16-نوفمبر-2018

الكاتب والرسام البرتغالي أفونسو كروش

بدأت الكتابة تاريخيًّا برسوم تعبيريّة إلى أن تطوّرت إلى حروف وكلمات، لهذا السبب كان الارتباط وثيقًا بينها وبين الفنّ التشكيليّ.

ظاهرة الرسّامين الكتّاب ليست جديدة في تاريخ الفنّ، بل هناك العديد من النماذج الشهيرة

ظاهرة الرسّامين الكتّاب ليست جديدة في تاريخ الفنّ، وهنا يمكن استحضار نماذج شهيرة، مثل سونيتات مايكل أنجلو ودفاتر ليوناردو دافينشي ويوميّات أوجين ديلاكروا ورامبرانت وروايات فيكتور هيغو، وصولًا إلى كتابات بيكاسو وروايات سالفادور دالي رائد السرياليّة. وقد عُرفت هذه الأخيرة كحركة فنيّة ومدرسة أدبيّة مرسّخة مفهوم الكتابة الأوتوماتيكيّة للتعبير.

 

الرسّام تحت المجلى

هل نحن هذا الجسد الذي يراه الناس أم ذلك الجوهري الذي لا يُرى؟

لئن نجح خوسيه ساراماغو في روايته "كتاب الرسم والخطّ" رسم شخصيّة رسّام، لكن تبقى كتابة الرسّام لرواية عن شخصيّة رسّام أعمق وأنقى، وهو ما نجح فيه الرسّام البرتغالي أفونسو كروش في رسم تفاصيل حياة جوزيف سورس بطل رواية "الرسّام تحت المجلى"، ذلك الفتى الذي ولد بــ"عين يسرى شبيهة بقمر كتناقض تشير إلى أنّه سيصير فنّانًا"، وصار بذلك رسّام الأعين المفتوحة والأعين المغلقة.

تضعنا الرواية أمام سؤال فنّ ما بعد الحداثة، عن ماهية وضع الرسّام/ الفنّان في المجتمع. يطرح البطل الرسّام واقعه المتخيّل في رحلة تتخللها حيوات أخرى ويجعلنا نتساءل: من نحن حقاً؟ هل نحن هذا الجسد الذي يراه الناس أم ذلك الجوهري الذي لا يُرى؟ يعالج أفونسو كروش كلّ ذلك من خلال أبطال رواياته: رسامًا يحمل بين يديه دفترين، واحدًا للأعين المفتوحة، والآخر للمغمضة. شاعرًا يرسم بكلماته نافذة مفتوحة على جدار. كتابًا أكل قارئه في عليّة.

 

رواية الرسام تحت المجلى
يطرح البطل الرسّام واقعه المتخيّل في رحلة تتخللها حيوات أخرى

في رواية "الرسّام تحت المجلى"، تكتسح الرسومات مساحات مهمة تعادل تقريبًا النصوص المكتوبة، وتتراوح جميعها بين رسوم خطيّة تجسّد أعين شاخصة ذات دوائر سوداء. تتشابه الأعين مع الرسومات الطفوليّة التي تتجسّد عبر الخطّ المؤطّر السميك. تندرج رسومات أفونسو كروش ضمن التيار الفني "التشخيص الحرّ" أو التشخيصيّة الجديدة، وهو تيار تُستوحى مواضيعه من الموسيقى والصور الطفوليّة البسيطة وكتب الأطفال والكتب المدرسيّة وفن الرسم في الشارع (Graphiti). انطلق هذا التيّار في فرنسا بداية الثّمانينات، في إطار معرض فنّي نظّم سنة 1981 في مدينة نيس. فنّ قام على الحريّة، يتحدّث عن المجتمع والعنف والجنس وآلام النّاس وكلّ ما يمثّل مشاعرهم، من أهم روّاده الفنّان روبار كومباس وهيرفي دي روزا. ويلخّص روبار كومباس عن جوهر التشخيص الحرّ في قوله التالي: "التّشخيصية الحرّة أن نفعل كل ما نريده، كل ما هو شخصي، بكل حريّة، باللّعب على غير العادة. رسوماتي لا تبحث عن العقل... عدم المهارة له معنى في أعمالي وليس الإتقان، أشعر أنني شديد الحساسيّة، وأشعر أن هذا الضّعف جزء من رسوماتي، أشعر بالوحدة، لست محترفًا لكنّني منفرد".

 

سطوة العين

"لا شيء يسبّب الحزن أكثر من أن يكون المرء فنّانًا وينظر إلى العالم وكأنّه يراه للمرّة الأولى". منذ البداية، يقدّم لنا أفونسو كروش السمة التي تجعل الرسام مختلفًا عن الجميع: "الرؤية". ينظر الرسام إلى العالم بشكل مغاير كليًّا عن الآخرين. تستحوذ العين على كل حواسه لتقدّم له في مقابل ذلك صورة متفرّدة عن جوهر العالم والأشخاص. وحده الفنّان الذي يرى اختلافًا في الشيء ذاته كلّما تمعّن أكثر، وهو الوحيد أيضًا الذي يدرك متعة ذلك. يصف الكاتب كلّ ذلك بــالتعاسة مسلّطًا الضوء على معاناة الفنّان إزاء تكيّف البشر مع الروتين والكسل الجماليّ "إنّه التعاسة بأتمّ معانيها. –تقول والدة جوزيف سورس- عندما أنظر إلى الأشياء أريدها أن تكون مألوفة كعمّي، كزوجي، كالخبز مع كلّ وجبة. أريد أن أنام باستمرار مع الرجل نفسه وأن أقبّل الشفاه ذاتها. أريد لشراشف اليوم أن تبدو لي كشراشف البارحة، حتى لو اختلفت التطريزة تمامًا. لا أريد أن تكون القبل التي أتلقّها جديدة، أريدها قديمة ومألوفة".

لا يحتاج الرسم إلى اللّغة والكتابة ليُقرَأ مثلما لا يحتاج المستقبل أن يُرى حتى نؤمن بوجوده فعليًّا

لا يحتاج الرسم إلى اللّغة والكتابة ليُقرَأ مثلما لا يحتاج المستقبل أن يُرى حتى نؤمن بوجوده فعليًّا. غير أنّ أفونسو كروش يلوّح لنا بنظريّة منطقيّة في موقف رسامه سورس من إدراك عينه للصورة، وهذه النظرية مفادها أن عمليّة الاستقراء الروتينية للصورة من خلال الزمن غير ثابتة، لأنّ المستقبل قابل لأن يتحوّل إلى رمل في أي لحظة، وذلك ما جعله "ولمدّة شهر يمضي إلى ساحة المجانين على أمل أن يجد المستشفى الذي كان قد ترك فيه والدته". لم يرد سورس أن يرى ما يراه الجميع، كانت بينه وبين العالم "ضبابة تَمنعني من رؤية الأشياء كما هي في حقيقتها، كما هِيَ بالنسبة إلى الآخرين" كما يقرّ الشاعر البرتغالي فيرناندو بيسوا. وهو ذات السبب أيضًا الذي جعله "ميّتًا يرعى الأموات" في متحفه ذات الأشياء عديمة النفع.

 

وضعية الفنان

يحدّثنا أفونسو كروش عن وضع الفنّان الذي يوجد دائمًا على هامش الحياة: تحت المجلى، في العليّة أو تحت الدرج. يحيلنا إلى عدم اكتراث المجتمع إن استمرّ إنتاج الفنّان أم لا. يُطرد الفنّان لأنّه مختلف، ويتم "نفيه إلى حديقة/ سجن/ مصحّ". يجعل أفونسو كروش الفنّان منبوذًا لأنّه يحمل فيروس الرؤية. تلك الجرثومة التي تجعلنا داخل عالم حُلُميّ غامض ويسمح برؤية اللّامرئيّ. أثبتت العديد من الدراسات أنّ العين هي رمز للحياة والنور من جهة، وهي دلالة على الحكمة من جهة أخرى. العين هي الوجيه والجاسوس والنبع الاجتماعيّ. وكما يقول علي زيغور: "لغة العين لغة شديدة التعبير حمّالة رسائل شديدة التّنوّع في الإفصاح والإضمار. يتصارع الأنا والآخر عبر الباصرة، ويتّحدان بعضهما بعضًا بالنظرة.. تعرب النظرة عن الحبّ، وعن الاشتهاء، وعن الرفض أو القبول، وعن الخوف أو الأمل أو الاسترحام أو الرّحمة، وعن الاشمئزاز أو الاحتقار أو الاحترام".

 

يعود بنا الكاتب إلى الصورة المتخيّلة التي أسّس به الفنّان الروسي مارك شاغال شخوصه العائمة، كما يستحضر كل العوامل التشكيليّة للفنّ الساذج للفنان الفرنسي هنري روسو. يرسم أفونسو كروش كائنات خارج قواعد المنظور ويكرّر الأشكال الهجينة شأنه شأن خصائص لوحات شاغال. يدخل أفونسو كروش المجاز والاستعارة بطريقة مظفّرة إلى رسوماته. تولد الحيوانات مع الواقع المادي، بدليل أنّه يرسم حكايات الكائنات التي يشتريها الطفل، تنمو معه عبر الزمن، تنتفخ باستمرار نسبة إلى الحيوان الجشع الذي يسكن الإنسان، ذلك الذي صوره في روايته "هيّا نشتر شاعرا". تسيطر المادية على كل مظاهر الحياة. تنقلب الصورة النمطيّة تمامًا "فالناس يربوّن فنانين بدلًا من الحيوانات الأليفة. ويعدّان له مكانًا للنوم والأكل، مثله مثل أي حيوان أليف. لكن وجود الشاعر مع الوقت يصبح مزعجًا، إنّه يخربش على الجدران ويتلاعب بالكلمات.. يجرّ الفتاة إلى عالمه.. تتحدّث مثله وترى أمورًا يكتبها، حين يكتب عبارة "نافذة على البحر" تراها هي نافذة بينما لا يراها أحد سواها هي والشاعر". يحيلنا الكاتب إلى أهميّة الفنّ، رسمًا كان أم شعرًا، خطورته وقدرته علينا وإمكانية استكشاف جوهر الذات وصورتها العارية والحقيقيّة. تثبت العيون المتناثرة بين صفحات الرواية قدرة الفنّ على رؤية ما وراء النصّ/ داخل النصّ/ ما بعد النصّ.

 

تحرير الأشياء والكائنات

يرسم أفونسو كروش أجواء متخيّلة، تستند على قدرته كرسّام في تحرير الأشياء والكائنات من أسر قوانين الجاذبية. يكسر قوانين الطبيعة أوّلًا ويمنح تعبيرًا بصريا ورؤيويًّا للأحلام الخفيّة كجوهر للكائنات والأشياء. يستند على المتخيّلات البصريّة لرسم العين والجسد. يبتكر حكايات من نوع مختلف لن تجد مثل مزاجها وتفاصيلها في أعمال روائية أخرى، ويجعل "عينًا" ترصد كيفيّة الغوص في النص إمّا في بداية الصفحة أو في نهايتها. تمامًا كالسماء التي يصفها أفونسو كروش على أنّها "غطاء من أعين" حيث كل شيء "يبدو كنقاط من الأعلى ولو ينزل الله فسوف يرى أشياء أخرى".

"النقطة والخطّ المستقيم والدائرة"/ الفنّ والحبّ لا نهائيان. تبدو رسومات أفونسو كروش مزيجًا غريبًا بين العفوية والتلقائية، أين يلتقي الفن الساذج مع الفن الشعبي والفطري والبدائي، وحتى مع الفن الطفولي. يعي الكاتب جيّدًا انتقال الحركات العفويّة إلى أخرى واعية ومقصودة. يوضّح ارتباط تطور الوعي بالأشكال. فـ"الدائرة هي أول شيء يرسمه المرء. إنها أكثر الأشكال طبيعية، وهي قادرة على احتواء كل شيء، بل هي رحم الأشكال كافة". تمثّل الدائرة الجانب الطفو لي الحرّ فينا، إنّها أوتوماتيكية ومفعمة بالحيويّة. أما الخطّ المستقيم فهو غير طبيعيّ على حد قول أفونسو كروش. "الخطوط المستقيمة التامة غير موجودة.. الناس مهووسون بالخطوط المستقيمة، بالأبنية شديدة الاستقامة، وبالقواعد وبالأشياء التي ليس فيها أيّ شيء طبيعيّ". في حين يشير الكاتب إلى كثير من الأشياء على أنّها مجرّد نقاط. العين نقطة، الثقب نقطة، الشخوص من الأعلى نقاط، تبدأ الكتابة بنقطة حبر وتنتهي الحياة بنقطة دم. تُربط العلاقات بنقاط متفاوتة من المشاعر وتنتهي بنقطة تُفيض الكأس.

في لوحات أفونسو كروش، يلتقي الفن الساذج مع الفن الشعبي والفطري والبدائي، وحتى مع الفن الطفولي

يحتفل النص كما الرسم، بالكثير من الرموز والمجازات والاستعارات البلاغية والتصويرية. ثمّة ستارة شفافة بين المرئي واللّامرئي، وبين الخفيّ والظاهر. يستعير أفونسو كروش صورة نموّ الأشجار ليحيلنا إلى صورة الفنّان "لا تسير الأشجار أفقيّا كما يسير البشر، بل عموديّا صوب السماء... لــكأنّ الشجرة تصبّ في السماء". يجب على الفنّان ألا يتفرّع في اهتماماته، تمامًا كجذع الشجرة النقيّ الذي يسمح ببلوغ اللانهاية ما دام بدون أغصان وفروع. يقتبس الكاتب الصورة النيتشوية عن الحياة، والتي لا تنتهي عند نقطة معينة. يؤكّد مرّة أخرى على أنّ الوقت يسير بشكل دائري أو حلزوني وليس بشكل "شبه مستقيم" كما نتخيله. ينفي احتماليّة الموت مع الفنّ مقابل أبديّة الجحيم الجمالي. تتكرر الحياة في عين الفنّان وتعود من جديد مع بداية جديدة من نقطة النهاية.

يتم في الكثير من الأحيان تحويل النقطة والخط والدائرة إلى عين، ثم تتحوّل العين إلى جسد. تغدو العين في هذا الإطار صلة الوصل بين الرغبة الباطنية وتعبيرها الإشاري الرمزي. يتحوّل التحليق نحو الجسد المقابل هو الهدف، عالم الإنسان والحيوان والنبات يتفاعل حد التداخل والاختلاط و"الخلط". يدعونا أفونسو كروش للنظر في الآخر والتلاشي فيه. يؤكّد أنّ الكتابة هي النظر دومًا نحو الإلهي وأنّ الرسم يدفعنا نحو الأعلى. يبرز لنا خليط من الكائنات العجيبة المتلصصّة في عين. تتلحف العين بدنس وقبح ووضاعة الاجتماعيّ فينا حدّ التشوّه. يعبّر أفونسو كروش عن كلّ ذلك بوصف ما يشعر به الفنّان وحده "الألم في اللّف والدوران كي يرى الأشياء".

يلخّص أفونسو كروش مسيرة الرسام في امتلاك هذا الأخير مجموعة دفاتر للرسم يرسم فيها يومياته، ذكرياته وأحلامه. تأخذنا رمزيّة ما أطلق عليه بــالأعين المغمضة إلى كلّ ما يحدث في العتمة والسواد. إلى التواري والاختباء، التلصص والخيانة، الولادة والموت، الحبّ والضغينة "أفضل القبل هي غير المرئيّة لذلك يتوارى العشّاق عن العالم ويغمضون أعينهم". "يولد الجميع من الثقوب. يقتات الإبداع من ظلّ أدمغتنا الداخليّ. وتقتات الأجنة من الرحم.. الموت أيضًا مصنوع من أشياء لا تُرى، من كمائن وأزياء تنكريّة، ومن ثقوب على شاكلة الخنادق". وحده الحبّ يجعلنا نعلو إلى مالا نهاية. "الحبّ يقرّب المتحابّين حتى يصبحا بحجم واحد".

ليس غريبًا أنّ أسلوب أفونسو كروش في التصوير يوازي تمامًا أسلوبه الروائي

الرمزية الساخرة

تتسم رسوم أفونسو كروش بنزوعها نحو عدم الاكتمال. تتكرّر العين عبر خطوط سوداء سميكة. تتراوح الألوان بين لونيين أو ثلاثة على أقصى تقدير إلى جانب خلفيّة ذات لون واحد. وجد أفونسو كروش ضالته في سهولة الرسوم الطباعية المتسلسلة. يحول انطباعاته الاستهزائية إلى رسوم ملونة كرافيكية متخمة بالخطوط السوداء. تبدو صور الأجساد في الغالب مبتذلة وبموضوعات متباعدة لكنها تتشابك اجتماعيًا. يتشبّع الرسم البسيط والمبتذل بغايات استفزازيّة شأنه شأن الخربشات العفويّة، تلك الدوائر والنقاط والخطوط ذات الحيوية البصريّة المثيرة.

ليس غريبًا أنّ أسلوب أفونسو كروش في التصوير يوازي تمامًا أسلوبه الروائي. هو بسيط وسلس ولكنّه سردي لدرجة التخمة. تتراكم الحكايات والمضامين والتلميحات والموضوعات بالخط الأسود قبل التلوين. تبدو الأجساد والوجوه الانسانيّة أو الحيوانيّة التي يرسمها مبتذلة، ديناميكيّة، ساخرة وطفوليّة، بدائية وعفويّة. ينحت من خلال صراخها زمنا وجوديًّا برؤوس ملونة. تتعدّد الموضوعات: الحب، المعارك، الدين، الميثولوجيا، الموسيقى والمشاهد العامة. وعلى حدّ قول سليم بركات "الحيوان هو فراستي، الحيوان طفولتي كلّها، ذلك السحر الشيطاني الجارح، الذي لا ننجو منه. جميعنا أسرى الطفولة..". هكذا ينحصر هدف الفن في تحويل الشخصي إلى موضوعي. يجعل ما هو وجداني يكتسب صبغة حسيّة. يصبح الفنان وجهًا لوجه مع صورته المرآوية، يكون فيها في الوقت ذاته ممثّلًا ومتفرّجًا، وفي مرحلة أخيرة سيكون مكشوفًا لنا من خلال رسومه كمنبع للحكايات المعيشية.

 

تبرز الرسومات ثقافة أفونسو كروش الواسعة بتاريخ ومراجع الفن التشكيلي الحديث. تعبّر صوره على تمكّنه من قواعد التركيب والتلوين. تضج مساحاته بتعبيريّة رمزيّة. لا يترك مصادفات في الرسم. يستغلّ الأحجام والأشكال أيّما استغلال، عبر التقسيمات المتوازنة للمساحة واللون والخطّ.