18-يناير-2019

عاشت الخرطوم ساعات عصيبة خلال اليومين الماضيين (تويتر)

الترا صوت - فريق التحرير

عاشت العاصمة السودانية الخرطوم ساعات عصيبة في مواجهة الرصاص والبمبان، منذ يوم الخميس، حيث أبدى المحتجون مرة أخرى إصرارهم على بلوغ القصر الرئاسي وتسليم عمر البشير مذكرة تطالبه بالتنحي فورًا، إلا أن القوات النظامية فرضت طوقًا أمنيًا حول القصر ومنعت الاقتراب منه، وتصدت للمحتجين بالضرب والاعتقالات وقنابل الغاز المسيل للدموع، فيما تحول وسط الخرطوم إلى ثكنة عسكرية بشكل كامل.

 أبدى المحتجون في السودان مرة أخرى إصرارهم على بلوغ القصر الرئاسي وتسليم عمر البشير مذكرة تطالبه بالتنحي فورًا

سرعان ما انتقلت الحشود إلى ضاحية بري وسط الخرطوم، والتي لم تتوقف التظاهرات فيها طيلة الأسابيع الماضية، بما في ذلك موكب أمس الموسوم بموكب "الحرية والتغيير". وهو ما دفع عناصر مسلحة إلى اقتحام بري وإطلاق الرصاص الحي بصورة عشوائية على المواطنيين، وسقط نتيجة لذلك ضحايا، أبرزهم الطبيب بابكر عبد الحميد، الذي كان يقوم بإسعاف المصابين، قبل أن يلتحق به معاوية بشير الذي كان يأوي المحتجين في منزله، وتعرض للقتل بسبب ذلك رميًا بالرصاص.

طرق أبواب الجيش

وكان مشهد يوم أمس في منطقة بري أشبه بحرب المدن، من طرف واحد، حيث غطى عليها الرصاص والدم، ومن ثم كساها الحزن والحداد، طوال يوم وليلة ولا يزال. 

اقرأ/ي أيضًا: احتجاجات عالمية على شروط معولمة.. السترات الصفراء أطلقت الشرارة

تسبب ذلك الموت في انفجار حالة من الغضب على كافة مدن السودان وشوارع العاصمة الخرطوم، والمساجد أيضًا، حتى أن تظاهرات اندلعت في ضاحية كافوري التي يقطنها الرئيس البشير وأسرته. كما ارتفع بالمقابل الصوت المنادي بتدخل الجيش، وحماية المتظاهرين سلميًا من بطش السُلطة، أو التنكيل بالمواطنين من قبل ما عرف بكتائب الظل التابعة للحركة الإسلامية، وهو الأمر الذي أثار ربكة كبيرة داخل الحكومة، تحديدًا نداءت المواطنين المتكررة بضرورة تدخل الجيش، وهي دعوات من المتوقع أن تتسبب في انشقاقات داخل المؤسسة العسكرية على المدى القريب، إن لم يتوقف القمع وإطلاق الرصاص.

إضراب الأطباء متواصل

أصدرت لجنة أطبّاء السودان المركزية بيانًا، أكدت فيه مقتل اثنين من المتظاهرين السلميين، نتيجة للعنف المفرط الذي استخدمه النظام في مواجهتهم، وقال البيان الذي تلقى "ألترا صوت" نسخة منه، إن الاصابات كانت بالرصاص الحي المباشر، وهو ما دفع اللجنة إلى إعلان مواصلة الإضراب عن الحالات الباردة، والانسحاب من عدة مستشفيات تابعة للأجهزة النظامية، من بينها مستشفى الأمل التابع لجهاز الأمن والمخابرات، والمستشفيات التابعة للشرطة، والسلاح الطبي احتجاجًا على "ما يقوم به الأمن والشرطة من قتل للمتظاهرين السلميين بدم بارد"، واقتحام تلك المرافق الصحية، حيث اقتحمت قوات الأمن حوادث أم درمان ومستشفى الفيصل وروعت المرضى وأسرهم، واعتقلت المدير الإداري ومدير شؤون العاملين لساعة قبل أن تفرج عنهم، بجانب الحيلولة دون وصول فرق وسيارات الإسعاف إلى أماكن المصابين.

سودانيات يلهبن الحماس الثوري

كانت الحصيلة الأكبر للمعتقلين من نصيب النساء، اللواتي أظهرن بسالة في مواجهة العسف، حتى داخل المعتقلات، وظللن يهتفن في القسم الشمالي من الخرطوم "حرية سلام وعدالة الثورة خيار الشعب"، والتقط شهود عيان أصوات الفتيات وهن يهتفن داخل الزنازين، حيث تم اعتقالهم بأعداد كبيرة، وكن في مقدمة مواكب الاحتجاج، يلهبن الحماس الثوري بالزغاريد والأناشيد الوطنية. فيما اقتحمت قوات ملثمة صحيفة "اليوم التالي" وأخضعتها للتفتيش، واعتقلت عددًا من الصحفيين، وصادرت السلطات أيضًا صحيفة التيار، ومنعت صحيفة "الجريدة" من الصدور بسببت تغطيتها للاحتجاجات المتواصلة منذ نهاية الشهر الماضي، وتم تداول مقاطع فيديو تظهر قناصة يعتلون سيارات من دون لوحات رقمية ويطلقون الرصاص على صدور المتظاهرين العُزًل.

في يوم الجمعة أيضًا، خرجت تظاهرت متفرقة في عدد من ضواحي الخرطوم، وكانت بري أكثر إصرارًا لمواصلة التظاهر، حيث نظم عدد من الأطباء وقفة احتجاجية أمام منزل زميلهم القتيل، وشيع المئات من أبناء بري اثنين من الجثامين، مرددين شعارات تطالب بالثأر لهم، وقد أطلقت الشرطة قنابل الغاز المسيل للدموع ضد المشيعين، بطريقة بدت للكثيرين لا تعبأ بحرمة الموتى. مع ذلك تواصلت الاحتجاجات ودعوات الاعتصام الكبير في ساحات منطقة بري، التي تحاصرها قوات الأمن من كل الجهات، إذ لا يزال الناس يتوافدون عليها، وكانت بداية الاعتصام يوم أمس أمام مستشفى "رويال كير" الذي صعدت منه أرواح القتلى، حيث ظل المئات يهتفون أمام المستشفى إلى عند الفجر، إلى اليوم التالي، حيث اعتصمت الأسر في الشوارع، وأدى المواطنون الصلاة في صفوف متطاولة على أرصفة الشوارع المغلقة، عازمين على الاعتصام، مهما كانت المخاطر.

جاء هذا في وقت دعى فيه تجمع المهنيين السودانيين إلى ما أسماه بجمعة الشهداء، معلنًا عن انطلاق مواكب جديدة هذا الأسبوع، مع دعوات العصيان المدني. وأعلن التجمع الذي يضم أطباء ومهندسين وصحفيين وقوى معارضة عن أداء صلاة الغائب على شهداء انتفاضة السودان، مجددًا في بيان تلقى "ألترا صوت" نسخة منه الدعوة لموكب الشهداء بأم درمان نحو مباني البرلمان، يوم الأحد المقبل، بالتزامن مع تظاهرات بأحياء العاصمة، قائلًا "إن الغضب الذي يلف الشعب السوداني، لو توزعته أركان الأرض لاستحالت لبراكين ثائرة، وذلك لإصرارنا على التمسك بالسلمية في تحقيق مطالبنا، واستماتة السلطات الأمنية لتحويلها لعنف وعنف مضاد"، لافتًا إلى أنهم سيواصلون في الحشد للمواكب السلمية، وسيعملون أيضًا "لفضح ممارسات النظام فهذا ما سيعيننا على المحاسبة وإقامة العدل يوم الحساب القريب" وفقًا للبيان.

مفاصلة جيلية

 فيما دعى حزب الأمة القومي بقيادة الصادق المهدي أيضًا كوادره إلى النزول إلى الشوارع، مشيرًا إلى أن التَمسك بسلمية الثورة وملـئ شوارع الأحياء بالتظاهرات الليلية والحشـود والمواكب في المياديـن والأسـواق لا تراجع عنها البـّتة. من جهته  اتهم حزب المؤتمر الوطني قِلة من "المهنيين" بتلقي أموال من الخارج لتأجيج الأوضاع في السودان، مشيرًا إلى أنه حصل على المعلومات من الأجهزة الأمنية، وأقر الحزب على لسان رئيس القطاع السياسي عبد الرحمن الخضر بوجود مشكلة تعاني منها البلاد، مؤكدًا مسؤوليته عنها، لكنه اعتبر أنه من الظالم تحمليها إليه وحده، وكشف الوطني عما أسماها مفاصلة جيلية تحدث حاليًا ونقاش يدور بين القيادات وأبنائهم حول الأوضاع الراهنة مما يتطلب معالجة سريعة.

أصدرت لجنة أطبّاء السودان المركزية بيانًا، أكدت فيه مقتل اثنين من المتظاهرين السلميين، نتيجة للعنف المفرط الذي استخدمه النظام في مواجهتهم

الرئيس ورجال الدين

في السياق عينه، كشف نائب رئيس هيئة علماء السودان الدكتور عبد الحي يوسف عن تفاصيل لقاء جمعه بالرئيس البشير وعدد من العلماء، وقال عبد الحي إنه اضطر لذكر ما تم في اللقاء عقب تداول صورة تجمعهم بالرئيس، وذكر أنه كتب نصيحة من نقاط معدودة قرأها على البشير ثم سلمت لهُ يدًا بيد، حيث "أكدت للرئيس أن الدين أبقى من الأشخاص فإذا تعارضت مصلحة الدين ومصلحة الأشخاص فليذهب الأشخاص، وأن هذا الشعب محبٌ لدينه راغب فيه مُعَظمٌ لحرماته وما أخرجهم في هذه الأيام المسبغة والجوع والشعور بالظلم والجور"، وأضاف بأن النصيحة الأخرى بينت أن إراقة الدماء حرام وأن الدولة مسؤولة عن كل دم يسفك.

ونبه عبد الحي إلى ضرورة تطييب خواطر الناس بالوعد الصادق وعدم استفزاز المشاعر، محذرًا في الوقت نفسه من قتل الأبرياء وانتهاك الحرمات والاعتداء على الأسر من قبل قوات الأمن والشرطة. فيما اعتبر بعض الدعاة خلال حديثهم في الاجتماع أن حكومة المحاصصة "الحوار الوطني"، هي التي دمرت السودان، ومضى آخرون إلى أنها أنقذت السودان من وضعٍ كارثي.

إدانات دولية

وفي وقت تصاعدت فيه حدة الاحتجاجات، أبدى المجتمع الدولي غضبه حيال القمع الذي تمارسه السلطات السودانية ضد المحتجين، كما نددوا بالاعتقالات التعسفية، وشجب النواب الأوروبيون الخميس، ممارسات الأجهزة الأمنية السودانية، كما عبرت المفوضة السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، عن قلقها الشديد إزاء الاستخدام "المُفرط" للقوة ضد المتظاهرين في السودان. إلا أن روسيا أخذت موقفًا داعمًا للخرطوم، وقالت إن الاحتجاجات المستمرة في السودان شأن داخلي للبلاد، ولا يوجد لمجلس الأمن الدولي تفويض لمناقشة هذا الموضوع في سياق بحث نظام العقوبات ضد الخرطوم، والموقف الروسي كما يبدو يتسق مع التقارب بين حكومة البشير ونظام بشار الأسد، حيث رعت روسيا ذلك التقارب، لاسيما وأن البشير يعتبر أول رئيس عربي اخترق عزلة بشار الأسد، من خلال زيارته المفاجئة إلى دمشق.

وسيط إسرائيل في الخرطوم

ولعل أكثر ما كان لافتًا هبوط طائرة الرئيس التشادي إدريس دبي في مطار الخرطوم فجر الجمعة، دون إعلان مسبق، وهو ما اعتبرته مصادر صحفية بأنه رسالة ربما حملها ديبي من إسرائيل لدعم البشير، لاسيما وأن الرئيس التشادي كان قد زار تل أبيب قبل أسابيع في خطة لتطبيع العلاقة معها وفتح مسارات للتواصل بينها وبين دول أفريقية بينها السودان، مع العلم أن الرئيس التشادي قد توقف بمطار الخرطوم في طريق عودته إلى بلاده، من العاصمة الإثيوبية أديس أبابا.

سياريوهات الأزمات الدولية

دعت مجموعة الأزمات الدولية الولايات المتحدة الأمريكية إلى التدخل في الاحتجاجات المتواصلة في السودان لحقن الدماء التي تهدر. وقالت المجموعة في تقرير لها حول التظاهرات السودانية إن على حكومات الدول الغربية الضغط على نظام البشير لوقف العنف ضد المتظاهرين السلميين. وحدد التقرير بصفة خاصة ضرورة لجم مليشيات الدعم السريع وتحذيرها من تبعات أي عنف تجاه المحتجين، وطالب الحكومات الغربية إما أن تسعى من خلف الكواليس لإقناع البشير بالتنازل عن السلطة، أو لإفهام القيادات الأمنية العليا ممن يحيطون به، أن أية مساعدات أو إلغاء للديون لن تحدث ما دام البشير على سدة الحكم.

اقرأ/ي أيضًا: البشير يقمع سلمية تظاهرات السودان بالرصاص والتخوين​

فيما أوضح التقرير ثلاثة خيارات أمام البشير، وهي "ارتكاب المزيد من المجازر من أجل البقاء في السلطة، مما سيترتب عليه عقوبات دولية، أو أن تؤدي التظاهرات إلى عزل البشير بواسطة الحزب الحاكم، الجيش السوداني أو جهازه الأمني، وسيفضي ذلك إلى واقع سياسي جديد. غير أن أي حكومة جديدة ستجد نفسها في حالة من عدم الاستقرار وربما الاضطرابات، لأن البشير استبدل مؤخرًا كل القيادات وزرع الشقاق والفتن بينها مما سينعكس سلبًا على الحكومة الجديدة"، وفقًا لتقرير الأزمات الدولية.

أبدى المجتمع الدولي غضبه حيال القمع الذي تمارسه السلطات السودانية ضد المحتجين، كما نددوا بالاعتقالات التعسفية

أما السيناريو الثالث، فهو أن يتنازل البشير عن السلطة بشكل سلمي، وهو السيناريو الذي عادت مجموعة الأزمات الدولية واستبعدته بسبب ما أسمته "مخاوف الرئيس من تحميله تبعات كل جرائم الفساد وتسليمه للمحكمة الجنائية"، ورأت المجموعة أن حكم البشير يمكن أن يبقى رغم التظاهرات، مستدركة أنه "إذا تحقق ذلك، فسيكون لقاء استمرار التدهور الاقتصادي وغضب شعبي أكبر ومزيد من التظاهرات وقمع يزداد قسوة". وبدا للبعض أن تقرير مجموعة الأزمات الدولية حول السودان موجه بصورة واضحة لجهة ما داخل الدولة السودانية.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

الشارع السوداني ينتفض ضد الجوع والقمع.. لا شيء لدى السلطة إلا "البوليس"

ضد الغلاء والفساد.. أبرز الاحتجاجات العربية في 2018