28-نوفمبر-2020

تنديد واسع بانتهاك القانون لحرية الصحافة (تويتر)

قبلَ شهرين كانت أولُ مرة يقابل فيها جيرالد دارمانان، وزير الداخلية بعد التعديل الأخير للحكومة الفرنسية، وجهًا لوجه دخولًا اجتماعيًا ساخنًا. وقتها كتبنا متسائلين: "أي سياسة سيدير بها الوزير الجديد الملف الذي أرّق سابقه في الحقيبة كريستوف كاستانير؟"، وأشرنا في معرض الجواب عن عزمه سنّ قانون، "قانون الأمن العام"، الذي يلزم وسائل الإعلام بحجب وجوه رجال الشرطة أثناء تغطيتهم أطوار المظاهرات، وتعتيم هوياتهم أثناء القيام بأعمالهم.

يلزم "قانون الأمن العام" وسائل الإعلام بحجب وجوه رجال الشرطة أثناء تغطيتهم أطوار المظاهرات، وتعتيم هوياتهم أثناء القيام بأعمالهم

القانون ذاته الذي يخلق الحدث في فرنسا هذا الأسبوع، جراء الرفض الشعبي الواسع له، فيما لم يبق للفرنسيين سوى المظاهرات، العوارضُ الاحتجاجية ودعوات مقاطعة، كأوجه للنضال يخوضونه من أجل إجهاضه. على رأسهم الصحفيون الذين رأوا في القانون الجديد مساسًا بحريّة ممارستهم لمهنة "المتاعب". 

اقرأ/ي أيضًا: صحفيو فرنسا.. ضحايا "بزنس" ماكرون ومخاوفه

البندُ المثيرُ للجدل

"يعاقبُ بسنة سجنًا وغرامة 45 ألف يورو مقابل نشر صورة وجه عناصر الشرطة أو الدرك أثناء قيامهم بعمليات ميدانية عبرَ أي وسيلة كانت بما يكتنف ذلك من المسّ بسلامتهم الجسدية والنفسية". هذه الفقرة من البند 24 لقانون الأمن العام هي التي أثارت حفيظة صحفيي فرنسا، حيث يرونَ فيها تكميم أفواهٍ، وسلبًا لحقوق متعهم بها قانون حريّة التعبير منذُ سنة 1881، والذي يقرّ في بنده 35 حقّ نشر صور عناصر جهاز الأمن والجيش بكل أنواعه، في حالة وجود تهم أو خروقات تلاحقهم وجب التعريف بها.

في الواقع، تعودُ جذور طرح هذا القانون إلى ما قبل تولي جيرالد دارمانان حقيبة الداخلية الفرنسية، كامتداد لتقرير برلماني قدّمه نائبان من الأغلبية الحاكمة سنة 2018، يقترحُ الاستمرارية في تدعيم الأمن وإعادة هيكلة مهام قطاعات الأمن، وتنظيم قطاع الأمن الخاص. الاستجابة لهذا التقرير كانت مفترضة خلال أول السنة، غير أن الأزمة الصحية أخرتها إلى منتصف هذا الشهر. فيما، ومنذ تعيين دارمانان على رأس "فندق دو بوفو"، عاد القانون، الذي كان وقتها مشروعًا، أولوية الوزير الجديد، وجوابه على سنتين من الزخم الاحتجاجي في الشارع، سنتين طبعتهما مشاهدُ العنف البوليسي وانتقادات شديدة لطريقة تدخل الشرطة الفرنسية لفض الاعتصامات والمسيرات الاحتجاجية.

دفاعًا عن هذا البند تحت قبّة الجمعية الوطنية، نفى دارمانان كون القانون يمنع الصحفيين، أو غيرهم من المواطنين، من نشر صور رجال الشرطة أو رفعها إلى النيابة العامة. لكن "هل لنا الحق في تعريض رجال الشرطة إلى التشهير أو الدعوة إلى الاغتصاب والقتل؟" يصيح وزير الداخلية، مضيفًا بنفس النبرة:" لا! ولهذا الغرض يجب علينا الإبقاء على البند 24 لحماية من يحمينا!". هذا ونجحت الحكومة الفرنسية في حصد مصادقة أولى على "قانون الأمن العام" داخلَ البرلمان،  مساء الثلاثاء الماضي، 24 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري، بـ 388 صوت كلها من فرق الأغلبية، مقابل 104 ممن عارضوه من فرق الحزب الاشتراكي والشيوعي الفرنسي وفرنسا الأبية، حسب الكشف الذي نشرته بوابة الجمعية العامة. 

الديموقراطية تموت في الظلام

في وجه هذا الواقع نظّمت النقابات الصحفية، والأحزاب اليسارية وحركة السترات الصفراء مسيرات تنديد طوال الأسبوع الماضي، انطلقت في عدد من المدن الفرنسية. وبلافتات تحملُ رسائلَ التحذير من أن "الديموقراطية تموت في الظلام!"، وأخرى تنبه إلى أن حركة "فرنسا إلى الأمام" الحاكمة تقود البلاد نحو الدولة البوليسية، تجمهر عدّة آلاف داخلَ العاصمة يوم الثلاثاء والسبت الماضيين، رافضين تمرير القانون. تجمهرات هي الأخرى لم تسلم من رشق الغاز المسيل للدموع وهراوات رجال الشرطة.

من جانبها اعتبرت نقابات الصحفيين في بيان لها أن هذا القانون "هو التعبير الصريح للمقاربة الزبونية التي تتعامل بها وزارة الداخلية مع الملف"، حيث تتقرب من خلاله إلى نقابة رجال الشرطة، على حساب حرية التعبير وعلى حساب مهنيي الصحافة. كما أكدت على أن هدفه هو التعتيم على جرائم العنف البوليسي، والتي "غالبًا ما يتم طمسها تحت غطاء التراتبية الوظيفية داخل جهاز الأمن". كما أكدت النقابات على أن "حذف القانون هو الجواب الوحيد الذي يمكن أن يوقف تصعيدها الاحتجاجي".

داخلَ البرلمان، دعا النائب جان لوك ميلونشون، زعيم حركة "فرنسا الأبية" اليسارية، إلى إسقاط القانون المذكور، مؤكدًا أنه "لولا ما وصلنا من صور لما كان لدارمانان أن يشهد الأعمال البربرية التي حدثت"، وأن "الداخلية تعي أنها تغذي الوحش!". مضيفًا أنه "من بين شروط ضمان عيشنا الديموقراطي هو إمكانية مراقبة رجال السلطة"، ولهذا يجب تصوير "أولئك الذين ينفذون أوامر رأس الدولة". 

عارضة: لن نعتمد صحفيينا لتغطية الاحتجاجات!

في خضم هذا الرفض، وقعَت مجموعة من وكلات الأنباء وقنوات تلفزية وإذاعية فرنسية، ضمنها وكالة "فرانس بريس" و"لوموند" و "لوفيغارو"، عارضة احتجاجية رفضًا للإجراءات الجديدة التي فرضها دارمنان على الصحفيين. جاء في مستهلّها "إننا كمسؤولي مؤسسات إعلامية قلقون من إصرار وزير الداخلية على المس بحريّة الصحافة خلال تغطية المظاهرات".

ويضيف الموقعون بأن "ضمان حماية الصحفيين من خلال إعلامهم المسبق للشرطة بنوايا نزولهم للعمل" هو ذريعة لـ "مراقبة والتحكم في عمل الصحفي"، تزامنًا مع "الظرفية المقلقة لطرح قانون الأمن العام"، ولهذا " ليس لدينا كصحفيين ما نحتاج لإثباته للشرطة، ولا ننتظر موافقة أحدهم للنزول لمزاولة عملنا"، تقول العارضة. ويعلن أصحابها: "قررنا أننا لن نمنح أي صحفي أوراق اعتماد لتغطية الاحتجاجات!".

هذا وتعرض عدد من الصحفيين إلى اعتداءات من قبل رجال الشرطة أثناء تغطيتهم احتجاجات يوم الثلاثاء الماضي، بينهم صحفيان تم اعتقالهم ووضعهم تحت الحراسة النظرية بتهم عدم الامتثال لأوامر الشرطة بالإخلاء وإخفاء الوجه بلثام. إضافة إلى ستة آخرين تم استهدافهم بالقنابل المسيلة للدموع، الضرب بالعصي، التهديدات بالاعتقال ومنعهم من إتمام عملهم. على هذه الأفعال المنسوبة لرجال الشرطة، كان رد جيرالد دارمنان عند سؤاله عنها: "على الصحفيين إخبار مفوضية الشرطة مسبقًا بنواياهم وأهدافهم التي يغطون المظاهرة من أجلها قبل نزولهم إليها".

ومطالبة بإسقاط قانون الأمن العام، رفعت يوم الجمعة اثنان وأربعون شركة إعلامية رسالة مفتوحة لرئيس الوزراء، جان كاستيكس، نبهوا من خلالها إلى أن ربط التغطية الصحفية للمظاهرات بتهديد سلامة رجال الشرطة، هي "ادعاءات خطيرة" قد تعرض الصحفيين إلى تضييقات كبيرة وتفسح المجال أمام الاعتقالات الاستباقية في حقهم. كما نبهوا إلى خطورة "الكيل بمكيالين" التي يتضمّنها القانون، بتجريمه وتصوير رجال الشرطة، مقابلَ السماح لهم باستعمال واسع لتقنيات التصوير بالطائرات المسيرة، "ما يفتح الباب أمام المراقبة العامة والخفية للمتظاهرين" وملاحقتهم على أساس تلك الصور. 

المجلس الأممي قلق حيال حرية التعبير في فرنسا

لم يظلّ القلق تجاه قانون الأمن العام رهينَ أراضي الجمهورية، بل تعداها ليشغل الرأي العام الدولي، على رأسه مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، الذي عبّر عن تخوّفه من أن "إقرار هذا القانون سيمس بشكل كبير بحقوق الإنسان والحريات الأساسية"، واصفًا مقتضيات القانون بـ "العنيفة". فيما نبّه المجلس الأممي في تقريره إلى أن "تسليح رجال الشرطة بكاميرات متحركة، وعدم تحديد الأطراف التي ستتداول الصور الملتقطة يعد انتهاكًا كبيرًا للخصوصية"، وبذات الشكل هو استعمال الطائرات المسيرة لتصوير التظاهرات وتجميع هويات المتظاهرين "ينتهك الحق في التظاهر".

"كذلك يمثّل هذا القانون مساسًا بحرية التعبير، بما في ذلك حق الصحفيين وعموم المواطنين في الولوج إلى المعلومة"، يضيف التقرير، ويؤكدُ في ختامه على ضرورة توثيق العنف البوليسي، داعيًا إلى تدعيم حماية المجموعات الصحفية، ومحاربة العنف البوليسي كـ "شرط ضروري للديمقراطية".

وجّهت النقابات الصحفية دعوات بالتظاهر مرة أخرى ضدّ هذا القانون، والتي تأتي بعد فشلِ أطوار الحوار الذي جمعها ورئيس الحكومة

هذا وقد وجّهت النقابات الصحفية دعوات بالتظاهر مرة أخرى ضدّ هذا القانون، والتي تأتي بعد فشلِ أطوار الحوار الذي جمعها ورئيس الحكومة، ورفض هذا الأخير الإنصات لنبض الشارع في هذا الصدد. مظاهرات قد تكون مسرحًا لمشاهد عنف جديدة، خاصة في العاصمة باريس التي منعت التظاهرَ خلال اليوم.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

منظمة فرنسية تنشر تسريبات استخبارية عن سلاح باريس في حرب اليمن