قابلة للاستمرار من دونها. بل إن العالم الذي يتمتع اليوم بوفرة في كل شيء، ينحو إلى تطليق الحياة على الأرض والبحث عن مخارج وبدائل في الفضاء. إذ ما الذي تعنيه هذه الحمى التي تضرب الدول المتقدمة وتدفعها دفعًا لإنفاق مئات المليارات لاستعمار الفضاء؟ في الوقت الذي باتت فيه الأرض متسعة لكل القاطنين فيها حقًا وفعلًا. فالإنتاج الزراعي والغذائي أكثر من كاف لكل سكان الأرض، والملاجئ والمنازل تتسع لكل الناس وحيواناتهم الأليفة، وثمة قدرة على حماية البشرية كلها من موجات البرد والحر، وهناك ما يكفي من الطاقة المنتجة لإضاءة المدن والغابات معًا.

ثقافة الدولة - الأمة تفترض أنها تصنع مستقبلًا لأحفادها، لكنها في الوقت نفسه، تجهد في محاولة قتل حاضر الأمم الأخرى وشعوبها، وبعض مواطنيها على حد سواء

إنما ورغم ذلك، تكاد تكون حمى التفتيش عن بدائل للطاقة والاستغناء عن النفط مذهلة في رفاهيتها وعدم ضرورتها. إذ إن الدراسات تفترض أن المنتج من النفط والمخزون منه يكفي حاجات البشرية لقرنين على الأقل، مع ذلك ثمة جهود لا يمكن حصرها في التفتيش عن بديل.

الحال، إن ثقافة الدولة - الأمة تفترض أنها تصنع مستقبلًا لأحفادها، لكنها في الوقت نفسه، تجهد في محاولة قتل حاضر الأمم الأخرى وشعوبها، وبعض مواطنيها على حد سواء. وقد يكون أجدى أن نهتم بحاضر هذا العالم، وجعله أكثر قابلية للرخاء، من محاولة تأمين رفاهية من سيولدون بعد خمسين عامًا.