21-نوفمبر-2018

الكاتب والرسام البرتغالي أفونسو كروش

احتضن بيت الرواية الذّي يديره الروائي التونسي كمال الرياحي تظاهرة "أيّام الرواية البرتغاليّة" وذلك يومي 13 و14 تشرين الثاني/نوفمبر 2018. كانت هذه المبادرة فرصة للاحتفاء بالكاتب والرسّام أفونسو كروش، أحد أعلام الرواية البرتغاليّة المعاصرة، وأوّل مترجم لأعماله للّغة العربيّة الدكتور عبد الجليل العربي أستاذ الأدب الحديث بجامعة لشبونة.

يبقى هاجس الرواية الأساسيّ هو اختراق الأنظمة المستبدّة ونقدها، وهذا بالضبط ما حاول راوول برنداو التركيز عليه في كتاباته

كانت أوّل إطلالة لكروش على العالم العربيّ من خلال روايته "هيّا نشتر شاعرًا"، ثمّ تتالت بعدها ترجمات أعماله مثل "الرسّام تحت المجلى" و"الكتب التي التهمت والدي" و"دمية كوكوشكا"، ولا نزال في انتظار إنهاء أعماله القادمة، لكنّ ما لا يعلمه كثيرون أنّ الروائيّ البرتغاليّ بدأ رسّامًا للقصص المصّورة وأثّث بعض أعماله ببعض رسومه التي يعتبرها مكمّلًا لكتاباته وتغنيه عن جمل الوصف مثلما نجد ذلك عند كتّاب آخرين. لهذا السبب انطلقت الأيّام بمعرض رسومات لأفونسو كروش، استعرض خلاله تجربته التشكيليّة في حضور سفير البرتغال بتونس الذي افتتح الأيّام رسميًّا في غياب لافت لوزير الثقافة التونسي.

اقرأ/ي أيضًا: الرسم والكتابة في تجربة أفونسو كروش

الرواية البرتغاليّة ما قبل الثورة عنوان للتمرّد

بيّن الدكتور عبد الجليل العربي ناقل "هيّا نشتر شاعرًا" إلى العربيّة أنّ الأدب البرتغاليّ ينقسم لما هو مكتوب في البرتغال ولما تمّ إنتاجه في مستعمراتها السابقة مثل البرازيل وأنغولا وموزمبيق. ويتسّم هذا الإنتاج الأدبيّ بالغزارة والتنوّع الأسلوبي والمضامينيّ واسترجع قولة للشاعر البرتغالي الكبير فرناندو بيسوا يقول فيها "ليس لنا إلاّ البحر واللّغة البرتغاليّة" الذي حلم بأنّ البرتغال ستغيّر العالم. لئن عَرف بيسوا إضافة إلى ساراماغو شهرة واسعة العالم العربيّ فإنّ ذلك غطّى على أسماء متميّزة أخرى.

بالنسبة للأدب المكتوب في البرتغال، يعتبر أرسيلو كيروش الذي عاش في القرن التاسع عشر من أهمّ الأسماء وكانت من بين أعماله كتاب "رحلة إلى مصر" وصف من خلالها العالم العربيّ، لكنّ روايته "البقايا" تعتبر أيقونة من أيقونات الرواية في البرتغال. تروي قصّة امرأة غنيّة أرادت قبل موتها بعضا من بقايا القدّيسين، فأرسلت ابن أختها لينقل لها ما طلبته من فلسطين. سافر الشاب لكنّه انغمس في الحانات وقصصه مع الغانيات هناك، وعند عودته لخالته أتى لها بملابس العاهرات الداخليّة وبعض أغراضهنّ. أراد الكاتب من خلال هذه الرواية نقد الفكر الدينيّ والكنيسة الكاثوليكيّة.

يبقى هاجس الرواية الأساسيّ هو اختراق الأنظمة المستبدّة ونقدها، وهذا بالضبط ما حاول راوول برنداو التركيز عليه في كتاباته. حكم البرتغال في أوائل القرن العشرين إلى حدّ أواخر السبعينات نظام جمهوريّ فاشيّ مستبدّ. قبل ثورة سنة 1974 تميّز فرجينيو فيرارا بنشر الفكر الوجوديّ في الأدب البرتغالي تيمّنًا بألبير كامو وجون بول سارتر، ما يمثّل في تلك الفترة استدعاءً للأفكار الأجنبيّة أو تهريب أفكار قام بها المهاجرون البرتغاليّون الفارّون من جحيم الفاشيّة. من جهة أخرى، استعادت الرواية البرتغاليّة في توتّرات قبيل 1974 الماضي، إذ تكفّلت بفضّ خصومة البرتغاليّين مع الماضي أو مع روايته.

الرواية البرتغاليّة من المحليّة إلى الكونيّة

بعد الثورة ومع انضمام البرتغال إلى الاتّحاد الأوروبي، انتقلت الرواية البرتغاليّة إلى الكونيّة. انضمام حفّز جوزي ساراماغو صاحب نوبل 1998 -الذي طالب بالانفصال عن هذا الاتحاد- إلى كتابة رواية "الطوف الحجريّ" التي تخيّل فيها انفصال الجزيرة الأيبيريّة عن أوروبا لتطوف وحدها في المحيط الأطلسيّ. كونيّة غيّرت بنية الرواية البرتغاليّة وانتزعت منها ذلك الحنين إلى الماضي لتصبح موضوعاتها مساءلة للاستعمار البرتغاليّ أو تصفية حسابات مع التاريخ نفسه مثلما نجد ذلك عند دييغو أنطونيوش.

تتميّز الرواية البرتغاليّة الجديدة بالتعبير عن أفكار الأفراد وكونيّتها، يعتبر غونزالو تافاريش من أهمّ الأصوات الجديدة الذي تتميّز كتاباته بالعقلانيّة والفلسفيّة خاصّة في روايته "أورشليم"، ومجموعة روايات بعنوان واحد "الحيّ" وتتميّز بتغيير اسم بطلها وحكايته كلّ مرّة. خاطب جوزيه ساراماغو الكاتب مرّة بقوله "أنا متأكّد، جائزة نوبل لن تهرب منك في المستقبل".

يعتبر القرن العشرين بداية صعود نجم الرواية البرتغاليّة، والبرازيليّة أيضًا وعلى رأسهم جورج أمادو

يعتبر القرن العشرين بداية صعود نجم الرواية البرتغاليّة، والبرازيليّة أيضًا وعلى رأسهم جورج أمادو. وما يميّز هذه الأخيرة أنّها ركّزت أساسًا على الإجابة عن الأطروحات التي تبخّس البرازيل من طرف الأوروبيّين. وذكّر العربي أنّ الأدب البرازيليّ تميّز أيضًا بكتّاب من أصل ألمانيّ أو ايطاليّ وعربيّ أيضًا مثل نصيف نصّار وإميلتون حتّوم، كما ألمح إلى تميّز ادب المستعمرات البرتغاليّة السابقة على غرار أنغولا وكاتبها المتميّز جوزيه إدواردو أغوالوزا صاحب رواية "بائع الماضي" وميّا كوتو من الموزمبيق، وهو أدب انطلق من المحليّ الافريقيّ إلى العالميّ.

اقرأ/ي أيضًا: رواية "الكتب التي التهمت والدي" لأفونسو كروش.. سرد متعدد الطوابق

أفونسو كروش قادر على كتابة قصّة في سطرين

إلى جانب ألبرتو غومايو وغونزالو تافاريش يعتبر أفونسو كروش من أهمّ روّاد الرواية البرتغاليّة الجديدة. إذ كتب ما بين 2008 و2018 سبعة روايات وأكثر من ثلاثين كتابة في الجملة ما بين أدب وشعر وقصص مصوّرة للأطفال، وتعتبر تجربته متميّزة وفريدة، إذ وصفه ناقد أدبيّ بأنه قادر أن يكتب قصّة في سطرين.

في لقاء الكاتب البرتغاليّ أفونسو مع جمهوره في تونس، أشار إلى أنّ الحياة الفعليّة مع القارئ تبدأ عند آخر نقطة لما كتبه.  قضّى أول حياته في الرسم ودرس الفنون التشكيليّة انطلاقًا من سنّ الخامسة عشرة، لكنّه كان يقرأ كثيرًا من الكتب. أراد دراسة الفلسفة لكن والديه رفضا ذلك وأصرّا على أن يستمرّ بالفنون الجميلة.

كانت الموسوعة العالميّة للحكايات أولى الأعمال التي روى فيها أفونسو سير كتّاب غير حقيقيّة، ومن الغريب أنّها قوبلت في البداية بعدم فهم جنسها وكانت توضع في رواق كتب التاريخ. خلط تواصل عند نشر روايته "دمية كوكوشكا" التي كتبها للكبار لكنّ القراء حسبوها موجهة للأطفال وحصل أيضًا لروايته "التناقض البشري" التي كتبها للأطفال وصنّفت على أنّها رواية كبار. استوحى كروش "دمية كوكوشكا" من سيرة واحد من أعظم الرسّامين النمساويّي  وواحد من تلامذة غوستاف كليمت الرسام النمساوي، واشتركا في حبّ ألما ماهلر التي حطّمت كلّ القلوب في تلك الفترة. وللتخلّص من حالة الحبّ تلك قرّر كوكوشكا أن يصنع دمية تلخّص حبّه العظيم لألما. كانت حسّه الفنيّ يدرك أدقّ تفاصيل حبيبته ورغم ذلك خرجت الدمية في شكل فظيع جدّا. أخذ كوكوشكا الدمية إلى بيته رغم قبحها واشترى لها ملابس وعاش معها سنة كاملة، ووصل به الأمر إلى أن يتجوّل بها في الخارج ويأخذها معه إلى الأوبرا ويجبر خادماته على التحدّث عنها للغرباء على أنّها فرد من العائلة إلى أن سئم شرب حتّى الثمالة وكسر الدمية بزجاجة نبيذ.

عندما يوجد الإشكال ستوجد الحكاية

ينهل أفونسو من معين لا ينضب من الحكايات من خلال قراءاته ومن ذاكرة عائلته. احتضن جدّ الكاتب رسّامًا تشيكيًّا لجأ إلى البرتغال-التي اختارت الحياد إبّان الحرب العالميّة الثانية- وكان ينام داخل المدخنة خوفًا من البوليس السياسي. تخيّل كروش سيرته فضّل أن يخبّئه تحت المجلى، في وفاء تام لعادته الصغيرة بتغيير نهايات الكتب التي يقرأها.

يعتقد أفونسو كروش أنّ القصص التي نرويها أعمق وأتعس من الواقع المعيش

في العصور الوسطى كان النبلاء يستوردون الرهبان الهنود ليضعونهم في الحدائق للتباهي والتفاخر، يتعامل بعض الحكّام مع الفنّانين كالحيوانات، والأغنياء أيضًا، لذلك وهو ما حفّزه لكتابة رواية "هيّا نشتر شاعرًا" واستشهد بقول تشرشل "إذا قضينا على الثقافة فمن أجل أيّ شيء سنحارب!".

اقرأ/ي أيضًا: أفونسو كروش.. لقاءات شخصية مع أبطال "الجريمة والعقاب" و"فهرنهايت 451"

يعتقد كروش أنّ القصص التي نرويها أعمق وأتعس من الواقع المعيش، وإذا كان الدماغ يستهلك وحده قرابة 70% من الحريرات فإنّ كلّ تلك الطاقة نقضيها أغلب الوقت في الخيال. يكمن الخيال في كلّ الأشياء المحيطة من كراسيّ وطاولات وضوء وألوان... تنقذنا الحقيقة أمّا الخيال فينقذنا دائمًا، ولا ينكر ضيف بيت الرواية التونسيّ أنّ أحاسيس البشر لا تساوي شيئا دون شعريّة. يعترف كروش أنّه يملك الكثير من القصائد وقليلًا من الشجاعة لنشرها. يقسّم كروش كتاب الرواية إلى نوعين: واحد يكتب شخصيّات وحكاية من لا شيء، وآخر يهتمّ أكثر بالشكل والتصوّر، لكن عندما يوجد الإشكال ستوجد الحكاية وفق وجهة نظره. لا يخلق القطّ الجالس على الأريكة حكاية، بل جلوس القطّ على بساط الكلب هو الحكاية.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

أفونسو كروش: لا يمكن ترك الشعر أبدًا

رواية "هيا نشتر شاعرًا".. مرثية عصر الاستهلاك